السبت  23 تشرين الثاني 2024

البحث عن الطمأنينة في وضع قلق

فراس حج محمد/ فلسطين

2020-06-09 04:15:14 PM
البحث عن الطمأنينة في وضع قلق
رواية اغتراب

 

أصدر الكاتب والروائي الفلسطيني أسامة المغربي، وهو أسير محرر، روايتين، وهما "العناب المرّ"، وتناول فيها الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وأصدر الرواية الثانية "اغتراب"، ويتناول فيها موضوع القتل بشبهة العمالة أو الخيانة، وما يخلّف من آثار نفسية في أهالي هؤلاء المقتولين.

"اغتراب" رواية مهمة بموضوعها، وإن كانت تقنياتها السردية كلاسيكية، تعتمد البساطة في السرد. ولم يذهب الكاتب فيها نحو التجريب أو المناقشة العميقة للشخصيات من الناحية النفسية، بل كانت الرواية "سرد عن"، أي أنه سرد من الخارج، خارج الشخصيات، وخارج الأحداث، وكان السارد كلي المعرفة يصف ويقصّ، وهو الذي يتحكم بالأحداث واللغة.

يرتبط موضوع "الاغتراب" بالهوية، كما يرتبط بالسلوك الفردي وعلاقة الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها، ليصل الفرد الممسوس بفكرة الاغتراب شخصا وحيدا، شريدا، لا يشعر بالانتماء، ولا تشدّه إلى الآخر الذي ينتمي إليه في الأصل أي رابطة أو يتجاهل هذه الروابط، لذلك يلجأ الشخص الذي يقع تحت تأثير الاغتراب إلى الابتعاد الجغرافي عن المكان الأصلي له، لأنه يريد أن تفارق ذاته (جسدا وعقلا) المكان الذي لم يكن على تصالح معه.

على الرغم من أن الشعور بالاغتراب ليس شرطا فيه الهجرة، بل ربما بقي موجودا ضمن الآخرين، شكلا، لكنه يحاول أن ينأى عنهم، ولا ينخرط في مشاكلهم، ولا يشاركهم ذلك الشعور الذي يجعله واحدا منهم حقيقة، كما قال المتنبي:

ما مقامي بأرض نخلةَ إلا // كمقام المسيح بين اليهودِ

أنا في أمّةٍ تداركها الله // غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ

ولذلك يصاحب الاغتراب شعور بالاشمئزاز والنظر بدونية إلى جماعته التي ينتمي إليها، وربما تطورت مشاعره ليصبح شخصا حاقدا، قد يلجأ إلى تدمير الذات الجماعية التي أصبحت مغايرة له بما يحمله من مشاعر انتقامية حادة. وقد يكون هذا الانتقام فرديا كذلك.

هذا المعنى العام للاغتراب حاول أن يجسده الكاتب أسامة المغربي في رواية حملت هذا المفهوم عنوانا، من خلال معالجته الموضوع روائيا، جعله متجسدا في "حكاية" سعيد عودة الذي قتل والده على يد "الثوار" خلال الانتفاضة، وقد اتّهم ببيع أراض لليهود. إن شعور سعيد بالظلم الواقع على والده وطريقة قتله، وشكّه الدائم المقلق بحقيقة هذا الاتهام، والتشهير به في بيانات أذيعت في مكبرات الصوت، خلق عنده أزمة نفسية، فاعتزل الجميع، أهله وأصدقاءه، ثم فرّ إلى أمريكا، ليحاول النسيان، ليس نسيان واقعة والده فقط، بل نسيان الوطن بكامله.

