الأحد  22 كانون الأول 2024

ندوة "تشكل الهويات ونزاعاتها في السياقات الكولونيالية"

2021-10-11 10:49:30 AM
ندوة
منير السعيداني خلال الندوة

الحدث الثقافي

عقد مركز الأبحاث الفلسطيني وبالتعاون مع مركز خليل السكاكيني ندوةً حوارية بعنوان: "تشكل الهويات ونزاعاتها في السياقات الكولونيالية"، قدمها د. منير السعيداني، وحاوره د. أباهر السقا.

وتأتي الندوة نظراً لما شهدته العقود الأخيرة من تصاعد في سؤال الهوية وارتباطه بمشروع التحرر الوطني الفلسطيني، فشكلت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدولية والإقليمية والمحلية تحدياً لسؤال الهوية الوطنية، كما أثرت سياسات الاحتلال سلباً على بناء واستجابة الهوية لتحدياتها.

من هنا، يطرح مركزا الأبحاث الفلسطيني وخليل السكاكيني الثقافي سؤال الهوية في نطاقه الاستعماري العريض، ويحاول التصدي لأشكلة الهوية من النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وفيما يلي النص الحرفي لمداخلة دكتور منير السعيداني:

سأبدأ ببعض التوضيحات المفاهيمية ومن ثم انتقل أسباب منطق اختياري للعنوان ثم أطرح أربعة أفكار أساسية.

السياق الذي يمكن أن نطرح فيه هذا الإشكال/ أراد تفيد فكرة أولى وهي أن قضية الهوية لا تهم إلا الدول العالم ثالثية، أو المجتمعات التي تسمى عادة متخلفة أو غير متقدمة وهذه فكرة خاطئة لأننا عادةً كلما فكرنا في علاقة الدولة بالمجتمع أو علاقة المجتمع بثقافته أو ثقافاته أو كلما فكرنا في تنضيد المجموعات الاجتماعية أو تركيب المجموعات الاجتماعية لمجتمع ما كلما نفكر في الهوية. وبإمكاننا أن نرى أن هذا الإشكال مطروح في فرنسا بشكل كبير وفي كندا ومطروح حتى في الولايات المتحدة، وطبعا بمداخل مختلفة. مجتمعات الهجرة في الولايات المتحدة وكندا تطرح الهجرة بشكل خاص، المجتمعات المستقرة والتي تطرح على أنها مستقرة مثل فرنسا أيضا تطرح الإشكال بطريقة معينة وهكذا الأمر بالنسبة للكثير من الدول. بالتالي، فنحن أمام إشكال يطرح بطرق مختلفة في مجتمعات مختلفة ولكنه موجود في كل سياق.

ثانياً، الفكرة الثانية التي أريد التركيز عليها، هي أنه مهما كانت الوضعية أو مهما كان السياق الذي نطرح فيه هذا الإشكال فإننا بالضرورة نطرحه في سياق ما بعد كولونيالي أو ما بعد استعماري. لأن هذا السياق الذي يسمى ما بعد الاستعماري لا يهم البلدان التي ما كانت قبله واقعة في وضع كولونيالي بل هو أيضا مكون للعالم الحديث والعالم المعاصر حتى في البلدان التي كانت قبل استعمارية بالمعنى المباشر للكلمة. بهذا المعنى فإن فرنسا هي بلد ما بعد كولونيالي، إذ لا يمكن أن نفهم الأوضاع في فرنسا إن لم نأخذ بعين الاعتبار كان قبل كولونيالياً وهو بلد الآن ما بعد كولونيالي. فالتشكيل القومي الأوروبي بحد ذاته، هو سياق ما بعد كولونيالي، لا يمكن تصور التشكيل الأوروبي الحالي من دون العودة إلى واقع الحرب العالمية الثانية، الذي حسم بطريقة ما الصراعات التي كانت تدور ما بين البلدان الاستعمارية. هكذا كان الأمر بالنسبة لأفريقيا، وهكذا هو الأمر بالنسبة لآسيا وبالنسبة للعديد من المناطق الأخرى. إذا أود من ذلك أن أؤكد على فكرة أن السياق ما بعد الكولونيالي الذي نعيش فيه الآن هو سياق عالمي وسياق دولي.

