الأحد  28 أيلول 2025

في "حرب المعلومات": العقل ساحة المعركة الجديدة.. والدول تقود الجيوش الرقمية

2025-09-27 08:18:53 AM
في

 

تدوين- ناديا القطب

لم تعد الحروب تقتصر على الدبابات والخنادق، ففي القرن الحادي والعشرين، برز ميدان قتال جديد وأكثر خفاءً وخطورة: "حرب المعلومات". هذا ما يكشفه الباحث الفرنسي دافيد كولون، المتخصص في تاريخ الدعاية وأساليب التلاعب الجماهيري، في كتابه الأخير الذي يحمل نفس الاسم، وصدر مؤخراً عن دار نوفل/هاشيت أنطوان، بترجمة أدونيس سالم.

على مدى 380 صفحة، يفكك كولون آليات هذه الحرب المعاصرة التي تُدار بعيداً عن مرأى الجميع، مؤكداً أن ساحتها الحقيقية ليست الأرض، بل عقولنا نحن. ويشير الكتاب إلى أن هذه المعركة باتت تتفوق بأهميتها على الحرب التقليدية العسكرية، إذ تكمن فيها القوة الجوهرية التي تدير النظام العالمي الراهن.

أخطر من التقليدية: تداخل السلم والحرب واللجوء للمرتزقة الرقميين

يقدم كولون تعريفاً صادماً لحرب المعلومات، ينسف الفروقات التقليدية التي نعرفها. فهو يرى أنه "بعكس الحرب التقليدية، ليس لحرب المعلومات بداية ولا نهاية". هذا الطابع اللامحدود يجعلها حالة دائمة من الاشتباك تتجاوز حدود الزمن، وتُبقي الدول في حالة "استعداد قتالي" دائم على الصعيد الإدراكي والسيبراني.

ولعل أخطر ما يميز هذه الحرب هو "ضياع الاختلافات التقليدية بين حالتي الحرب والسلم، وبين العمليات الرسمية والعمليات غير الرسمية". فالدول، بحسب كولون، تلجأ بشكل كثيف إلى "متعاقدين خارجيين ومرتزقة" لتنفيذ عملياتها. هذه الظاهرة تجعل من الصعب تتبع مصدر الهجمات وحملات التضليل، إذ يمكن لأي مجموعة قرصنة إلكترونية أو حسابات وهمية أن تكون واجهة لقوة عظمى تسعى لتنفيذ أجندتها السياسية دون ترك بصمات رسمية.

ويوضح المتخصص في الدعاية أن حرب المعلومات هي حرب غير متماثلة، حيث تتسلل القوى العظمى إلى المشهد الإعلامي والرقمي للدول الأخرى من خلال أدوات تبدو مدنية أو تجارية، مما يجعل من الصعب على الدول المستهدفة الدفاع عن نفسها أو تحديد هوية المهاجم بوضوح. هذه "الضبابية" في المساءلة هي السلاح الأقوى في يد من يشنون هذه المعارك.

عسكرة المعلومات وتحول المواطن إلى "جندي محتمل"

يؤكد الكتاب أن المشهد الجيوسياسي قد تغير جذرياً منذ نهاية الحرب الباردة، وبالأخص مع بزوغ عصر الإنترنت ووسائل الإعلام العالمية. هذا التطور لم يرافقه سوى "عسكرة المعلومات" من قبل الدول. بمعنى آخر، لم يعد الوصول إلى المعلومة مجرد حق أو أداة تواصل، بل أصبح سلاحاً استراتيجياً يُستخدم لتعزيز النفوذ والهيمنة.

باتت قوة الدول— سواء كانت صلبة (عسكرية)، أو ناعمة (ثقافية ودبلوماسية)، أو حادة (Sharp Power)— تعتمد على قدرتها في تسخير وسائل الاتصال والإعلام لخدمة مصالحها. النفوذ اليوم يُقاس بمدى القدرة على تشكيل الرأي العام وتوجيه المزاج الشعبي.

هنا، يتخذ ميدان المعركة بُعده الأكثر إثارة للقلق: "توسّعت ميادين المعركة لتجعل من كلّ مواطن جندياً محتملاً". ففي حرب المعلومات، لا تُستهدف القواعد العسكرية أو المؤسسات الحكومية فقط، بل يُستهدف وعي الفرد ومعتقداته وقراراته. كل شخص يشارك معلومة مضللة، أو يروّج لخطاب معين، يتحول دون قصد أو بقصد، إلى قناة لنشر رسائل الدولة المهاجِمة.

الذكاء الاصطناعي و"الحرب الإدراكية": استهداف العقول مباشرةً

يسلط كولون الضوء على أن حرب المعلومات اليوم تستغل أدوات معاصرة لزيادة فعاليتها، وفي مقدمتها: الحرب السيبرانية، ونشر المعلومات المضللة، واستغلال نظريات المؤامرة.

في عصرنا الحالي، ومع الطفرة غير المسبوقة في الذكاء الاصطناعي (AI)، أصبحت التحديات أعقد بكثير. الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على إنتاج محتوى مزيف عالي الجودة (Deepfakes)، وتخصيص الرسائل التضليلية لاستهداف شرائح محددة من السكان بفعالية لم يسبق لها مثيل. هذا الارتقاء التقني هو الذي دفع الكتاب لوصف المعركة الحالية بأنها "حرب الإنترنت" الضارية و"الحرب الإدراكية".

ويكشف كولون أن مسرح هذه الحرب الرئيس هو وسائل التواصل الاجتماعي. هذه المنصات التي كانت تهدف إلى ربط الناس، تحولت إلى مسرح عمليات لا تعرف "رحمةً ولا نهايةً"، حيث تُستهدف عقولنا بشكل مباشر وغير منقطع.

إن المتخصصين الذين يصفهم كولون— من جواسيس، ودبلوماسيين، وصحافيين، وقراصنة إلكترونيين— هم المنفذون لهذه الاستراتيجيات. فهم يعملون كـ "مرتزقة" رقميين يغرقون الفضاء الرقمي في حملات تضليل منظمة، تهدف إلى زعزعة الثقة في المؤسسات، وإثارة الفوضى الداخلية، وتشكيل مواقف سياسية تتوافق مع مصالح مموليها.

في الختام، يقدم كتاب "حرب المعلومات" تحليلاً عميقاً لكيفية تحول المعلومة من أداة للتنوير إلى سلاح للسيطرة، داعياً القارئ إلى إدراك دوره كهدف أساسي في هذه المعركة التي لا تنتهي، والتي تهدف إلى التحكم في أهم الميادين على الإطلاق: الوعي البشري.