الخميس  08 أيار 2025

القدس في ذكرى النكبة.. الفضاء البصري كأداة لإعادة إنتاج السيطرة الاستعمارية بعد 7 أكتوبر

2025-05-06 02:11:05 AM
القدس في ذكرى النكبة.. الفضاء البصري كأداة لإعادة إنتاج السيطرة الاستعمارية بعد 7 أكتوبر
"مسيرة الأعلام"- القدس

تدوين-سوار عبد ربه

تعتبر الرموز البصرية من أبرز أدوات الهيمنة الرمزية التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني في مدينة القدس، حيث لا يكاد يخلو شارع في المدينة من علم إسرائيلي أو لافتة تعبّر عن سيادة السلطة الاستعمارية. ورغم أن هذه الرموز حاضرة بشكل دائم، إلا أن وتيرتها تتكثف بشكل ملحوظ في محطات زمنية محددة، لا سيما خلال المناسبات الدينية أو القومية المرتبطة بالرواية الصهيونية.

يلمس أثر هذه الممارسات بوضوح في السياق الراهن، بالتزامن مع الذكرى السابعة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني، التي تحل في لحظة تاريخية مفصلية، بعد مرور عام ونصف على محاولات سلطات الاستعمار الاستيطاني ترميم صورتها وهيبتها، التي تزعزعت بفعل أحداث السابع من أكتوبر 2023. وهي الأحداث التي وصفها مسؤولون وباحثون إسرائيليون بأنها "الأكثر فظاعة في التاريخ اليهودي منذ المحرقة"، واعتُبرت "اليوم الأسود" في التاريخ الإسرائيلي.

غير أن القضية في القدس، بوصفها مجالا لإعادة تشكيل السيطرة، تتجاوز مسألة التوقيت أو المناسبة، ذلك فإن السلطات الاستعمارية توظف فضاء المدينة العام لإيصال رسائل رمزية تعكس حضورها في كل زاوية منها، فهي لا تكتف بالهيمنة العسكرية أو الإدارية، بل تعيد إنتاج سيادتها ثقافيا ونفسيا عبر جعل الفضاء العام مسرحا لعرض رموزها.

الاحتلال يُفرغ أزمته في غزة على القدس

يؤكد الباحث والكاتب المختص في شؤون القدس، مازن الجعبري، في لقاء مع "تدوين"، أن العام الحالي يشهد تصعيدا غير مسبوق في محاولات الاحتلال الإسرائيلي لترسيخ هيمنته الرمزية على مدينة القدس.

ويُرجع الجعبري هذا التصعيد إلى تداعيات ما جرى في السابع من تشرين الأول 2023، معتبرا أن هذا الحدث مثل لحظة مفصلية هزت البنية النفسية والسياسية لكيان الاحتلال، وأحدثت أزمة وجودية غير مسبوقة في تاريخه.

ووفقا للجعبري، فإن سلطات الاحتلال تسعى هذا العام إلى استعادة توازنها الرمزي من خلال تكثيف عرض الأعلام واللافتات في الفضاء العام، في محاولة لإعادة تأكيد السيادة الرمزية وترميم صورة السيطرة أمام جمهورها الداخلي والعالمي على حدّ سواء.

ويوضح الباحث، أن التركيز الإسرائيلي المتزايد على مدينة القدس في هذا العام لا يُفهم فقط في إطاره الاحتفالي أو الرمزي، بل يرتبط بمحاولة تحقيق نوع من التوازن السياسي والنفسي لدى المؤسسة الإسرائيلية، في ظل الأزمات التي تعيشها منذ أحداث السابع من تشرين الأول 2023. ويرى أن هذا تأكيد على أن القدس تمثل الساحة المركزية في "الصراع"، حيث تسعى سلطات الاحتلال إلى تأكيد هيمنتها على المدينة من خلال المظاهر الرمزية، لا سيما في المناسبات القومية. وتنعكس هذه المحاولة عبر تكثيف انتشار الأعلام الإسرائيلية، ونشر اللافتات والرموز الدينية اليهودية، في مشهد يراد له أن يكرّس صورة السيطرة والتحكم في المجال العام، ويدّعي احتكار السيادة الرمزية على المدينة.

من جانبه، يقول الدكتور جمال عمرو، الخبير في عمارة وشؤون القدس، إن فرض السيادة بالقوة يعد من الأدوات المركزية التي تستخدمها سلطات الاحتلال في مدينة القدس، ليس فقط لتحقيق السيطرة الفعلية، بل أيضا لغرس شعور نفسي دائم بالهيمنة. ويرى أن هذا النمط من الممارسات يهدف إلى تكريس شعور بالقهر والدونية لدى الفلسطينيين، في مقابل ترسيخ إحساس بالتفوق والتمكين لدى المستوطنين الذين تم جلبهم للمدينة.

