السبت  21 كانون الأول 2024

الثقافة مهمة حربية

2023-08-10 12:16:31 PM
الثقافة مهمة حربية
زكريا محمد

تدوين- زكريا محمد 

تجد الثقافة الفلسطينية نفسها في ورطة مثلثة؛ فهي أولاً، مطالبة بإثبات وجودها وتأكيده أمام تشكيك الأعداء. وهي، ثانياً، مملوءة بالخوف من أنَّ هذا التأكيد قد يؤدي إلى جرح انتمائها لمحيطها العربي. ثم هي، ثالثا، مطالبة بأن تنتقد ضعفها وهشاشتها في الوقت الذي تشحذ فيه أسلحتها لإثبات ذاتها ووجودها. وفوق هذا وذاك فهي تقبل أن تتحمل مهمات فوق طاقتها بما يورطها في إشكاليات عميقة تدفعها، أحياناً، إلى الخروج عن ذاتها.
في الشق الأول من الورطة، فإن هذه الثقافة ملزمة بأن تثبت وجودها الذي يتم التشكيك فيه عبر السؤال التالي: وهل هناك ثقافة فلسطينية أصلا؟ والسؤال ليس بريئاً أبداً. ذلك أن الإجابة عنه تتعدى حدود الثقافة. فإذا ما فشلت الثقافة الفلسطينية في إثبات كونها وهويتها الخاصة، فإن هذا يعني، وبشكل مباشر، أن الشعب الفلسطيني والحق الفلسطيني هما موضع شك. ذلك أن السؤال يقرر، بشكل مضمر، أن الثقافة هي جوهر الهوية الوطنية لشعب ما عليه فحين لا يملك هذا الشعب ثقافة خاصة به، أو إن كانت ثقافته ضعيفة, بالمعنى الغربي لكلمة ثقافة، فهو لا يملك هوية خاصة. وحين لا يملك هذه الهوية، فهو غير موجود، أو أن وجوده لا معنى له. وهذا يعني أنه لا يملك حقاً في أرض خاصة، حتى لو كانت هذه الأرض أرضه وأرض آبائه وأجداده من آلاف السنوات.

الثقافة هي جوهر الهوية الوطنية لشعب ما عليه فحين لا يملك هذا الشعب ثقافة خاصة به

يقول الخصم: "إن ثقافة أصيلة لا يمكن أن تتطور لدى العرب في إسرائيل وأسباب ذلك أنهم يفقدون ذاتاً حضارية جماعية، لأنهم طوائف مختلفة يجمع بينها نطق العربية. والسبب الثاني هو أنه لم يكن وجود ثقافي في فلسطين أبداً. فالعرب الموجودون في هذه البلاد كانوا دوماً مستهلكين لثقافة أُنتجت وتبلورت في العالم العربي خارج فلسطين."(1)
 إذا كان الأمر كذلك فإن هذا يعني، انطلاقاً من منطق هذا الخصم أن مكان الفلسطينيين هو عند بقية العرب، أي خارج فلسطين. فإن كان عرب هذه البلاد لم ينتجوا ثقافة أبداً، فهم ليسوا شعباً، وبالتالي فليس لهم حق في الأرض ولا في تقرير المصير.

في مقابل هذا التشكيك، ذي الروح العنصرية، تجهد الثقافة الفلسطينية في تأكيد ذاتها بكل ما تملك من طاقة، وفي كل لحظة وكل يوم، وعبر أشكال عدة.

كتب أحد الكتاب في مجلة الكرمل دراسة عن أهم عشر شخصيات ثقافية في القرن العشرين، بطلب من اليونسكو، وأعطاها بالعنوان التالي: "رموز فلسطينية ليست مضطرة للبحث عن هوية". (2) والعنوان بحد ذاته يعكس الضغط الدائم الذي تواجهه الثقافة الفلسطينية والذي يجعلها "مضطرة" إلى الدفاع عن وجودها، وإلى أن تقول إنها ليست مضطرة لتأكيد هويتها وذاتها، أي يجعلها مضطرة لتأكيد الهوية في كل لحظة. فلولا أن ثقافة هذه الرموز تُنفى كل يوم، لما كان من الضروري القول إنها ليست بحاجة إلى إثبات هويتها الثقافية.

