السبت  27 تموز 2024

مختبئا خلف قناع بلون السماء.. بطل رواية باسم خندقجي يأخذ بيده نحو العالمية

2024-06-01 05:37:59 PM
مختبئا خلف قناع بلون السماء.. بطل رواية باسم خندقجي يأخذ بيده نحو العالمية
الأسير باسم خندقجي


يوسف خندقجي: فوز رواية شقيقي الأسير في "البوكر" العالمية أعاد هيبة الرواية الفلسطينية

تدوين- سوار عبد ربه
عارضه شقيقه في البداية، بحجة أن موضوع روايته الجديدة، ليس أصيلا، وتناولته أدبيات كثيرة، جرى ذلك خلال مكالمة هاتفية جمعت بين الشقيقين يوسف وباسم خندقجي، عندما أفصح الأخير عن رغبته في كتابة رواية عن القضية الفلسطينية دون تحديد زاوية تناولها، لكنه العنيد كما يصفه أخاه، وبإصرار الكاتب الواثق من فرادة قلمه، راح الأسير الفلسطيني باسم خندقجي، يدوّن أول جزء من مشروعه الروائي ثلاثي الأجزاء، والذي يحمل عنوان "ثلاثية المرايا"، "قناع بلون السماء"، محلقا به إلى سماء العالم، على أن ينجز لاحقا الجزئين الآخرين "سادن المحرقة" و"شياطين مريم الجليلية".
يقول يوسف خندقجي: "باسم أصر على كتابة الرواية رغم معارضتي لفكرتها، لكنه كان متيقنا أن زاوية تناوله للأحداث ستكون مختلفة عن كل ما كتب حول القضية".
تقع أحداث "قناع بلون السماء"، الصادرة عن دار الآداب، بين زمنين، لباسم قدرة على الإبحار في التاريخ، ومعايشة الحاضر في آن معا، وتطويع قلمه ليكون شاهدا على ما عاشه ولم يعشه، ماضيا كان أم حاضرا، إذ كتب عن التاريخ العباسي في رواية "مسك الكفاية"، وعن عصر المماليك في مصر في رواية "خسوف بدر الدين"، وأيضا اتجه لكتابة الرواية الفلسطينية المعاصرة، يقول شقيقه يوسف: "باسم ليس مثقفا فقط بل أيضا مفكرا".
"كما لو أنها أسلحة"
يحدثنا يوسف خندقجي، شقيق الأسير باسم ووكيله الأدبي، في لقاء خاص مع "تدوين"، عن رحلة قصاصات الورق من داخل أروقة السجن، إلى أن صارت عملا مكتملا نفذت أولى طبعاته من مكتبات عدة، ويقول: "عملية إدخال الكتب التي احتاج باسم لمطالعتها، كي يتمكن من إنجاز الرواية، إلى داخل السجن، كانت معقدة وصعبة جدا، حدث كان ذلك بين عامي 2021 و2022، تزامنا مع إعلان الأسرى إضرابهم المفتوح عن الطعام، إلى حين تحقيق مطالبهم في أعقاب الإجراءات التعسفية التي اتخذت بحقهم بعد عملية نفق الحرية التي انتزع فيها ستة أسرى حريتهم من سجن "جلبوع"".
ويردف: "لم تكن إدارة مصلحة السجون تسمح في حينها بإدخال الكتب، لكننا تجاوزنا أولى العقبات وأتممنا مهمتنا الأولى بنجاح بمساعدة أسرى آخرين".
أما عن طريقة تحرير الأوراق بعد اكتمال النص، فكانت "عبر البريد الإسرائيلي، إذ وصل أولا 60% منها، وما بقي منها، صادرته إدارة السجون ومنعت إخراجه، لكننا استطعنا بعد معاناة طويلة أن نحررها بواسطة أسير محرر، وذلك بعد ثلاثة أشهر من استلام الدفعة الأولى"، بحسب خندقجي.