فالمشهد العام في القدس بحسب عمرو، لم يعد يعكس طابع المدينة المدنية، بل بات يُشبه ثكنة عسكرية، حيث تنتشر الدوريات العسكرية، والمجندون، والأعلام الإسرائيلية بشكل كثيف، ما يخلق بيئة مشحونة عسكريا.

ويشير الخبير بشؤون القدس، في لقائه مع "تدوين" إلى أن هذا الحضور الأمني المكثف يعكس، في أحد أبعاده، قلقا دفينا لدى السلطات والمستوطنين من عدم رسوخ انتمائهم الحقيقي للمدينة. ولذلك، يُوظّف هذا المشهد لإنتاج طمأنينة مصطنعة عبر تكثيف الرموز السيادية، ومنح المستوطنين شعورا نفسيا بالسيطرة والتحكم.

ومن بين أبرز مظاهر الهيمنة الرمزية التي تشهدها مدينة القدس في هذه الفترة، انتشار لافتات وشعارات تدعو إلى اقتحام المسجد الأقصى ورفع العلم الإسرائيلي داخله، وهي دعوات تتبناها جماعات المعبد المتطرفة وأنصارها. وفي هذا السياق، نشر توم نيساني، الرئيس التنفيذي لمنظمة "بيدينو" المتطرفة، تصميما مصورا يُظهر قبة الصخرة محاطة بعشرات الأعلام الإسرائيلية، وعلّق عليه بالقول: "برأيي، أهم مكان لرفع علم إسرائيل في يوم الاستقلال القادم هو على جبل الهيكل"، في إشارة إلى التسمية التوراتية التي تطلقها هذه الجماعات على المسجد الأقصى.

وحول هذا يقول الكاتب والباحث في شؤون القدس، مازن الجعبري، بأن ما يسمى بـ "يوم القدس"، الذي يتزامن مع ذكرى النكبة الفلسطينية، يُستغل سنويا من قِبل المستوطنين الذين يُمثلون الطليعة الأيديولوجية للمشروع الاستيطاني لاستفزاز الفلسطينيين ومهاجمتهم داخل المدينة، من خلال تنظيم اقتحامات منظمة للمناطق الفلسطينية، وعلى رأسها المسجد الأقصى.

ويضيف أن هذه الاقتحامات، التي تتم بحماية قوات الاحتلال، تأتي ضمن مسعى مستمر لفرض وقائع ميدانية بهدف حسم الصراع على المدينة، سواء عبر السيطرة الفعلية على الأرض أو من خلال فرض رموز سيادية ودينية تعبر عن الرواية الصهيونية.

ويؤكد الجعبري أن مسيرة الأعلام، التي ينظمها المستوطنون سنويا في شوارع القدس، تعد من أبرز مظاهر هذه الاستراتيجية الرمزية، إذ يُحشد لها الآلاف من المتطرفين اليهود، ولا سيما من مستوطنات الضفة الغربية، في محاولة لإظهار التفوق الإسرائيلي وتعزيز الشعور بالهيمنة على المدينة. ويرى أن مجمل هذه الممارسات تمثل محاولات ممنهجة لتكريس السيادة الإسرائيلية الرمزية على القدس، خاصة في الفضاء العام والمواقع ذات الحساسية الدينية والوطنية.

إعادة تشكيل المدينة

وشهد الفضاء العام في القدس تحولات تدريجية أدت إلى تغييرات شاملة في ملامحه، وفي هذا السياق يرى الدكتور جمال عمرو أن الزائرين للقدس باتوا يشعرون بالغربة تجاهها، مقارنة بما كانت عليه قبل الاحتلال. ويؤكد أن المشهد العمراني والفضاء العام قد شهدا إعادة تشكيل ممنهجة، لم تقتصر على البُنى المعمارية، بل شملت أيضا العناصر العمرانية غير المعمارية، مثل إشارات المرور، واللافتات، والأسماء الجغرافية. فقد تم استبدال آلاف الأسماء ذات الطابع العربي التاريخي، وتم تغيير مركز المدينة من مفهومه السابق، حيث كانت اللافتات تشير تقليديا إلى "القدس القديمة" ومحيط شارعي صلاح الدين والسلطان سليمان باعتبارهما قلب المدينة. أما اليوم، فإن الإشارات واللافتات الرسمية توجّه القادمين نحو ما يُعرف بـ"مركز المدينة" الإسرائيلي، المؤدي إلى الأسواق والمنشآت التجارية الإسرائيلية، في حين أُقصيت الرموز والمسميات العربية عن المشهد العام، ولم يعد المركز الحضري للمدينة يعكس الهوية الفلسطينية أو يشير إلى مكونها التاريخي العربي.