الآن بعد توضيح هاتين الفكرتين الأوليين، أود التركيز على الفكرة الثانية، وهي محاولة تبرير المفاهيم التي استخدمتها في العنوان. العنوان هو: "تشكل الهويات ونزاعاتها في السياقات الكولونيالية". أولا: التشكل: بشكل عام هنالك نظرتان لتشكل الهوية؛ هنالك نظرة التي يمكن أن نعتبرها جوهرانية التي تعتبر أن هويات المجتمعات أو هويات الشعوب أو هويات المجموعات الاجتماعية مهما كان حجمها قائمة وثابتة وذات عناصر مستقرة وتواصل حياتها مهما كانت عوادي الزمن بنفس المكونات تقريبا. هذه النظرة أسميتها جوهرانية أي أنها ترى في الهوية جوهرا عابرا للتاريخ وعابرا للفترات التاريخية وعابرا للتحولات الاجتماعية. وبصفة عامة فإن العلوم الاجتماعية قد تجاوزت هذه النظرة الأولى، وهذا التحليل الأول إلى تحليل آخر أكثر مرونة يعتبر أن الهوية تتشكل وينخرم تشكلها ويعاد تشكلها من جديد وهكذا دواليك. إذا نحن إزاء هوية في المعنى الدينامي أو في المعنى المتحرك للكلمة وهناك بطبيعة الحال أحداث كبرى يمكن أن تؤثر في تشكيل هوية مجموعة ما وهذه الأحداث الكبرى يمكن أن تكون حروبا كما يمكن أن تكون تجارب استعمارية كما يمكن أن تكون تحولات اجتماعية كبرى في أنماط إنتاج الخيرات وأنماط توزيعها ويمكن أن تكون أحداثاً كبرى من حيث شكل النظام السياسي إلى آخره. وهنالك جانب آخر يكون أكثر خفية في التشكل والانخرام وإعادة التشكل، وهو ما يحدث بشكل غير مرئي تقريبا لأنه يعتمد التحولات البطيئة جداً التي يمكن أن تطرأ على نمط عيش مجموعة ما. أنا أريد أن أبرز هنا أنني أستخدم مفهوم نمط العيش، وهو مفهوم مشترك بين الجغرافيين وما بين الأنثروبولوجين وما بين علماء الاجتماع، وهي يدل على نمط إنتاج الثروة وكيفية توزيعها وما يترتب على ذلك من استخدام لهذه الثروة وكيفية توزيعها وكيفية استغلالها والممارسات الثقافية التي تتعلق بها. بصفة عامة، أريد أن أؤكد على أننا إزاء نظرة تميل أكثر إلى التاريخية وتميل أكثر إلى الدينامية وتميل أكثر إلى اعتبار التحولات في الهوية. بطبيعة الحال، علينا أن ننتبه أيضا إلى أننا لن نعثر على تحولات في تشكل الهويات في إعادة تشكلها إلا على امتدادات زمنية كبرى. يمكن مثلاً من منظور ماركسي أن نعتبر أنها تحولات في أنماط الإنتاج. كلنا يعلم أن في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي للمجتمعات يمكن لنمط إنتاج ما أن يستمر لمئات السنين تحدث فيه تغيرات وتحولات ولكنه يحافظ على بنيانه الأكبر.

إذا أولا أنا أميل إلى أن أتعامل مع قضايا الهوية على أساس هذه المفاهيم المترابطة: "تشكل، إنخرام، إعادة تشكل" وهذه عملية مستمرة في التاريخ.