يوسف خندقجي
ويتابع: "كانت تصلنا الأوراق غير مرتبة، وبعضها ممزق، وكأن الاحتلال يرى فيها أسلحة يريد محاربتها".
وفي نهاية المطاف استطاعت عائلة الأسير أن تجمع النص وتطبعه، وأن ترسل نسخة منه إلى باسم الذي وجد فيه بعد المراجعة، أخطاءً وأسطر مفقودة، وذلك بسبب سوء حال الأوراق المحررة.
"قناع بلون السماء" بحثا عن فلسطين
تتناول الرواية المؤلفة من ثلاثة أقسام وسبعة فصول، قصة "نور الشهدي" شاب فلسطيني، وطالب في كلية الآثار في جامعة أبو ديس بالقدس المحتلة، ينهي سنوات دراسته الأربعة، ليبدأ رحلة البحث عن عمل، وبينما يتجول نور في شوارع مدينة يافا المحتلة، تأخذ به قدماه إلى محل للألبسة، ليشتري منه معطفا جلديا، سيغير مسار حياته فيما بعد، ففي جيب المعطف يعثر نور على هوية زرقاء لمستوطن يدعى "اور شابيرا" أشكنازي الملامح، وللمصادفة، كلا الاسمين يحملان المعنى ذاته، فيقرر بطل الرواية الفلسطيني المولود في اللد واللاجئ في أحد مخيمات رام الله، أن ينتحل شخصية المستوطن صاحب الهوية الزرقاء، للنفاذ بها إلى مناطق محظورة يكمل من خلالها بحثه وروايته عن مريم المجدلية.
يلتحق نور الذي صار "أور" الآن، في معهد لعلوم الآثار، ويسجل في بعثة للتنقيب عن الآثار، كخطوة أولى للبحث عن سر مريم المجدلية، وخلال رحلته البحثية، يجد صورة فلسطين المطمورة، تلك التي يحاول الاحتلال دائما طمس حقيقتها التاريخية.
وبين هويته الأصلية والهوية الزائفة، يخوض بطل الرواية صراعا نفسيا وهوياتيا، تمثل في حوارات داخلية مع نفسه حينا، ومع صديقه مراد المعتقل منذ عشر سنوات والمحكوم بالمؤبد، في سجون الاحتلال أحيانا أخرى.
تمثل شخصية مراد -صديق نور الوحيد-، ضميره الحي، الذي يحاول دائما أن يعود به إلى الحاضر، بينما نور منغمس في التاريخ، يبحث في ثناياه عن سر المجدلية، متخذا من بطاقة "أور" الثبوتية جسر عبور قد يوصله إلى ذلك السر.
لم يكن صراع نور الهوياتي وحده عائقا أمام مهمته البحثية، بل مراد أيضا، الذي كان شديد المعارضة لانشغال نور بمسألة تاريخية، بينما توجد قضايا أكثر إلحاحا على نور أن ينخرط فيها، كأن يثبت ملكية أراضي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة إلى أهلها، إبان دعاوٍ رفعتها مجموعات استيطانية ضد أهالي الحي إلى محكمة الاحتلال، التي حكمت بدورها، بإخلاء 28 عائلة فلسطينية من منزلها في الحي، لصالح إحلال مستوطنين.
يقول يوسف خندقجي في لقائه مع تدوين: "بين هويتين، -الهوية الزرقاء، وتصريح الدخول إلى الأراضي المحتلة، توجد سردية أصلية مهمشة، يجدها نور، كما يجد سر المجدلية الفلسطينية، في قاع بئر ماء، ويرى فيها انعكاسا لوجه "سماء إسماعيل"، الفلسطينية من الداخل المحتل، التي تعرف عن نفسها أنها من حيفا، من "هذه البلاد"، غير معترفة بالجنسية الإسرائيلية المفروضة عليها، وكذلك بفلسطينيتها التي لا تعترف بها الأوراق الثبوتية الرسمية.
جدل الهوية