هذه القضية الجوهرية في الرواية، وأظن أن الروائي نفسه كتب روايته من أجل تسديد دين معين تجاه أولئك الضحايا، كونه ابن تنظيم، ومطلع على "خفايا ثورية"، رأى أن من واجبه الأخلاقي الحديث عنها، فلم تكن الثورة بريئة أحيانا، بل ربما كانت ضحاياها أكثر مما نتصور، وفي كل قرية ومدينة خلّفت كثيرا من "المقتولين ظلما". ولذلك أهدى الكاتب الرواية "إلى الأرواح البريئة.. التي ظلمت باسم الحريّة.. إلى فلسطين". لا يستطيع الدارس أن يتجاوز هذا الإهداء المرتبط بنيويا بالموضوع السردي، فثمة أشخاص قتلوا ظلما تحت مسمى الحرية، ولكن أيضا فلسطين ظلمت تحت مسميات ثورية أو عمليات سلام، ربما أراد الكاتب أن يقول ذلك أيضا.

إذاً، فالقارئ أمام اغتراب معقد؛ اغتراب فردي وجماعي، واغتراب للمكان وفي المكان، واغتراب في الأفكار، لقد عمل الكاتب أسامة المغربي أن يعمّم مفهوم الاغتراب ليشمل كل شيء في وطن سُلب كل شيء فيه وتغيرت ملامحه، وصار جغرافيا أخرى بفعل أسباب كثيرة. فعلى صعيد الاغتراب الفردي لم يكن سعيد عودة وحده الذي يعاني من هذا الشعور القاتل، أو المقضّ للمضجع على أقل تقدير، بل إن مفهوم الاغتراب يمسّ كثيرا أو قليلا شخصيات كثيرة في الرواية غير سعيد، فهناك شباب المخيم الذين اتخذوا لهم ألقابا وتنازلوا عن أسمائهم، لأن تلك الألقاب تمنحهم هيبة ما أو قوة ما أو حصانة ما، إنهم يمارسون اغترابهم اختياريا بوعي كامل مع أنه وعي مزيّف، والأستاذ نادر الصوراني، أستاذ اللغة العربية، المتقاعد، أيضا يشعر بالاغتراب، لذلك تراه منزويا في ركن خاص في مقهى قديم، وغسان إبراهيم المناضل الهارب من الاحتلال ومن أجهزة الأمن الفلسطيني، يشعر باغترابه الخاص، بل يجبر على أن يتصرف وحيدا، مهملا، هامشيا، متخفيا، كما أن العميل مازن الحسن الهارب من أيدي الثوار يعيش اغترابه الموجع، ويعبر عن هذه الحالة بقوله مخاطبا سعيدا: "أتحسب أنني مرتاح. أنا أنتظر الموت، وخائف مما بعد الموت، أنت عندما تعيش في أي مجتمع دون احترام، فأنت ميّت." (ص 215)

لقد تشابكت كل حالات الاغتراب، لتعمق فكرة الاغتراب ذاتها، وليس اغتراب سعيد أو غسان أو مازن أو الأستاذ نادر، كلهم كانوا يعانون بدرجة ما من الاغتراب، وكل واحد منهم له أسبابه التي تجعله ينحاز وحيدا، منفردا عن جماعته العرقية أو طبقته، لذلك لم يشكل أي شخصية من تلك الشخصيات حضورا لافتا سوى سعيد باعتباره فقط مركز الحكاية السردية، وليس باعتباره شخصية رئيسية حسب المفهوم الروائي. فلم يكن سعيد سوى أداة يحركها السارد لتعميق أفكاره التي يريد طرحها، من أجل ذلك تلاشت رويدا رويدا في السرد حالة الشعور بالاغتراب لدى سعيد، ليراها القارئ وقد انتقلت إلى غيره، ثم تمرر إلى غيره وهكذا. بل ربما تخايلت لدى الدارس مفاهيم أخرى مست مفهوم الاغتراب، فالخيانة مثلا صارت نوعا من الاغتراب، وليس فقط سببا فيه، وكذلك التهويد، هو محاولة تغيير معالم الجغرافيا الفلسطينية، وهي بذلك صارت نوعا من الاغتراب، وكذلك الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس غدا داخلا في مفهوم الاغتراب، والحالة السياسية الملتبسة للفلسطيني السياسي ورجل الأمن الفلسطيني يعيشون جميعا حالة اغتراب، فهذا العميد عمر يلخص الحالة التي وصل إليها رجل الأمن الفلسطيني بقوله: "أعمل والكثيرون يشككون في وطنيتي!...، لأنني وضعت في ظروف يصبح فيها أمن المستوطن أهم بكثير من أمن المواطن الفلسطيني، ويصبح أمن المستوطنين فعليا قضية أمن قومي فلسطيني". (ص 175)