لكن السعي إلى تأكيد الذات هذا، يصل, في بعض الأحيان, حد التطرّف. ونتذكر، هنا، أن شاعراً فلسطينياً قد أصدر كتاباً عن الشعر الفلسطيني عنوانه ألف عام من الشعر الفلسطيني، منطلقاً من قبول فكرة تقسيم الشعر العربي القديم على الهويات العربية الحديثة. هذا التأكيد المتطرف، يبدو، في
لحظات ما، كما لو أنه سيوصل إلى الانشقاق عن المجرى العام للثقافة العربية، وبحيث يبدو وكأن فلسطينية الثقافة تقف ضد عروبتها.
يؤدي هذا، في العادة، إلى ردّ فعل معاكس يردّ الثقافة الفلسطينية إلى عروبتها ويلغي وجهها الخاص. والخوف من هذا التطرف هو الذي يجعل ناقداً فلسطينياً يعتذر لقرائه عن عنوان كتابه "النقد الأدبي في الوطن الفلسطيني والشتات"...... فهو يقول في المقدمة، معتذراً، إن هذا العنوان ناقص لأن تتمته المضمرة ينبغي أن تكون شيئاً من مثل ضمن إطار الحركة النقدية العربية المعاصرة"، (3) كما لو أن فلسطينية النقد تضرب عروبته وتُنكرها.

الثقافة الفلسطينية تتمزّق بين تأكيد ذاتها ورفض هذا التأكيد

وهكذا فالثقافة الفلسطينية تتمزّق بين تأكيد ذاتها ورفض هذا التأكيد، بين الرغبة فيه والخوف منه، وذلك لأن الضغط الذي تتعرض له لا يأتي من الأعداء فقط، وإنما من الأصدقاء، أي من داخل الذات نفسها، لكن لأسباب مختلفة وزوايا نظر مغايرة.

هذه الحركة المتضادة، حركة التأكيد والنفي، تدفع الثقافة الفلسطينية، في لحظة ما، إلى تأمل ذاتها وتاريخها، لكنها تدفعها، في لحظة أخرى، إلى الكف عن هذا التأمل والخوف منه.

ولعل هذا هو ما يجعلنا نفتقر إلى دراسات تأخذ الثقافة الفلسطينية كحقل واحد لا كقطع مبعثرة، أي يجعلنا نفتقر إلى النقد الثقافي العام. فالنظرة إلى هذه الثقافة كوحدة واحدة، وكتلة واحدة، يوحي بالانفصال والابتعاد عن مجرى الثقافة العربية.

الشق الثالث من الورطة، يخاف قسم من الثقافة الفلسطينية من نقد هذه الثقافة وبيان مشاكلها وعيوبها. ذلك أن هذا النقد قد يحسب لصالح الخصم الذي يشكك في وجود ثقافة فلسطينية، لكي يشكك في وجود الشعب. وهكذا فمهمة النقد عسيرة جداً. إنها مثل الوقوف على حد الصراط المستقيم. فأي انعدام للتوازن قد يوقع في الجحيم فوراً. ولعلّ في هذا يكمن في جذر ميل حركة النقد الفلسطينية إلى التأريخ، وابتعادها عن الحكم و"التقييم".
وإذا كان وجود الثقافة هو برهان وجود الشعب وحقوقه، فإن هذا يعني أنه وضع على عاتق المنتجين الثقافيين إثبات ملكية الشعب لأرضه وحقوقه، أو كما يقول أحد المثقفين الفلسطينيين "مهمة تقديم البرهان من خلال الثقافة إذا ما أرادوا لوجودهم كشعب أن يكون ثابتاً، ولطموحهم إلى تقرير المصير أن يكون معترفاً به". (4)