المفهوم الثاني الذي استخدمته في العنوان هو مفهوم "الهويات" وأنا تعمدت أن أضع الهويات في صيغة الجمع. عادة وتناسبا مع النسبية التي يظهرها مفهوم التشكل نحن نميل، وأنا على الأقل أميل، إلى اعتبار أن الهوية دائما في تعددها. حتى الهويات التي تظهر أنها واحدة أو موحدة أو فريدة في تميزها بالنسبة للهويات الأخرى هي تحمل في ذاتها هويات أخرى. إذا بإمكاننا أن نتحدث هنا مثلا عن تراكب وتداخل للهوية الجمعية لجماعة اجتماعية ما أو لشعب ما أو داخل مجموعات اجتماعية متحدة رغم اختلافاتها، ولكن داخل هذه الهوية الواحدة هنالك تراكب للهويات الفرعية. هذه الهويات الفرعية يمكن أن تكون مشتركة مع الهويات الفرعية الأخرى في بعض الخصائص ولكنها لا تشترك معها في خصائص أخرى. داخل بلد واحد بإمكاننا أن نبين أن هنالك طبقات بالمعنى الماركسي للكلمة وهنالك نوع من التشكل الهوياتي الخاص بالطبقات، ولكن بإمكاننا أيضا من منظور أفقي إن أردنا – المنظور الطبقي منظور تنظيري عامودي- ولكن في المستوى الأفقي بإمكاننا أن نتحدث عن هويات فرعية ترتبط ببعض الجهات ترتبط ببعض المناطق ترتبط بأنشطة اقتصادية محددة، وترتبط بالتراث المادي والتراث اللامادي الذي يرتبط بالخصائص الطبيعية وكيفية استغلالها بالنسبة لتلك الجماعة. وهنا أعود مرة أخرى إلى مفهوم "نمط العيش"، بإمكاننا أن نتحدث عن مجتمعات محلية داخل المجتمع الكلي: مجتمعات محلية جبلية، مجتمعات محلية زراعية، مجتمعات الصيادين، وهكذا هو الأمر. وعندما أقول مجتمعات الصيادين مثلا، يعني ذلك أن الثروة الرئيسية في ذلك المجتمع المحلي تأتي من التعاطي مع البحر. وهذا له استتباعات حتى في نوعيات الأكل، الاحتفالات بتلك النوعيات، وما الذي يمكن أن يترتب على ذلك أيضا من ممارسات ثقافية؛ الاحتفالات الثقافية التي ترتبط مثلاً بمواسم السمك وبمواسم الصيد، وهكذا هو الأمر. طبعا هذا الذي كنت أتحدث فيه لن نجده في مجتمع جبلي يعتمد نمط عيش آخر وممارسات ثقافية أخرى. إذا أنا أقترح دائما أن نفكر في الهوية بمعناها التراكبي.

المفهوم الثالث الذي استخدمته في العنوان وهو: "النزاعات". يعني بطبيعة الحال أنني كنت في صدد بيان أن الهوية الجمعية الواحدة يمكن أن تحوي داخلها هويات جمعية ولكنها أقل حجماً، وأسميتها هويات فرعية. ولكن علينا أن ننتبه أيضا إلى أن العلاقات ما بين الهويات الفرعية ليست دائما علاقات سلمية، وليست دائما علاقات توافقية، ويمكن أن تكون علاقات نزاعية ويمكن أن يكون التناقض ما بين هذه المجموعات مطلقا لجملة من النزاعات المجتمعية. هذه النزاعات يمكن أن تنطلق من صراعات اقتصادية، كما يمكن أن تنطلق من صراعات سياسية، كما يمكن أن تنطلق من اختلاف نمط العيش. بطبيعة الحال علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن كل هذا يمكن أن يحدث في سياق المجتمعات التي تسمى عادة المجتمعات بسيطة التركيب إلخ، ويمكن أن نجد فيها كل تلك الممارسات التي كانت تعتمد الاستحواذ على المقدرات المادية بالقوة عن طريق الغزو مثلا إلخ، ولكن بالإمكان أيضا أن نعتبر أن الصراع حول الموارد المادية التي عليها تتأسس الحياة، هي أيضا من النزاعات التي يمكن أن تؤثر في النزاعات الهوياتية. إذا كل تشكل وإعادة تشكل للهويات الفرعية في تمفصلاتها وفي تركيبها يمكن أن يؤثر في إعادة تنضيد عناصر الهوية. لنأخذ مثلاً، أننا الآن بصدد الحديث عن هويات يمكن أن تكون من بين أسسها عناصر ثقافية أن يكون الدين عنصرا ثقافيا مشكلا ومكونا للهوية. فلنعد مثلاً، قرونا إلى الوراء لنرى أن المجتمع العربي، أو ما يمكن تسميته بالمجتمع العربي حينها، وحين ظهرت فيه الدعوة الإسلامية، تحولت عناصر الهوية فيه وركبت من جديد. هذا مثال من أمثلة إعادة تشكيل الهوية. وبطبيعة الحال، لم يكن الأمر دينيا ثقافيا فحسب بل كانت له تبعات في المستوى السياسية وفي مستوى الممارسات التي يتم فيها إنتاج الثروة، وأيضا على مستوى الممارسات التي يتم فيها إنتاج القيم الاجتماعية. لا فقط في المعنى الديني، وإنما أيضاً في المعنى السلوكي والأخلاقي، إلخ. ومرة أخرى نلاحظ العمق الذي يمكن أن نصل إليه عندما نستخدم مفاهيم تفصيلية للمفهوم الأساسي الذي مررت به منذ حين وهو مفهوم "نمط العيش". في هذا المثال الذي كنت أستعرض بعض وجوهه الكبرى هناك إعادة تشكيل للهوية، وبطبيعة الحال في إعادة التشكيل هذه هناك قوى اجتماعية بإمكانها أن تستفيد أو أن تكون مستفيدة وقوى أخرى يمكن لا تكون مستفيدة بل يمكن أن تكون متضررة.