ويضيف الدكتور جمال عمرو أن كافة المفردات العمرانية والمادية التي طرأت على مدينة القدس تُعد مستجدة، وتشير إلى هيمنة واضحة وشاملة في مختلف مجالات الفضاء الحضري، سواء من حيث العناصر الحضرية، أو الطراز المعماري، أو أساليب البناء، وحتى اللافتات العامة.

ويشير إلى أن هذه اللافتات لا تقتصر على تغيير اللغة أو الاتجاهات، بل تتضمن أيضا محتوى معلوماتيا يحمل طابعا تزييفيا موجّها، لا سيما تلك التي تُعرض للسائحين. فهناك لوحات تعريفية من نوع "أنت تقف هنا"، تُرفَق بخارطة توضيحية، وعند قراءتها بمختلف اللغات يواجه الزائر رواية تاريخية مشوهة وممنهجة. إذ تعرض هذه اللوحات، إلى جانب العروض الإلكترونية المرافقة، روايات تزعم أن اليهود كانوا يقطنون المكان قبل أن "يُطردوا" منه، وأن العرب "استولوا" عليه لاحقا، في حين تؤكد هذه السردية أنهم "استعادوا" المكان بعد عودتهم إليه. ويضرب الدكتور عمرو مثالًا على ذلك بما يُعرض في حي الشيخ جراح، حيث تُقدَّم هذه الروايات بصورة متعمدة لتكريس سردية تاريخية بديلة تنفي الوجود العربي الأصيل في المكان.

ويتابع الدكتور جمال عمرو بأن السلطات القائمة على الاحتلال تمارس، في هذا السياق، عملية تضليل منهجية موجهة إلى السياح القادمين إلى القدس منذ لحظة ترتيب رحلتهم وحتى مغادرتهم للمدينة. ويوضح أن هذا التضليل يبدأ أحيانا حتى قبل الوصول، إذ يُقدَّم للفوج السياحي سرد دعائي يُشوّه صورة الفلسطينيين، من خلال وصفهم بصفات سلبية تنال من إنسانيتهم وموثوقيتهم، ويتم تحذير الزوار من التعامل معهم أو شراء منتجاتهم أو زيارة أسواقهم التقليدية. ويؤكد أن بعض الأدلة، يروج لها السياحيون لا سيما أولئك المرتبطين بالمؤسسات الإسرائيلية الذين يروجون لهذه الخطابات المغلوطة ضمن برامج الرحلات الرسمية، ما يُسهم في ترسيخ صورة نمطية مشوهة عن الفلسطينيين، ويعزز من إقصائهم عن المشهدين الاقتصادي والثقافي في المدينة.

ومن الملاحظ أن سلطات الاحتلال لا تكتفي بالرموز المادية في الفضاء العام، بل تعتمد بشكل متزايد على التوثيق البصري والاستعراض الإعلامي كأدوات لإعادة إنتاج السيادة الاستعمارية. فالكاميرات المنتشرة في أزقة البلدة القديمة، وعمليات التصوير المباشر لاقتحامات الأقصى ومسيرات المستوطنين، تُستخدم لتكريس مشهد السيطرة أمام الجمهورين المحلي والعالمي. ويُراد من هذه الممارسات تصوير القدس كمدينة "موحدة" وخاضعة للسيادة الإسرائيلية الكاملة، ما يحوّل الأحداث اليومية إلى عروض استعراضية ذات طابع سياسي رمزي، تخدم الدعاية الرسمية للاحتلال.

وفي ظل ذكرى النكبة، لا تبدو القدس بعيدة عن مأساة التهجير والاقتلاع، بل يمكن القول إن طابعها البصري يعكس استمرار النكبة بأشكال جديدة. فتهويد الأسماء، وطمس المعالم العربية، وتحويل السردية التاريخية إلى حكاية استعمارية تُكرّس عبر كل إشارة ولوحة وراية، يجعل من النكبة فعلاً متواصلاً، لا مجرد ذكرى. فالفلسطيني المقدسي يُطوّق اليوم برموز تقصي وجوده وتُشكك بانتمائه، في مشهد بصري يقول له إنه غريب في مدينته، وإن الحضور الاستعماري هو "الشرعي" والمتجذر، بينما هو مهدد بالزوال والتهميش.