الخميس  30 تشرين الأول 2025

عشرون خطبة لطه حسين تخرج للنور لأول مرة

2025-10-29 08:17:16 AM
عشرون خطبة لطه حسين تخرج للنور لأول مرة

تدوين- أسماء العزبي

بعد أكثر من نصف قرن على رحيل طه حسين (عميد الأدب العربي)، وعشرات الدراسات والمؤلفات التي تناولت إرثه، ما زال صوته يجد طريقه للظهور من جديد، كاشفاً عن جوانب خفية من نشاطه الفكري والسياسي. ففي خطوة تُعد بمثابة "تنقيب أثري" في ذاكرة الثقافة العربية، صدر حديثاً عن دار إشراقة في القاهرة كتابٌ بعنوان "خطب طه حسين المجهولة". يضم هذا الكتاب عشرين خُطبة نادرة لم تُجمع أو تُنشر من قبل في مؤلف واحد، مقدماً وجهاً جديداً للعميد بصفته خطيباً ومُناظراً في المحافل الثقافية والسياسية.

رحلة "عالم الآثار" لسامح الجباس

لم يكن الوصول إلى هذه النصوص بالأمر الهيّن. فقد تجشّم الروائي والباحث المصري سامح الجباس عناء سنواتٍ من البحث الدقيق في أرشيف الصحف والمجلات القديمة المبعثرة، واصفاً رحلته البحثية بأنها أشبه بـ"تنقيب أثري في صحراء النسيان". يوضح الجباس في مقدمته للكتاب حجم التحدي، مُشيراً إلى صعوبة البحث في عام 2025 عن خُطبة أُلقيت قبل 97 عاماً، مثل خطبته في تأبين السياسي عبد الخالق ثروت عام 1928. لقد كانت مهمته في جمع هذه النصوص الشفاهية التي لم يُكتب لها أن تُجمع في حياة طه حسين، أو أن يُهتم بها ممن كتبوا عنه لاحقاً، مهمةً تماثل مهمة "عالم الآثار الذي يبحث عن مقابر فرعونية مجهولة المكان وسط صحراء لا حدود لها".

لكن القيمة الاستثنائية للهدف – وهو إعادة الحياة لهذه النصوص – كانت دافعاً كافياً لتحمّل عناء البحث. الكتاب، في مجمله، لا يقتصر على عرض النصوص فحسب، بل يضيف إليها قيمة وثائقية عالية. حيث يسبق كل خُطبة نبذة سريعة عن المناسبة، وسياقها التاريخي، وتاريخ ومكان إلقائها، ثم يُعقّب عليها الجباس بملاحظات تحليلية تُبين أهميتها وتأثيرها. هذا المنهج يمنح القارئ تجربة متكاملة لفهم خطاب طه حسين في سياقه الزماني والمكاني، مُسلطاً الضوء على وعيه العميق بقضايا عصره.

قضايا حاضرة برؤية سابقة لزمنها

تتنوع موضوعات الخطب العشرين لتشمل قضايا سياسية وثقافية وفكرية ساخنة، ما زالت تحتفظ بحضورها وأهميتها في المشهد الثقافي العربي حتى اليوم. يكشف الكتاب عن صوت طه حسين المفكر والمنظّر الذي كان سبّاقاً في طرح إشكاليات لم يكن الوعي بها قد اكتمل بعد. تتناول الخطب قضايا محورية مثل مصير اللغة العربية، مُحذّراً من الخطر القادم على اللغة ومستقبلها إن لم تُصن وتُجدَّد، ومن "هوان اللغة العربية على الناس"، ومشدداً على ضرورة تبسيطها ونهوضها مع مقتضيات العصر. كما تناقش أهمية الشعر ودوره ومواجهة الصعوبات التي تواجه الأدباء وتصيبهم بالإحباط واليأس، ودور الأديب في مواجهة التحولات الاجتماعية. بالإضافة إلى رؤيته المبكرة لـأزمة التعليم وضرورة إصلاح المناهج والنظام التعليمي، ودور المثقف في نهضة المجتمع وتوجيهه نحو المستقبل، والتزامه تجاه قضايا أمته. هذه الموضوعات تكشف أن طه حسين لم يكن منشغلاً بالتراث الأدبي فحسب، بل كان مفكراً استشرافياً، يربط بين الماضي والحاضر، ويحذر من تحديات المستقبل.