كما أن الاغتراب مسّ الجغرافيا كذلك، وصارت بفعل عوامل فلسطينية، وأخرى احتلالية تعاني من اغترابها، وهنا يجب الاحتراس في تطبيق مفهوم الاغتراب؛ فهو ليس بهذه البساطة، ولكن سيكون الأمر مجازيا أكثر منه حقيقيا عند الحديث عن اغتراب المكان، إذ جريا وراء عنوان الرواية سيكون من الجائز إدخال ما تعانيه الجغرافيا الفلسطينية من تغير إلى مفهوم الاغتراب.

تقع أحداث الرواية في مناطق فلسطينية متعددة، وهي على تعددها تنتمي إلى الأقاليم الأربعة المعروفة: المدينة، والقرية، والمخيم، ومناطق احتلال 1948 بما فيها القدس، فكل بيئة من هذه البيئات أصابها التغيّر، فلم تعد كما كانت، فالريف تغير كما تغيرت المدينة، وخاصة رام الله عاصمة المال والقرار السياسي، ولحق التغيير بالمخيم، كما تغيرت مدن الداخل الفلسطيني، وخاصة القدس ويافا، وطرحت الرواية مسألتين غاية في الأهمية؛ مسألة التغير الطبيعي، فلا بد من الإقرار بأن "العالم يتغير ويتجه ليكون متشابها، تختفي فيه الهوية القديمة كتاريخ منسيّ". (ص 169)

ومسألة التغيير الاحتلالي أو بفعل الاحتلال، منه التغير المصاحب للجغرافيا بفعل اتفاقية أوسلو، فتقسمت إلى مناطق ثلاث أ وب وج، واحتلت المستوطنات بوصفها علامات تغير واغتراب احتلالي قوي في مناطق احتلال عام 1967، فصارت بؤرا مغايرة لما حولها من جغرافيا، وخاصة بالنسبة للمناطق الريفية، فصار الاغتراب فيها يؤشر إلى اغتراب المكان عن أصله. وطالت مظاهر التهويد القدس ويافا، ليس فقط بالأسماء التي أصبحت عبرية، بل أيضا بطبيعة السكان الأغراب/ اليهود الذين احتلوها، وصار أهلها الذين بقوا فيها أغرابا يعانون من الاغتراب أيضا.

أما مدينة رام الله فأصابها التغيير والتبديل، وحل محل الصورة القديمة للمدينة صورة مختلفة بسبب مآلات الاتفاق السياسي، فصارت تلك "التطورات تأخذ هوية رام الحقيقية بعيدا،...، إنها جميلة تلك البنايات الرخامية والزجاجية، ولكن جمالها قاسٍ، لا يعبر عن هويتنا، إنها تخفي صور البؤس الحقيقي." (ص 157)

إن الأمر بهذا المفهوم من التغير والتبدل المفضي إلى الاغتراب غير بعيد عما آل إليه المخيم، عدا أن المخيم في أصل نشأته وظروف تلك النشأة يشير إلى اغتراب سكانه بفعل هجرتهم القسرية عن وطنهم، مدنهم وقراهم، فهو "مشهد دخيل"، ولكنه أيضا لم يبق كما هو حالة نضالية نقية، وإنما صار يغصّ بالهاربين من العدالة، وفيه تجار السلاح والمخدرات، ليزداد اغترابا عن أصله، ليعاني اغترابين معقدين، فكان من المنطقي أن يسأل سعيد نفسه هذا السؤال: "لماذا يجب أن يظل المخيم ذلك الغريب؟" (ص 126)، بل ويصارح العدوي، أحد أبناء المخيم، بقوله: "الحقيقة كلما تعمقت في المخيم وجدتني لا أفهمه". (ص 128)

