الأحد  22 كانون الأول 2024

كل ما هو صلب يتحول إلى أثير: تجربة الحداثة وحداثة التخلف

2021-09-22 01:59:11 PM
كل ما هو صلب يتحول إلى أثير: تجربة الحداثة وحداثة التخلف
كتاب كل ما هو صلب يتحول إلى أثير

الحدث الثقافي

في هذا الكتاب الجميل والممتع، والذي استقبل بسيل واسع من المديح فور صدوره في الولايات المتحدة الأمريكية، يقوم الكاتب مارشال بيرمن بعملية استكشاف لخارطة وعي الحداثة والوعي التحديث،  فتجربة التحديث Modernization. تلك التغيرات الاجتماعية المدوخة الصاعقة التي جرت ملايين البشر إلى قلب العالم الرأسمالي والحداثة Modernism في الفن والأدب وفن العمارة، لم يسبق لها أن توحدت واندمجت بمثل هذه الجودة في سياق واحد.

يؤكد بيرمن على أن أنواعاً معينة من الرد هي الأكثر ملاءمة للثورة الدائمة التي تقوم عليها الحياة الحديثة. وهذه الأنواع المعينة من الرد تتجلى بأقوى أشكالها في مؤلفات وأعمال الفنانين المسكونين بذلك القلق والخطر اللذين يعمران عالما "كل ما هو صلب فيه يتبدد ويتحول إلى أثير"، كما قال ماركس في عبارته الشهيرة.

إن غوته وماركس، وبودلير ودوستويفسكي، مع الكثير من الكتاب الآخرين هم الذين يجري استحضارهم في الكتاب. أما الموقع المركزي الذي تحتله تجربة نشوء المدن والمراكز الحضرية فيضمن للمدن نفسها، لمهندسيها ومدمريها على حد سواء، أدوراً رئيسية في الدراما.

فباريس بودلير وهاوسمان، وبطرسبرغ القياصرة البناة وبوشكين والفنانين المبدعين، ونيويورك الخرائب المدمرة، بشوارعها بالذات، مسجلة ومصورة مع تقديم كل ما فيها من تنوع وفوضى.

قدم مارشال بيرمن إسهاما رائعا للنضال في سبيل "تمكيننا من الإحساس بأننا في مسقط رأسنا، البيوت، التي أقمناها، والشوارع الحديثة جنبا إلى جنب مع روح الحداثة، تتعرض للتبدد والتحول إلى أثير بصورة مستمرة.

الكتاب الصادر عن دار كنعان في دمشق هو بترجمة لفاضل جكتر، وبتقديم من فيصل دراج تحت عنوان "ما بعد الحداثة في عالم بلا حداثة". وهو يقع في خمسة فصول وفي 536 صفحة.

في الفصل الأول يعيد بيرمان تأويل مسرحية فاوست الشهيرة لغوته والتي يصفها بوشكين بإلياذة الحياة الحديثة، ويكشف فيها عن ما يسميه تراجيديا التنمية والتطور عند فاوست، فأكثر الأفكار أصالةً عند فاوست غوته الفكرة التي تقول بوجود علاقة حميمة بين المثال الثقافي للتطور الذاتي وبين الحركة الاجتماعية الفعلية باتجاه التنمية الاقتصادية، وتكمن بطولة فاوست غوته في تحرير طاقات بشرية هائلة ومكبوتة، ليس في ذاته فقط بل في جميع من يتصل بهم، غير أن هذه التطورات التي يطلقها على جميع الأصعدة الفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية يتبين له أنها تتطلب أثماناً بشرية هائلة.