إذن، فعلى الثقافة، وعلى الأخص الآداب والفنون، يقع عبء هائل، يحسُّ به كل منتج في حقل الثقافة. ولعلّ هذا هو جذر تورّط الثقافة الفلسطينية في السياسة، وجذر الإحساس الدائم لدى المثقفين الفلسطينيين بأن نتاجهم لا يرقى إلى المهمة التي وضعت أمامهم.

لقد حوّل ضغط الخصم الثقافة إلى مهمة حربية من الطراز الأول والحق أن الثقافة الإسرائيلية كانت، عموماً، مهمة حربية

لقد حوّل ضغط الخصم الثقافة إلى مهمة حربية من الطراز الأول والحق أن الثقافة الإسرائيلية كانت، عموماً، مهمة حربية). وفشَلُ المثقف في القيام بهذه المهمة إنما هو فشل جماعي لا فشلاً ذاتياً. من أجل هذا هناك ميل عند الكتابة الفلسطينية للتحوّل إلى نقيضها أي للتحوّل إلى فعل مادّي على الأرض نتيجته النهائية: الشهادة.

ولعل شعار "بالدم نكتب لفلسطين" الذي صاغه الأستاذ ناجي علوش في السبعينيات, هو التعبير المكثف عن هذا الميل. فما دامت المهمة حربية إلى هذا الحد، فإن الشهادة هي أقصى ما يمكن أن يُقدم من أجل نجاح هذه المهمة، كما حصل مع غسان كنفاني بالضبط. وهذا يعني أن تتحول الكتابة إلى نقيضها: أي لا كتابة.

ولعل التحويل الإرغامي للثقافة إلى مهمة حربية، بفعل ضغط الخصم، هو الذي جعل محمود درويش يصرخ مرة ألما: أخشى أن يتفوقوا علينا شعرياً. هذه ستكون نهايتنا". فالشعر هنا يتحول إلى حرب، والذهاب إليه هو ذهاب إلى الجبهة. كما أن الهزيمة فيه هي هزيمة عامة. طبعاً لا يقصد درويش، هنا، أن يتحول الشعر إلى أغان حربية، بل يقصد أن مهمة كتابة الشعر مهمة حربية، أي أن النجاح أو الفشل فيها، ينعكس على وضع الشعب والقضية بقوة.

ولعل الصيغة الأشد تعبيراً وقوة عن هذه العلاقة المخيفة بين الكتابة ووجود الشعب وحقوقه هي الصيغة التي قدّمها - مرة أخرى – محمود درويش تقول الصيغة، التي أصبحت شائعةً ومعترفاً بقيمتها: "من يكتب حكايته يرث أرض الحكاية. وفي هذه الصيغة تتقبل الثقافة، بكل رضىً وبكل ألم، أن تضع المسؤولية كاملة على عاتقها. فكتابة الحكاية -عبر الثقافة- سوف تحدد نتيجة المعركة. فمن يفشل في كتابة الحكاية يخسر الأرض، هكذا مباشرة! ذلك أنه من وجهة نظر مثقفة ما فإن الحكاية التوراتية كانت عاملا حاسما في سيطرة إسرائيل على الأرض الفلسطينية.

الثقافة هنا تُحمَّل فوق طاقتها، محوّلة المهمة الإرغامية التي فرضها الصراع، إلى إرادة خاصة بها. وإذ تنظر الثقافة الفلسطينية إلى ما أنتجته خلال القرن الماضي، فإن الألم يأكلها. أهذا هو كل ما أنتجت؟ إنه لا يكفي. إنه هش وضعيف إذا ما قيس بإنتاج الخصم. فلماذا؟ لماذا؟

وتبدأ الذات في حساب ذاتها...