إذا ما تطبقنا هذا الذي كنا نتحدث فيه في قضايا النزاع أو نزاعات الهويات على ما أسميته سياقاً كولونياليا يمكن أن نضرب أمثلة أخرى، ولكن قبل ضرب هذه الأمثلة أود أن أوضح ثلاثة توضيحات حول ما أسميه السياقات الكولونيالية.

مرة أخرى أدعوكم لملاحظة أنني استخدمت السياقات الكولونيالية في الجمع وليس المفرد، لأنني أعتبر أن هنالك سياقات كولونيالية، سياقات استعمارية (وأنا أقرب لهذا الاستعمال الذي اقترحه الدكتور أباهر) إذا سياقات لماذا؟ لأن الظاهرة الاستعمارية هي ظاهرة مركبة وظاهرة تاريخية ممتدة في الزمن- وسأعود لبعض المحطات التاريخية- ولذلك فإنها في كليتها وفي تراكمها هذا تنتج وبإمكانها أن تنتج سياقات مختلفة. مثلاً، هنالك فكرة بسيطة يمكن أن نعبر بها عن هذه السياقات، هناك فارق ما بين السياقات الاستعمارية في بدايتها فلنقل مثلاً منذ غزو أمريكا التي كانت في بدايتها السيطرة فيها برتغالية اسبانية وبين المرحلة الأكثر حداثة للسياق الاستعماري التي كانت فيها السيطرة لإمبراطوريات أخرى: الفرنسية والإنجليزية، وهكذا هو الأمر. إذا بإمكاننا أن نتحدث عن سياقات بالمعنى التاريخي ولكن أيضا بإمكاننا أن نتحدث عن سياقات في أنماط بناء السيطرة الاستعمارية. لذلك، أنا أدعو للتعامل مع السياقات الاستعمارية هذه أساس أنها سياقات عابرة للتاريخ. عابرة للتاريخ بأي معنى؟ في معنى أنه بالنسبة إلى الهويات التي تقع تحت السيطرة الاستعمارية هنالك عادة - وهذه التقسيمات نجدها في البحوث التاريخية والسوسيولوجية- هنالك تقسيم عادة بين حقبة ما قبل الاستعمار وحقبة الاستعمار بحد ذاته وحقبة ما بعد الاستعمار. ولكن هناك الكثير من البحوث وخاصة التي تأتينا من أميركا اللاتينية التي تلح على أن الظاهرة الاستعمارية عابرة في معنى أنها هي هي في حقيقتها العميقة سواء أكانت في مرحلة ما قبل الاستعمارية أو المرحلة الاستعمارية أو المرحلة ما بعد الاستعمارية. ونحن نلاحظ حت في التعبير السياسي الدارج هناك حديث عن الاستعمار الجديد وأن الفترة ما بعد الاستعمارية هي فترة استعادة للفترة الاستعمارية ولكن مع بعض التلوينات إلخ من حيث كيفية ممارسة السياسية ونقل السلطة من المستعمرين القدامى إلى المحليين وهكذا. إذا، حتى في التحليلات السياسية هنالك تيار على الأقل يرى أنه من الضرورة بمكان أن نتعامل مع السياق الاستعماري على أساس أنه عابر بهذا المعنى. ثم هو ممتد تاريخيا مثلما أشرت إلى ذلك، وبإمكاننا أيضا أن نضيف أن في نهايات القرن التاسع وبدايات القرن العشرين شهدت اكتمالاً للظاهرة الاستعمارية في تشكلها الحديث تحت قيادة الإمبراطوريتين الأكبر حينها بالنسبة إلى التوازن الدولي في القوى الدولي. ولكن بإمكاننا أيضا أن نتحدث عن الخمسينات والستينات بوصفها منعرجا آخر في الظاهرة الاستعمارية بما أن هناك نوعا من التحول في كيفية تشكيل العلاقات الدولية بموجة الاستقلالات كما كانت تسمى أو كما تسمى إلى الآن في بعض البحوث وبالنسبة لبعض التيارات ولكن أيضا بنشأة الدول القومية المتحررة وبنشأة الدول الجديدة وبنشأة هذا التوازن الدولي الجديد، وطبعا السياق ما بعد الاستعماري بالنسبة إلى القوى الاستعمارية الظاهرة الأبرز فيه هو بروز الولايات المتحدة الأمريكية ثم بعد ذلك بروز روسيا. إذا نحن في سياق، أنا أدعو فيه إلى اعتبار الظاهرة الاستعمارية فيه عابرة للتاريخ وعابرة لهذه الحقب التاريخية.