هل بقي يعاني سعيد من حالة اغترابه بعد السفر إلى أمريكا مرة أخرى، لاسيما وقد اكتشف حقيقة مقتل والده ظلما، بفعل اغتراب عميل عن قيم المجتمع الذي يعيش فيه، ومن العار أن يخون؟

ربما تحول المفهوم في نهاية السرد من مفهوم الاغتراب المشار إليه أعلاه إلى مجرد غربة، لما أصبح عليه شعور سعيد بعد ذلك، ويصل إلى التصالح مع نفسه ليعود شخصا طبيعيا، يشعر بالغربة لأول مرة في بلاد أخرى، فـ "لم يكن لاجئا يهرب من مأساته إلى فضاء يفصله عن وطنه آلاف الأميال ومحيط مائي هو الأكبر في العالم. هذه المرة نزل بهويته ومشاعره الحقيقة". (ص 231-232) مع بقاء فلسطين المشار إليها في الإهداء تعاني من الاغتراب التي شبهها بالأندلس، وبقيت رام الله وأريحا ونابلس تعاني من اغترابها، وظل المخيم يشكل حالة ملتبسة من الاغتراب إلى الحد الذي "يغني أعراسه بالعبرية." (ص 234)

تؤكد الرواية أهمية المواجهة للتخلص من حالة الاغتراب التي يعيشها الأشخاص، كما فعل سعيد نفسه، وتابع التحقق من اتهام والده، ليعلن شهيدا من التنظيم الذي أعلنه خائنا وعميلا. وكما فعل المطارد غسان؛ فلم يحتمل أن يظل مختفيا، فواجه الاحتلال ليموت شهيدا، ويعلن عن فك حالة اغترابه والتباسه، مع أنه كان مطلوبا لرجال الأمن الفلسطينيين كما هو مطلوب لقوات الاحتلال، فاختار الاشتباك مع الاحتلال، فهو السبب الرئيسي لحالته. ربما أشارت حالتا فك الاغتراب الشخصي هاتان إلى ما هو مطلوب من الفلسطينيين لفك حالة الاغتراب السياسية التي أوصلتهم إياها الاتفاقيات السياسية، وحتى لا تنزلق إلى النسيان، وتصبح فلسطين الأندلس جديدة.

كما أن هذه المواجهة لم تغب عن عمل جين أيضا، صديقة سعيد أحمد عودة الأمريكية، فقد كانت من زاوية أخرى، حسب تفسير علم الاجتماع وعلم النفس تعمل على ضرورة مواجهة مشاكل الإجرام، وأثرها في أسر المجرمين، ولا شك في أن الجناة في أي مجتمع لم يخلقوا جناة أو مجرمين، بل كانت هناك أسباب تدفعهم لأن يفعلوا ما فعلوا، وربما كان الاغتراب وما يصاحبه من مشاعر النقمة واليأس من المجتمع هو الدافع لفعل الإجرام، على الرغم من أن الرواية لم تعطه حقه من السرد، ليشكل ضدا أو وجها آخر للاغتراب في المجتمعات المستقرة غير المحتلة. فالاغتراب مشكلة اجتماعية نفسية لها دوافع كثيرة، ولا ترتبط فقط بشخصيات تعيش تحت الاحتلال. فهناك قلق أيضا في تلك المجتمعات، وعندما يعجز الفرد عن التصالح مع المجتمع تبدأ المشكلة، فتكون أولا فردية، وتنتهي مشكلة اجتماعية كما أشار تقرير جين ونتائج فريقها.

ربما وجد الدارس تقاطعا بين عالم الجريمة في أمريكا وعمليات قتل المشتبه بهم لارتباطهم مع الاحتلال في دائرة الأثر الذي تخلفه تلك الجرائم والعمليات في الأسر، فقد أضاءت الرواية جانبا من تلك الآثار النفسية السلبية في أسرة سعيد عودة، وفي أسر الجناة والمجرمين في أمريكا.