وبينما يختبئ نور خلف شخصية محتله التي تمثلها الهوية الزرقاء، تلك التي تتيح له كـ "أور" ما لا تتيحه لنور، لا ينسى أن يشير عبر حوار داخلي، إلى قرى البلاد المهجرة التي دفنها الاحتلال وغير اسمها، وملامحها الفلسطينية العربية، فهنا تتصارع الشخصيتان على اسم القرية، يصر نور على أنها "اللجون"، بينما يصر "أور" على أنها "كيبوتس مجدو".
وإلى جانب مسألة الصراع النفسي الذي يخوضه بطل الرواية بين الهويتين، تعالج رواية الأسير المحكوم بالسجن المؤبد ثلاث مرات، مسألة تعدد الهويات الفلسطينية، بفعل التقسيم الجغرافي الاستعماري لفلسطين، كذلك نظرة الفلسطيني إلى الفلسطيني الآخر، ونظرة الفلسطيني إلى نفسه إذا ما التقى بفلسطيني آخر في ذات المكان.
معارضة روائية
عام 2003، صدر للكاتب الأمريكي دان براون، رواية بعنوان "شيفرة دافنشي"، أثارت ردود فعل عنيفة في المجتمع المسيحي والعلماني على حد سواء، فبراون اتخذ من مريم المجدلية زوجة للمسيح وأما لأبنائه، وهو ما آثار حفيظة المؤمنين المسيحيين، ودفع الفاتيكان لمعارضتها، كما منعت من النشر والبيع في العديد من الدول بينها لبنان، ليس فقط لأن براون نفى صفة الألوهية عن المسيح وجعله بشرا يحب ويتزوج وينجب، بل أيضا لأن من تزوجها وصمتها الكنيسة بأنها امرأة زانية.
يبدو أن سيرة المجدلية كما كتبها براون لم ترق لخندقجي، لذا قرر معارضتها روائيا ليبرئ المجدلية من خطيئتها، وأن يصحح ما تشوه من سيرتها، مشتبكا بذلك مع الأفكار الاستعمارية عن العائلة الفلسطينية الأولى، إلا أن شح المصادر والأدلة، جعلت نور يحول بحثه إلى رواية متخيلة، فـ "التاريخ ما هو إلا تخيل معقلن"، بالنسبة له.
ربما أراد خندقجي بهذا التحول بين ما هو علمي محكم، إلى أدبي متخيل، أن يشير إلى واحدة من المعيقات التي تواجه الباحث العربي في ظل الهيمنة المعرفية الغربية، والباحث الفلسطيني خاصة، الذي سرق الاحتلال أرشيفه، واستولى على آثاره ومنعه النبش في ذاكرة بلاده.
يقول شقيق الأسير خندقجي: "عندما كتب باسم عن مريم المجدلية، التي تعرضت لعدة مظلمات في رواية الأمريكي دان براون، قرر بهذا أن يجرد كل الكؤوس المقدسة والطعومات التي طالتها".
متجاهلا سجنه حتى نيل الحرية أو انتزاعها
وخندقجي هو روائي فلسطيني ولد في مدينة نابلس، عام 1983، درس الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، وكتب المقالات ودواوين الشعر والقصص القصيرة حتى اعتقاله في العام 2004 حين كان يبلغ من العمر 21 عاما.
أكمل خندقجي تعليمه الجامعي وأنهى مرحلة الماجستير، من داخل السجن عن طريق الانتساب بجامعة القدس، حيث كانت رسالته عن "الدراسات الإسرائيلية في العلوم السياسية"، وكان يتهيأ للانتساب لدراسة الدكتوراه من إحدى الجامعات الجزائرية لكن الحرب على غزة أوقفت مشروعه.
مضى على اعتقال باسم المحكوم بالسجن المؤبد ثلاث مرات، عشرون عاما، لم يكتب خلالها رواية واحدة عن السجن، الذي أفنى فيه شبابه، وهو أدرى الناس في خباياه وعذاباته، بخلاف معظم إنتاجات الأسرى الأدبية، التي تتخذ في مجملها طابعا توثيقيا لتجربتهم داخل السجن.
حول هذا يقول شقيق الأسير: "باسم يرى أنه غير قادر على الكتابة عن المكان الذي يعيش فيه، وإن فعل فلن يقدم عملا إبداعيا، ذلك لأن خياله سيكون محصورا في مكان واحد، وكذلك واقعه، مردفا على لسان باسم: "ربما أوثق تجربتي بعد تحرري".
ويرى وكيل باسم الأدبي، أن "قناع بلون السماء" تعتبر الأصعب من حيث جمع المادة وتركيبها وتحريرها، ناهيك عن المعيقات التي واجهها باسم داخل السجن أثناء رحلة الكتابة، من عزل وتنكيل ومصادرة لأوراقه ولوسائل الكتابة".
استطاعت رواية "قناع بلون السماء" التي تقع في 240 صفحة، أن تتبوأ مركز الصدارة في النسخة العربية من جائزة البوكر العالمية للعام 2024، التي أعلن عن فائزها بتاريخ 28 نيسان.
وبحسب شقيق الأسير، "لم يأت هذا الفوز بسهولة، بل دفع باسم ثمنه عزلا وتنكيلا وتحريضا إعلاميا، سيما بعد وصول الرواية إلى القائمتين الكبيرة والصغيرة من الجائزة".
وفي حينها، نشرت عائلة الأسير باسم خندقجي، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن إدارة سجن عوفر الاحتلالي عزلته، بعد حملة التحريض المتواصلة من قبل الصحافة العبرية ضده، على خلفية ترشُّح روايته "قناع بلون السماء" للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر".
انتصار القلم على السجان
لم يتمكن يوسف خندقجي، من حبس دموعه لحظة الإعلان عن فوز شقيقه، الذي هو فوز له أيضا كونه شريكا أساسيا في عملية الجمع والتحرير والطباعة والنشر.
وحول أثر هذه التجربة على يوسف، يخبرنا أنها تركت فيه أثرا كبيرا، ذلك لأن باسم كان غائبا عن لحظة تكريمه وانتصار قلمه على السجن والسجان.
ويضيف: "هذه التجربة أعطتني دفعة للأمام كي أبقى مستمرا في هذا المجال سواء لأخي أو غيره من الأسرى ممن يكتبون داخل سجون الاحتلال، كما أن فوز رواية باسم بجائزة البوكر، هو حدث تاريخي ليس فقط لرواية باسم، إنما للرواية الفلسطينية التي يسعى الاحتلال إلى طمسها".
ويردف: "تبقى جائزة البوكر استحقاقا لفلسطين ولرواية باسم، ونهديها إلى روح الشهيد وليد دقة، ولعموم أبناء شعبنا الفلسطيني أينما حل، وبالأخص لغزة وأهلها الذين يتعرضون لإبادة جماعية مخيفة، وسط صمت عالمي".
من عتمة الزنازين إلى العالمية