الآن أريد أن أضيف فكرة أخيرة قبل أن انتقل إلى ثلاثة أو أربعة أمثلة نبين كيف تشتغل الهوية في السياق الكولونيالي. وتتمثل الفكرة في كون السياق الاستعماري بالمعنى الذي كنت أتحدث فيه هو وليد تحولات اقتصادية اجتماعية حدثت في أوروبا التي بدأت ومنذ القرن الخامس عشر والسادس عشر تحدث نقلات نوعية في كيفية إدارة الثروة فيها وفي كيفية خلقها، وكيفية توزيعها، وتوزيع قواها الاقتصادية المادية ثم بعد ذلك السياسية، إلخ، إلى الحد الذي أحدثت فيه هذا التحول الذي انتقلت فيه من سيطرة داخلية على الأسواق القومية وإزاحة لأنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية وإيجاد هذه القوى الاقتصادية الجديدة الرأسمالية بزعامة البرجوازية بكل ما كان يحمله ذلك لا فقط في مستوى التحول المادي، بل أيضا في مستوى التحول التقني، وأيضا في مستوى التحول الفكري، وفي مستوى التحول السياسي. كل هذه كانت روافع من أجل إيجاد سيطرة داخلية تحولت شيئا فشيئا إلى سيطرة خارجية.

أريد أن أنبه هنا، إلى أهمية الربط ما بين الظاهرة الرأسمالية والظاهرة الاستعمارية، باعتبار أن الثانية مكملة للأولى وكأنها نتيجة منطقية لها. والظاهرتان تشتغلان بنفس المنطق، وهو منطق الاكتساح والتوسع. طبعا هذا الأمر يؤدي بنا إلى أن نبحث في السياقات الاستعمارية على أساس أنها سياقات متكاملة، السياق الاستعماري هو سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي في نفس الوقت. في نفس الوقت بأي معنى؟ بمعنى أنه لا يمكن أن نتصور حركة الاستعمار من مصدره الأول أوروبا نحو مستعمراته على أساس أنه نوع من التوسع الاقتصادي، دون أن نعتبر في نفس الوقت توسع ثقافي مثلا.

وهنا بإمكاننا أن نقترب أكثر من مقولات الهوية، لماذا؟ لأننا وعندما نلاحظ الظاهرة الاجتماعية، نلاحظ تحويلاً للبنى الاقتصادية والاجتماعية في المستعمرات أي إعادة تركيب في مكونات الحياة، وتدخلاً في نمط العيش. تدخلاً مثلاً، من قبيل أن بعض البلدان انتقلت من أنماط لإنتاج الثروة الفلاحية أو رعوية أو زراعية أو حتى راحلة ما بين منطقة إلى أخرى إلى نمط إنتاجي للثروة يعتمد الصناعات وخاصة إذا ما كانت هناك يمكن أن تتركز على وجود ثروات طبيعة إما مخزونة في الأرض أو يمكن إنتاجها على سطح الأرض. حتى المنتجات، نوعية المنتجات الزراعية تتحول، إذا نمط إنتاج الثروة يتحول، نمط الإنتاج يتحول، وإذا التركيب الاقتصادي الاجتماعي للمستعمرات يتحول. وعندما نقول التركيب الاقتصادي الاجتماعي فيعني ذلك إعادة هندسة الحياة، في المستوى العمودي يمكن أن نتحدث طبقات جديدة، في المستوى الأفقي فبإمكاننا أن نتحدث عن إعادة رسم لخريطة أنماط العيش. المناطق التي كانت غير مأهولة بالسكان، وعندما يكتشف فيها منجم مثلاً لمادة خام تتحول إلى منطقة صناعية منجمية، وهذا يغير في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية ويغير أيضا في الممارسات ويغير أيضا في العلاقات الاجتماعية، أي يغير في العناصر التي يمكن أن تتركب منها الهوية الاجتماعية.

