الحدث الثقافي
صدر للباحث سعيد بوخليط؛ كتاب جديد، عن منشورات دار خطوط للنشر والتوزيع الأردنية، يمثل حقا إضافة مغايرة لمختلف عناوين منجزه السابقة، لأن العمل الحالي ترجمة لنص سردي، قد نصفه بكونه نموذجا صغيرا ضمن نماذج آداب الرحلة، يوثق لأحداث أساسية عاشها وعاينها، الروائي الفرنسي /الأرجنتيني جوزيف كيسيل؛ خلال سفره سنة 1926، إلى سوريا ولبنان.
كانت الأحداث التراجيدية الرهيبة جدا التي عاشتها سوريا منذ سنة 2011، بمثابة حافز مباغت؛ قصد الاهتمام بهذا النص والتفكير في التحول به إلى الخزانة العربية، ما دامت تأويلات جوزيف كيسيل للمنظومة المجتمعية السورية، بكل تفاصيلها الأنثروبولوجية، ''حدست'' منذ بداية القرن الماضي؛ ولغرابة الأمر! بعيدا جدا، في سماء الأفق ما سيحدث خلال زمننا المعاصر، بل وبكل ضراوته القاسية: "من يفسر لماذا نُقتل ومن يَقْتل؟ في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة، فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا''.
هذه الجملة المكثفة والمركزة جدا، قدر استشرافها البعيد المدى، انطوت عليها إحدى فقرات كتاب جوزيف كيسيل، الذي يعود تاريخه إلى أواسط سنوات العشرينات.
المفارقة المدهشة، رغم قِدم المسافة بعقود طويلة، فبالتأكيد، عبارة ما زالت تنطبق حتى اليوم، ربما تمام الانطباق، بدون مبالغة، على ما تعانيه سوريا: تبلور أعتى مستويات اللا- معقولية، التي يعجز أي ذهن بشري عن استيعابها.
إذن، لما تعاني سوريا ما تكابده؟ لماذا يُقْتل الناس هناك؟ من القاتل؟ ثم أساسا وقبل كل شيء ما دواعي ومبررات القتل؟ حتما، العبقري كيسيل استبق غفلتنا جميعا.
جوزيف كيسيل الروائي الكبير؛ عضو الأكاديمية الفرنسية؛ العسكري خلال الحرب الكونية؛ ضمن صفوف سلاح المدفعية وكذا الطيران. يمثل حقيقة الواحد المتعدد، ثم المتعدد الذي وجد ضالته في الواحد: الروائي طبعا، الرحالة، المغامر، الصحفي، الطيار الذي شارك إلى جانب السلاح الجوي في معارك، ثم المتخصص في الريبورتاجات أو المراسلات الحربية بلغتنا المتداولة حاليا.
بالتأكيد، كما أقرت مختلف اجتهادات المؤرخين، يصعب عموما استيعاب الحاضر دون إحاطة بالماضي، فالمآلات الجنائزية التي يسرع نحوها الوضع العربي، بكل كيانه سياسيا وثقافيا واجتماعيا ومعه سوريا، تعود بأصولها إلى جرائم المنظومة الاستعمارية في حق عقل وجسد وروح وشعور وكيان وطموح شعوب المنطقة.
غير أن ما جسّد بامتياز هذه المعادلة في التحقيق الصحفي ل كيسيل عن سوريا، الذي يعود كما قلت إلى سنة1926، وأضفى على خلاصاته سمة كهنوتية تخمينية جعلت فقرات عمله أقرب إلى إشراقات العرَّافين والمتنبئين، كونه استحضر منذئذ رؤى ألغت تقريبا كل هذه المسافة الزمانية الطويلة، وبدا الراهن كالأمس تماما. المشهد العام نفسه، ثابت لم يتبدل، فقط تغيرت تلك التفاصيل الصغيرة.
تفسير هذه المسألة في غاية البساطة: مبدع بحجم كيسيل، يمتلك ما يكفي من الذكاء والعمق والموسوعية والبصيرة والخبرة الحياتية والحس الإنساني، لا يمكنه حتما سوى أن يكون صاحب حدس مبشر ونذير.