تدوين-يحدث الآن
تفتتح الفنانة الفلسطينية ديما السروجي معرضها الفردي الأول في العاصمة البريطانية بعنوان "كونية من المشاهد المقدسة – A Cosmogram of Holy Views"، في غاليري Ab-Anbar، من 10 تشرين الأول وحتى 29 تشرين الثاني 2025. يعد المعرض إطلالة فنية قوية وبيانا بصريا سياسيا حول الذاكرة، والعمارة، ومحو الاستعمار، والجغرافيا المقدسة لفلسطين.
ينقسم المعرض إلى ثلاثية فنية (triptych) موزعة على ثلاث مساحات مختلفة، تحمل كل واحدة منها ثيمة مركزية: الجسد، الروح، والأرض. من خلال هذه المحاور، تستعيد السروجي شذرات من الحضور الفلسطيني المادي والمعماري والعاطفي، عبر أفعال رمزية من إعادة البناء، والطقوس، والرفض.
تدمج السروجي بين وسائط متعددة: الزجاج المنفوخ، الصور الأرشيفية، النصوص، الخرائط، الحفر على الحجر، النحت بالشمع، وتقنيات التصوير ثلاثي الأبعاد. من خلالها تنسج الفنانة ما تسميه "كونية" ليست خريطة سماوية، بل خريطة متجذرة في الذاكرة الفلسطينية، حيث تصبح القداسة مرتبطة بشكل عضوي بالأرض والتاريخ والجسد.
بين القداسة والخراب
يتناول المعرض التوتر العميق بين الطريقة التي يتخيل بها الغرب "الأرض المقدسة" بصفائها وسموها الديني والواقع الفعلي للاحتلال، والتشريد، والدمار. تقدم السروجي أعمالا تستحضر مشاهد الانهيار، لكنها تخلق منها مساحات للإصرار والبقاء والتجذر.
في إحدى أبرز القطع، توظف صورا أوروبية للعائلة المقدسة وتدمجها بمشاهد من طفولتها في الناصرة خلال حرب الخليج الأولى، حيث لم توزع أقنعة الغاز على الأطفال الفلسطينيين، ما أدى إلى اختناقها كطفلة. هنا، تضع الفنانة الجسد الفلسطيني في مواجهة الروايات المقدسة المسيطرة، وتفكك الأسطورة عبر شهادة شخصية حية.
في أعمال أخرى، تصنع السروجي نماذج شمعية لأطراف بشرية بعضها مستوحى من جسدها، وبعضها لأطفال استشهدوا في العدوان الإسرائيلي على غزة. تقول: "هذا هو الشيء الوحيد الذي أبقاني عاقلة خلال الشهور الماضية من الإبادة... الشمع يشبه الجلد، فيه دفء ما".
هذه الأعمال تعيد قراءة القرابين الكنسية (votives)، لكنها هنا تتحول إلى طقوس حزن ومقاومة، تكرم من خلالها شهداء العدوان وتعيد الجسد الفلسطيني إلى مركز السرد.
كما تصنع مجسما من عرق اللؤلؤ لمنزل جدتها في الناصرة، مستخدمة تقنيات يدوية كانت تُستخدم تقليديا لصنع ذخائر الكنائس. بيت "عادي تماما" كما تصفه، لكنه يرمز إلى ذاكرة عائلية تاهت بين التهجير والتهميش. تقول السروجي إن "لا أحد سيعيش في هذا البيت مجددا"، في إشارة إلى تحول المكان من مساحة حياة إلى أثر مُقدس مهجور.
سؤال المقدس… ومن يستحقه؟
المعرض لا يخجل من طرح أسئلة شائكة: ما هو المقدس؟ من يعد مقدسا؟ ومن يسمح له بالانتماء إلى هذه الأرض؟
في أعمالها الزجاجية والحجرية، تفرغ السروجي المزارات من الذخائر، تاركة إياها خاوية بشكل متعمد، لتعلن أن القداسة ليست في المحتوى بل في المكان نفسه، المزارات، البيوت، الأجساد، الذاكرة.
"كونية من المشاهد المقدسة" هو أكثر من مجرد معرض: إنه خريطة مقاومة بصرية وروحية تعيد رسم الهوية الفلسطينية، وتصرّ على الحضور في وجه المحو. تقول السروجي: "أريد أن أطارد الناس... أن أفرض حضورنا كي لا نمحى".
بهذه الكلمات، تلخص الفنانة رسالة المعرض الذي يُعد من أكثر المعارض طموحا هذا العام، من حيث جمالياته، وحمولته السياسية، واستفزازه الفكري.