إذا أنا أدعو من خلال هذا المثال، إلى التثبت في كيفيات تدخل السياق الاستعماري في إعادة هندسة الهويات. بطبيعة الحال أنا أتحدث عن ظواهر تبدو سلمية إلى حد ما في المعنى الذي يمكن أن نلاحظها في كثير من الممارسات، ولكن في حقيقة الأمر نحن إزاء ممارسات تعتمد على نوعين من الإبادة: الإبادة الأولى هي إبادة للبشر بحد ذاتهم، كل السياقات الكولونيالية فيها نقطة مركزية هي إبادة البشرية واسعة إلى هذا الحد أو ذاك، يمكن أن يبدأ تهجير قسري يمكن أن يكون على شكل ترانسفير كما يستخدم ذلك أصدقاؤنا الفلسطينيون، ولكن أيضا يمكن أن تكون بعملية إبادة لآلاف من الناس بطرق يمكن أن تنتقل من الحرب إلى إحداث الأمراض أو الأوبئة أو كسر التوازن الطبيعي الذي كان قائماً، وفي هذا المجال أنا أشير إلى عناصر يمكن لعلم الأنثروبولوجيا أن يطور البحث فيها إلى حد كبير.

ولكن أيضا بإمكاننا أن نتحدث عن الشكل الثاني من الإبادة، وهو ما يسمى بالإبادة الثقافية: أي إبادة العادات، إبادة التقاليد، إبادة اللغات، إبادة اللهجات، إبادة المنتجات الثقافية غير المادية، وهذا بطبعة سيخلق نوعا من الانخرام في كيفية تشكل الهوية أو في عناصرها.

بطبيعة الحال بإمكاننا أن ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى، على أساس أن هذا السياق الكولونيالي بحقبه الثلاث التي أشرت إليها كان مصحوباً دائما بفعل دي-كولونيالي مناقض له، هناك دائما هذا الصراع ما بين السياق الاستعماري والسياق الناقض للاستعمار. وكما أن السياق الاستعماري ينتج مستلحقيه- ما أسميه أن مستلحقيه هناك تسميات كثيرة من بينها التابع، أنا أستخدم هذه التسمية- يعني يخلق مستلحقيه ويبني لهم تنضيدا اجتماعيا ما فإن هؤلاء المستلحقين بطبيعة الحال يؤدون أفعالاً مقاومة، ولذلك، هنالك تراث ممتد في العلوم الاجتماعية يتحدث عن هذه الأعمال المقاومة التي تحاول أن ترد على الإبادتين، الإبادة العرقية والإبادة الثقافية.

وأود أن أشير هنا إلى أهمية أن ننتبه إلى أن بنى الاستعمار بما هي بنى مفككة للهويات تحوي في حد ذاتها بنى مقاومة لهذا التفكيك. وبإمكاننا أن نلخص بشكل تعميمي تاريخ المستعمرات مثلا على أساس أنه صراع ما بين هذين الاتجاهين. هذه بعض العناصر التي ربما تساعدنا على التفكير في قضايا الهوية في سياقاتها الاستعمارية.

أريد أن أشير أخيرا، إلى أن استخدمت دون أنطق الأسماء، استخدمت تحليلات تعود إلى روجيه باستيد عالم الاجتماع والأنثروبولجي الفرنسي، ميشيل ليريس أيضا عالم الاجتماع والأنثروبولجي الفرنسي، بانونديه، وفرانس فانون، وهناك بعض الإشارات إلى بعض تحليلات أشيل مبيمبي، وهناك بعض الإشارات الأخرى إلى تحاليل أقرب إلى السياق العربي من بينها تحاليل مالك ابن نبي في مقولة في القابلية للاستعمار، وبعض التحليلات الأخرى التي تعود إلى عبد الكريم الخطيبي، ولكني أردت أن أخلصكم من ذكر الأسماء لأساعدكم على تجميع اللوحة كاملة.

شكرا لكم على الاستماع، وعلى هذه الفرصة التي أتحتموها لي.