أقسام الكتاب: خرائط لخطاب العميد

نظّم سامح الجباس الكتاب في ثلاثة أقسام رئيسية، ليرسم خريطة واضحة لخطاب طه حسين في المحافل المختلفة. يضم القسم الأول، وهو الأكبر، الخطب التي ألقاها العميد في محافل ثقافية وأدبية داخل مصر، وعددها 13 خُطبة، مُلقياً الضوء على نشاطه في مجمع اللغة العربية، ووزارة المعارف، والمؤتمرات الأدبية. من أبرزها رسالته إلى وزير المعارف (1938) التي دعا فيها إلى تيسير النحو وإصلاح الكتابة مواكبةً للنهضة الحديثة. كما تضمن كلماته بمناسبة استقبال كبار الأدباء أعضاءً جدداً في المجمع، وخطاب "الأدب والقومية العربية" الذي ألقاه في الدورة الثالثة لمؤتمر الأدباء العرب بالقاهرة (1957). وتبرز في هذا القسم خطبته الطريفة لاستقبال الكاتب توفيق الحكيم في مجمع اللغة العربية (1954)، حيث يداعب العميد "الحكيم" في ذكاء لغوي قائلاً له: "أنت تتكلف من الخصال ما ليس فيك، أنت جوّاد وتزعم أنك بخيل، وأنت ماهر ماكر، ومداور ومناور، وتزعم مع ذلك أنك ساذج"، ما يظهر روح الدعابة والذكاء الذي ميز العميد حتى في المناسبات الرسمية. وشمل القسم أيضاً كلمته بصفته وزيراً للمعارف بمناسبة احتفال الوزارة بحصول الزعيم الإيراني محمد مصدق على الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة فؤاد الأول (1951).

أما القسم الثاني فيرصد جولات طه حسين الثقافية خارج مصر، حيث ألقى خطباً في عدد من الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية، لبنان، سورية، وتونس. في هذه الخطب، عبّر العميد عن رؤيته لدور الأدب والثقافة في تعزيز الهوية العربية الجامعة والانفتاح المسؤول على العالم. ومن هذه الخطب، الخطاب الذي ألقاه بصفته رئيس اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية في حفل الأساتذة المصريين في مكة المكرمة (1955)، ومحاضرته في كلية المقاصد الإسلامية ببيروت (1955) بعنوان: "لمن يكتب الأديب... للخاصة أم للعامة؟"، وكلمته في افتتاح المؤتمر الأول للمجامع اللغوية العربية في دمشق (1956)، حيث شدد على وحدة العمل اللغوي العربي.

ويُخصص القسم الثالث لردود طه حسين المكتوبة على استطلاعات الرأي والقضايا الفكرية التي طرحتها عليه مجلات وصحف عربية في خمسينيات القرن الماضي، والتي تأخذ شكل المقالات الصحفية المُعمقة. في ردّه على مجلة الهلال حول موضوع "نهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية"، قدم طه حسين رؤية متوازنة لآلية الاقتباس من الحضارة الغربية، داعياً إلى التمييز بين حقول المعرفة، مؤكداً: "في العلم، يجب أن نندفع في الطريق العلمية الغربية اندفاعاً لا حدّ له إلا مقدرتنا الخاصة... وعلى العكس من ذلك، في الفن والأدب والحياة الاجتماعية، فلنا فنوننا وآدابنا ونظامنا الاجتماعي. وواجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة في هذه الأشياء". هذا الموقف يلخص فلسفة طه حسين في الحداثة، التي تدعو إلى الأخذ بكل أدوات العصرنة في العلم، مع الحفاظ على الشخصية القومية في الفن والأدب والنظام الاجتماعي.

إرث لا ينضب

إن كتاب "خطب طه حسين المجهولة" لا يقدم مجرد نصوص جديدة، بل هو وثيقة تاريخية تُعيد تشكيل صورة عميد الأدب العربي كمفكر وناشط سياسي وثقافي لا يهدأ، ومُدافع شرس عن اللغة والعقل والحرية. هذا الكشف يؤكد أن الإرث الثقافي لطه حسين ما زال ينطوي على كنوز بانتظار من ينفض عنها غبار الزمن، ليظل صوته حاضراً ومؤثراً بعد عقود من رحيله.