يفتتح باسم روايته بسؤال على لسان نور بعد أن حول مشروعه البحثي إلى روائي، "هل سأتمكن من نشرها في هذه البلاد عديمة الأدب والنشر"، سؤال ربما، عبر باسم من خلاله عن استيائه من الحالة الأدبية الفلسطينية من جهة، والسجن الذي يحول بينه وبين مسألة النشر من جهة أخرى، إذا ما تجاوزنا أن الرواية قد تظل مشروعا خياليا في ذهن الأسير الكاتب، ما لم ترض إدارة مصلحة السجون عن السماح له بممارسة فعل الكتابة.
يأخذ نور بيد باسم إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي، يصعد به إلى المنصة، ويسلمه جائزة الفوز، التي هي بمثابة انتصار للسردية الفلسطينية على السردية الصهيونية.
"ازداد اسم وسيرة باسم خندقجي بروزا، ليس فقط في فلسطين وإنما في العالم العربي، سيما بعد وصول روايته إلى القائمتين الكبيرة والصغيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية، وتنامى ذلك أكثر عندما فاز بالجائزة"، وفقا ليوسف.
ويرى شقيق الأسير أن هذا الفوز "أعاد هيبة الرواية الفلسطينية للعالم أجمع، بعد أن قاطعها بعض الكتاب، فالرواية الفائزة بـ "البوكر" برسم الترجمة إلى 7 لغات".
كما يرى وكيل باسم الأدبي، أنه سيكون للرواية الفلسطينية دور بارز ومهم في الأعوام المقبلة.