وفي الفصل الثاني يتحدث المؤلف عن ماركس لا باعتباره “الماركسي” الأول، بل ماركس باعتباره حداثياً قبل كل شيء. في “رأس المال” يرى كارل ماركس أنه لابد للشيوعية من أن تتجاوز تقسيم العمل البرجوازي وتتفوق عليه “لابد من استبدال –يقول ماركس- الفرد المتطور جزئياً، الفرد المكتفي بأداء دور جماعي متخصص واحد، بفرد كامل التطور، فرد مستعد لمواجهة أي تغير في الإنتاج، فرد لا تكون سائر الوظائف الاجتماعية المختلفة التي يقوم بها بالنسبة له سوى أنماط متعددة من توفير المدى الحرّ لقواه الطبيعية والمكتسبة” يرصد بيرمان هنا التمثّل الحداثي في هذه الرؤية الشيوعية، من حيث فرديتها أولاً، وثانياً من حيث نموذجها المثالي للتطور بوصفه الشكل الأسمى للحياة الطيبة، فماركس -كما يعتقد بيرمان- هنا أقرب إلى بعض أعدائه البرجوازيين والليبرالين من الدعاة التقليدين للشيوعية منذ أفلاطون إلى آباء الكنيسة، الذين انتقدوا النزعة الفردية وأشادوا بنكران الذات. ويؤكد بيرمان على تحليل حنا ارندت التي كتبت عن أن المشكلة الحقيقة في فكر ماركس لا تكمن في وجود نزعة مرجعية تسلطية هائلة كما هو شائع، بل على النقيض تماماً من ذلك تكمن المشكلة الماركسية في غياب أي سلطة أو تسلط على الإطلاق، فماركس تنبأ فرحاً بـ”زوال وتلاشي مملكة القطاع العام في ظل ظروف التطور غير المقيد لقوى المجتمع المنتجة”، وهنا تمثُل أمامنا مرة أخرى النزعة الفردية “الحداثية” الكامنة في صلب شيوعية ماركس، يقول بيرمان:”إن الإشكالية التي يعاني منها فكر ماركس يتضح أنها إشكالية تخترق بنية الحياة الحديثة نفسها كلها“. وهكذا يواصل المؤلف كشف “حداثية” ماركس القابعة خلف ستائر النقاشات الاقتصادية الصارمة، في فصل من أمتع فصول الكتاب في رأيي.

وفي الفصل الثالث ينتقل المؤلف للحديث عن بودلير الشاعر الفرنسي، وهو “الحداثي الأول” كما يقول المؤلف بلا تردد. ويعرض في هذا الفصل –المعنون بالحداثة في الشوارع- الاحتفالات الغنائية بالحياة الحديثة، وأنماط شجب الحداثة عند بودلير، ويحاول في تحليل مستفيض تفكيك وتركيب هذه التناقضات الداخلية المستمرة بين “الهيام بالحداثة” و”اليأس الثقافي” في العالم الحديث.

وفي الفصل الرابع يتحدث عن بطرسبرغ المدينة الروسية، عبر رصد تحولاتها في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتأثيرات ابتكارها كمدينة حداثية في وسط مجتمع “متخلف”، وذلك بتوسط تأملات كثيفة لقصيدة بوشكين “الفارس البرونزي”، وروايات غوغول  وديستوفسكي وكتابات تشيرنيشفسكي وقصائد أوسيب ماندلشتام.

ثم يكرس المؤلف الفصل الأخير للحديث عن مدينته نيويورك، والتحديثات التي أجريت على واقعها المعماري في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد اتسم هذا الفصل بقدر من الذاتية والحماسة الحميمية لأطلال نيويورك المزالة بسبب المخططات المعمارية الحديثة. إن قدر كل ما هو صلب –كما يقول بيرمان- في الحياة الحديثة أن يذوب ويتحول إلى أثير “فالمحرك الداخلي للاقتصاد الحديث وللثقافة التي تنبثق من هذا الاقتصاد يعدم كل ما يبدعه من بيئات مادية، ومؤسسات اجتماعية، وأفكار ميتافيزيقية، ورؤى فنية، وقيم أخلاقية، وذلك في سبيل الاستمرار اللانهائي في عملية خلق العالم من جديد. وهذه الاندفاعة تجرّ أبناء الحداثة وبناتها إلى فلكها، وتجبرنا جميعاً على اقتحام مسألة اكتشاف ما هو أساسي، وذو معنى، وما هو حقيقي وواقعي في الدوامة التي نعيش فيها ونتحرك”، ويواصل بالقول “أن تكون حداثياً يعني أن تمارس الحياة الشخصية والاجتماعية كما لو كنت في دوامة، أن تجد عالمك وذاتك في حالة دائمة من التفكك والتحلل والتجدد، من الألم والمعاناة والصعوبات، من الغموض والتناقض”.