الحدث الثقافي- أحمد أبو ليلى
إذا كنت كقارئ مهتمًا بالتصوف اليهودي وبجمهورية فايمار وعلاقتها بالصهيوينة، أو إذا كنت تبحث عن تاريخ اجتماعي يساري للحداثة الفرنسية؛ أو إذا كنت تريد وصفًا دقيقًا للإمكانات السياسة داخل فيلم ما؛ أو إذا كنت ترغب في تأريخ ماركسي راديكالي - فبلا شك فإن ذلك يعني أنك مهتم بفالتر بنيامين. ومؤخراً صدر كتاب ملفات بنيامين "The Benjamin Files" للكاتب فريدريك جيمسون Fredric Jameson، والأخير هو عميد الماركسيين الأمريكيين، ارتبط سيطه بكتابه الأشهر "ما بعد الحداثة: المنطق الثفافي للرأسمالية المتأخرة"، والذي تضمن فصولا مهمة عن الثقافة، والأيديولوجيا، والهندسة المعمارية، والفضاء، والنظرية، والاقتصاد، والسينما. ويتطابق أحد مجالات خبرة جيمسون الرئيسية في الأدب الفرنسي (والثقافة والتاريخ) في القرن التاسع عشر - مع اهتمام بنيامين الرئيسي في الثلاثينيات. أضف إلى ذلك، المعرفة العميقة بتاريخ الماركسية والسياسة المصاحبة لها، بالإضافة إلى خبرته في الفلسفة. كما أن اهتمامه الكبير بالثقافة الشعبية واستهلاكها يوازي الدوافع التي كانت عند بنيامين لهذا الاهتمام المشابه.
يُقدم كتاب "ملفات بنيامين" قراءة جديدة شاملة لجميع أعمال بنيامين الرئيسية وعددًا كبيرًا من مراجعات كتاباته القصيرة وملاحظاته ورسائله. فرضية الكتاب الأساسية مبنية على أن بنيامين كان معادياً للفلسفة ومعاديا للنسقية. يشرح كتاب "ملفات بنيامين" كل شيء بالرجوع إلى كل شيء آخر وبطريقة تجعل سردية النص غير قابلة للاختراق في كثير من الأحيان، ففي وصفه لتحليل فالتر بنيامين الأسلوبي لتشارلز بودلير على سبيل المثال، يقول جيمسون:
"لقد اعترفت جميع التفسيرات العظيمة لما يسمى بـ "دراسات الأسلوب" دائمًا بالولاء السري لمنطق الجستوس* (إذ أفكر مرة أخرى في سبيتزر، أو في مقالات سارتر الأدبية، حيث كان أسلوب فوكنر أو دوس باسوس، و الغريب لكامو ، يتم التعامل معها على أنها تمثل أعمالا ميتافيزيقية)" (J29).
من المفاجآت البارزة في الكتاب هي تلك القراءة المعمقة والاحتفاء بمقال قصير جداً- عبارة عن مقال صحفي- بعنوان "خاتمة لمعرض برلين للأغذية"، والذي تبرز فيه قوى بنيامين الحادة في التفسير والتحليل. ويلاحظ جيمسون هنا كيف أن بنيامين "يسلك طريقًا من الاستقبال عبر السياسة إلى نهاية العالم في المقالات القصيرة التي يبنيها بحماسة كبيرة وبسرور كتابي فيه طاقاته الخاصة التي تتعارض تمامًا مع موضوعه الظاهري."
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يقدم جيمسون وصفاً لـ "أطروحات في فلسفة التاريخ" لبنيامين والمؤلفة من 11 صفحة. وبحسب جيمسون فإن بنيامين يميز في المقال بين التاريخية والمادية التاريخية. وفي حين يسعى المؤرخون إلى فهم الماضي وفقًا لشروطه الخاصة، يطمح المادي التاريخي إلى رؤية الماضي من خلال الظروف المادية للحاضر. يؤدي هذا إلى توصيف بنيامين الشهير للكنوز الثقافية: "لا توجد وثيقة حضارة ليست في نفس الوقت وثيقة بربرية" (B 256). وبينا يتعاطف المؤرخون مع المنتصرين، فإن هذا المنظور هو منظور يرفضه المادي التاريخي برفضه لمفهوم التاريخ باعتباره مسارًا خطيًا يؤدي إلى الحاضر. ومن هنا تأتي أهمية اللوحة الشهيرة لبول كلي "الملاك الجديد"، "Angelus Novus" ، والتي اشتراها بنيامين في عام 1920 وناقشها في هذا المقال حيث سنرى العلاقة بين ماركسية بنيامين وفكره اللاهوتي.
* "الجستوس Gestus"، هو مصطلح ينتمى إلى أدبيات "بريخت" و هو الذي ابتكره بالإشتقاق من الكلمة الألمانية Geste التي تعادل في الإنجليزية Gesture و تعنيان الإشارة أو الإيماءة و لكن "الجستوس" كما يشرحه "بريخت" يتجاوز هذا المعنى الضيق ليتخذ بعداً إجتماعياً بحيث يمكن اعتباره لفتة اجتماعية أو إيماءة اجتماعية و هو ما يعنى أن أداء الممثل في مسرح "بريخت" يأخذ على عاتقه مهمة إظهار الموقف الإجتماعى لهذا الممثل عاكساً وجهة نظره من الحياة.