تدوين- راما الحموري
يعاني الباحثون في العلوم الاجتماعية غالبًا من تحديات كبيرة عند تناول مواضيع معقدة ومتشابكة مثل الفرد، والمجتمع، والثقافة. فكيف يمكنهم تجنب العشوائية وصياغة مشكلاتهم البحثية بوضوح دون الوقوع في فخ الأفكار المسبقة أو الإغراق في بحر القراءات المبعثرة؟ هذا هو السؤال الذي يجيب عنه كتاب "مناهج البحث في العلوم الاجتماعية: مداخل وتطبيقات" لمؤلفيه لوك فان كامبنهود، وجاك ماركي، وريمون كيفي. صدرت ترجمة الكتاب للعربية عن مركز نهوض للدراسات والبحوث، وأصبح مرجعًا أساسيًا في الجامعات الأوروبية والعربية، لما يقدمه من إطار منهجي صارم.
الحاجة إلى بوصلة منهجية
تتميز العلوم الاجتماعية بتعقيدها الشديد، مما يجعل البحث فيها عرضة للوقوع في فخ الانطباعية والارتجال. يأتي الكتاب ليقدم خارطة طريق منهجية متدرجة، تبدأ من صياغة السؤال الأولي وتصل إلى عرض النتائج. فالمنهجية هنا ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي شرط أساسي للبحث العلمي نفسه.
يؤكد الكتاب على أن جمع البيانات وحده لا يكفي، بل يجب أن يضبط الباحث مساره الفكري والإجرائي منذ البداية، لتحويل البيانات إلى معرفة علمية قابلة للاختبار والنقد. ويهدف المؤلفون إلى تدريب الباحثين على تبني عقلية نقدية، قادرة على إدراك حدود المعرفة وإمكاناتها، مع التشديد على ضرورة التحرر من الأفكار المسبقة والخلفيات الأيديولوجية.
ثلاث عقبات وثلاثة أعمال رئيسية
يحذر الكتاب من ثلاث عقبات شائعة تواجه الباحثين المبتدئين:
شراهة الكتب والإحصاءات: الانغماس في قراءة كم هائل من الدراسات دون منهجية واضحة، مما يؤدي إلى التشويش.
مأزق الفرضيات: البدء في جمع البيانات قبل صياغة فرضيات واضحة، مما يجعل الجهد الميداني بلا هدف.
الإبهام: الغموض في صياغة موضوع البحث، مما يقلل من قيمته العلمية.
لمواجهة هذه العقبات، يضع الكتاب تصورًا منهجيًا قائمًا على ثلاثة أعمال كبرى:
القطيعة: التحرر من التصورات الجاهزة والأحكام المسبقة. يجب على الباحث أن يمارس "انقطاعًا معرفيًا" يسمح له بالنظر إلى الموضوع بعين جديدة، بعيدًا عن التحيز.
البناء: صياغة الإشكالية البحثية، وتحديد المفاهيم والفرضيات. يجب أن تتحول الأسئلة العامة إلى مشكلة بحثية دقيقة وقابلة للدراسة.
التجريب: الجانب الميداني الذي يضع نموذج التحليل على محك الاختبار، ويتضمن جمع البيانات وتحليلها للوصول إلى النتائج.
سبع خطوات متسلسلة للبحث
تتفرع الأعمال الثلاثة إلى سبع خطوات عملية تشكل الهيكل العام للعملية البحثية:
سؤال الانطلاق: صياغة سؤال بحثي دقيق وواقعي قابل للإجابة.
الاستكشاف: القراءة المنهجية وإجراء المقابلات الاستكشافية لفهم ما وصل إليه البحث في المجال.
الإشكالية: تحويل سؤال الانطلاق إلى أساس نظري للبحث.
بناء نموذج التحليل: وضع المفاهيم والفرضيات في إطار متسق.
الملاحظة: جمع البيانات ذات الصلة لاختبار الفرضيات.
التحليل: استخدام الأدوات الكمية أو النوعية لفحص صحة الفرضيات وتفسير النتائج.
الختم: صياغة النتائج النهائية، وتقديم التوصيات، وتحديد آفاق بحثية جديدة.
تكمن أهمية الكتاب في قدرته على الجمع بين وضوح العرض وعمق المعالجة، فهو لا يقدم قوالب جامدة، بل يمنح الباحث خطة مرنة تتكيف مع طبيعة الموضوع. ورغم أن أصله أوروبي، فإن إطاره العام يمكن تكييفه مع البيئات العربية، مما يجعله مرجعًا قيمًا يغرس في الباحث روح التفكير النقدي ويمنحه الأدوات اللازمة لبناء معرفة علمية راسخة.