الخميس  14 آب 2025

صنع الله إبراهيم: رحيل عملاق السرد العربي

2025-08-14 07:28:55 AM
صنع الله إبراهيم: رحيل عملاق السرد العربي
الروائي صنع الله إبراهيم رحل عن 88 عاماً (صفحة الكاتب - فيسبوك)

تدوين- ناديا القطب

توفي أمس، الأربعاء، الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عامًا، بعد صراع مع المرض دام قرابة عام. وقد نعى وزير الثقافة المصري، أحمد فؤاد هنو، الراحل في بيان رسمي، مؤكدًا أن إبراهيم "ترك إرثًا أدبيًا وإنسانيًا خالدًا سيظل حاضرًا في وجدان الثقافة المصرية والعربية، كأحد أعمدة السرد العربي المعاصر".

رفض الجائزة وموقف المثقف المستقل

لم يكتسب صنع الله إبراهيم شهرته الواسعة من أعماله الأدبية فحسب، بل تحول موقفه الجريء من رفض جائزة ملتقى الرواية العربية عام 2003 إلى حدث فارق في تاريخ الثقافة العربية. على مسرح دار الأوبرا المصرية، ألقى إبراهيم بيانًا شهيرًا يعلن فيه رفضه للجائزة المقدمة من الحكومة المصرية، معللًا ذلك بأن "الحكومة التي تمنح الجائزة لا تملك مصداقية منحها". وأكد أن سبب رفضه هو أن الجائزة صادرة "عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد".

شكّل هذا الموقف نقطة تحول كبرى، حيث كان أول معارضة جذرية معلنة لنظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ووجه نقدًا لاذعًا للمؤسسة الثقافية الرسمية آنذاك. وقد أعاد هذا الموقف الاعتبار لمفهوم "استقلالية المثقف"، مؤكدًا على دوره في الوقوف إلى جانب الشعب والتعبير عن آلامه.

في بيانه، تحدث إبراهيم عن تدهور الأوضاع في مصر، قائلًا: "لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته".

مسيرة حافلة بالإبداع والتجريب

تميزت مسيرة صنع الله إبراهيم الأدبية بالتنوع والتجريب. فبعد تحول روايته "ذات" إلى مسلسل تلفزيوني ناجح من بطولة نيللي كريم وإخراج كاملة أبو ذكري، ازداد جمهوره وشعبيته. وقد عرف عنه التزامه الدائم كمثقف طليعي، وكان أول كاتب مصري يتفرغ تمامًا للأدب بعد سنوات من العمل في الصحافة والنشر.

السجن: الجامعة الأولى والمصدر الإبداعي

يعزو النقاد التزام صنع الله إبراهيم السياسي إلى سنوات شبابه، حيث انضم خلال دراسته بكلية الحقوق إلى تنظيم "حدتو" اليساري، مما أدى إلى سجنه لمدة خمس سنوات. وقد وصف إبراهيم تجربة السجن في كتابه السيري "يوميات الواحات" بأنها "جامعته" الأولى، حيث قال: "السجن هو جامعتي. فيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلّمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة، وفيه أيضاً قررت أن أكون كاتباً".

رؤية متناقضة وتجربة واقعية

على الرغم من التزامه السياسي، احتفظ صنع الله برؤية متناقضة تجاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو ما ظهر بوضوح في روايته "1970". وقد عكست أعماله التزامه بفكرة الواقعية، خاصة في رواياته التي تناولت تجربة السجن مثل "شرف"، "التلصص"، و**"يوميات الواحات"**. تميزت هذه الأعمال بدمج سيرته الشخصية مع المتغيرات السياسية والاجتماعية.

في الوقت نفسه، كان إبراهيم رائدًا في استخدام تقنيات سردية جديدة على الأدب العربي، مثل تقنية الكولاج والكتابة التوثيقية، كما في كتابه "إنسان السد العالي" الذي وثّق فيه تفاعل العمال مع مشروع بناء السد العالي. وتأثر بأجواء كافكا، لا سيما في روايته الأولى "تلك الرائحة" التي أثارت جدلًا نقديًا واسعًا، وواجهت نقدًا قاسيًا من القاص يحيى حقي، بينما دافع عنها يوسف إدريس واعتبرها "بداية أصيلة لموهبة أصيلة".

اهتمام بالقضايا العربية والتاريخ

اهتم إبراهيم في أعماله بتناول قضايا عربية شائكة، مثل الحرب الأهلية اللبنانية في روايته "بيروت بيروت" التي مثلت نقطة تحول في مسيرته. كما كانت روايته "وردة" بمثابة رثاء لجيل القوميين واليساريين العرب، متناولًا فشل يوتوبيا ثورة ظفار في سلطنة عمان.

شغف بالتاريخ

بدءًا من رواية "أمريكانلي"، أظهر صنع الله إبراهيم اهتمامًا كبيرًا بالتاريخ، وتناول في "العمامة والقعبة" و**"القانون الفرنسي"** التفاعلات الناتجة عن الحملة الفرنسية على مصر عام 1798. وكان من أوائل من التفتوا إلى شخصيات تاريخية مثل المعلم يعقوب والمؤرخ عبد الرحمن الجبرتي.

في سنواته الأخيرة، نشر إبراهيم أعمالًا إبداعية استندت إلى تجاربه الشخصية في مدن مثل موسكو وبرلين، مستفيدًا من يومياته التي كتبها خلال فترة ابتعاثه لدراسة السينما.

لم تحظَ تجاربه في كتابة الأطفال أو الترجمة بنفس الاهتمام الذي حظيت به أعماله الروائية، رغم نجاح مختاراته المترجمة "التجربة الأنثوية" التي تناولت قضايا الجسد والذكورة والأنوثة.

وبالإضافة إلى شهرته الأدبية، حاز صنع الله إبراهيم على عدة جوائز مرموقة، أبرزها جائزة سلطان العويس، وجائزة ابن رشد للفكر الحر، وجائزة أهلية للمثقف المستقل عام 2016.