الحدث - ال مش مواطن / بقلم جوده أبو خميس
شاءت الصدف أن أتورط رغم أنفي بحضور ندوة اقتصادية حول الفرص الاستثمارية المتاحة في دولة فلسطين العظمى، وقد أشبعني المتحدثون تفاؤلا بالبيئة الاستثمارية المنافسة لأعظم الاقتصاديات في منطقتنا، حتى كدت أعتقد بأن حرب ترمب علينا أسبابها اقتصادية محضة، وليس كما يدعي المحللون بأنها أيدولوجية يمينة معمدة بفكر ومبادئ "الإنجيليون الصهاينة الجدد". خرجت من الندوة متفائلا بمستقبل أحفادي، حيث سيهبط علينا المستثمرون من كل العالم، وسنشهد بفعل بيئتنا الاستثمارية انخفاضا بنسب البطالة إلى مستويات قياسية، قل نظيرها في العالم.
المهم أنه بعد أيام نمى إلى علمي بأن "صندوق التقاعد" السيادي هرول برئيسيه إلى المغرب باحثا عن فرص استثمارية هناك بشراكة مع شخصيات وازنة من القطاع الخاص، ممن يعمرون البلد شقة شقة، ويتحفوننا من زادنا ومخللاتنا بما لذ وطاب، حيث قاموا بغزوتهم هذه متوقعين فتحا مبينا في عالم النخيل والخيرات، والمنح والعطايا من آلاف هكتارات الأراضي القاحلة لتخضيرها، مستندين بذلك إلى قناعتهم بأن المغاربة سيهبون لتلبية مطالبهم كرمال عيون التضحيات الفلسطينية، وطيبة قلوب المغاربة وتضامنهم مع تضحياتنا.
حقيقة الأمر بأن تنافس المسؤولين على الإسهاب في إطراء منظومة البيئة الاستثمارية، وتقييدها بإجراءات إسرائيلية عدوانية، لا تعدو كونها دعاية سخيفة في مشهد بارد وممل، حيث إن هذه البيئة منظمة ومقولبة لمنع التأسيس لاقتصاد وطني يكون صالحا لقيام دولة فلسطينية قادرة على سد الحاجات الأساسية لمواطنيها، وإن كنت مخطئا في ما أدعي، فيا ليت تفسير بعض مظاهر التخلف الاقتصادي المستشرية، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلا في الوقت الذي يكاد العالم أن ينجز التحول إلى اقتصاديات افتراضية وعابرة الحدود والقارات، هل يدلني أي شخص على أسباب الإصرار على إبقاء الاقتصاد الفلسطيني محكوما بقوانين اقتصادية تعود إلى عام 1929 في غزة و1964 في الضفة الغربية؟، وهل يدلني أي شخص على أسباب عدم التدخل في أسعار وعمولات ورسوم المصارف، التي تفرضها على المستثمرين والأفراد مستندة إلى شرعية منحتها سلطة النقد الفلسطينية، ولماذا علينا أن ندفع رسوم ومصاريف الاتصالات والإنترنت أضعاف تكلفتها، لدرجة أن أرباح المشغل الأول لا تقل عن 65% من رأسماله، وفي الوقت الذي تتعاظم فيه حركة تهريب المقاصة في التجارة مع إسرائيل للتهرب من دفع ضريبة الدخل، تقوم وزارة المالية بالتوجه لرفع نسبة هذه الضرائب، وتفرض رسوما وجمارك جديدة يوميا تقريبا، إضافة إلى مسرحية التباكي على ضياع الوطن تحت أقدام المستوطنين والمستوطنات ليلاً، والتزاحم للتجارة والعمل والبناء فيها نهارا... والأمثلة كثيرة.
ما أود التنويه له هنا بأن اقتصادنا "الوطني" هو اقتصاد محتل مرتين، الأولى بقيود دولة الإحتلال، التي ندفعها في كل لحظة ثمنا لاستمرار الإحتلال، والثانية عبر قيود ذاتية تعكس قصورا فاضحا في النظام السياسي لعدم منحه الأولوية لتوسيع رقعة فضاء بيئتنا الإستثمارية، حتى يصبح بحث صناديقنا السيادية عن فرص استثمارية خارج الوطن معادلا للخيانة الوطنية.
وعود على ذي بدء، فإن صندوق التقاعد الذي يعاني من عجز يفوق التسعة مليارات شيقل بسبب تخلف السلطة عن الوفاء بالتزاماتها الشهرية تجاهه، ولا يتمتع مجلس إدارته بالخبرة والحصافة في مجال الإستثمار، ولا ترتكز إدارته التنفيذية في قرارتها الاستثمارية الى تقييم وآراء خبراء حقيقيون في الاستثمار وإدارة الصناديق الاستثمارية، محكوم بالخسارة والفشل إن لم تتسم قرارته بالحكمة العميقة، ويلتزم بربط مصير استثماراته بالحالة الوطنية.
لهذا كله، فإن مجرد قيام صندوق التقاعد بالبحث عن فرص استثمارية خارج فلسطين، سواء كانت في المغرب أو بلغاريا أو رومانيا أو أي مكان خارج فلسطين، تحت جنح الظلام، وبمساعدة أشخاص بأسمائهم، الذين تحكمهم العلاقات الشخصية بالقيمين على الصندوق، وإدارة الظهر لاستثمار جميع مواردهم في اقتصادنا المحلي، يعتبر من وجهة نظري فضيحة تستدعي المساءلة المجتمعية والرسمية. وبدلا من إهدار الموارد على سفريات المسؤولين، الهائمون والهائمات على وجوههم بحثا عن مستثمر هنا أو مستثمر هناك، لإقناعه بالمقامرة عندنا، فالأولى بنا الإلتفات الى دواخلنا والتمعن في ما نحن فاعلون في مسيرة تدمير البيئة الإستثمارية بقوانين وإجراءات وممارسات عقيمة، عندها فقط نكتشف الحل السحري لمعضلة شح الإستثمارات الوطنية والوافدة، والأهم نستعيد زمام المبادرة السياسية والولاء الشعبي، حيث لا تقنعوني بأن الأفواه الجائعة قادرة على دفع الثمن الفردي والجماعي لتحرير الوطن، ومنحه هدية للمتخبطين في تيه تدمير الإقتصاد، غافلين عن أن مفتاح التغيير يأتي من هنا، كما قالها ذات يوم جميس كارفيل عندما كان يوقد الحملة الانتخابية لبيل كلينتون ضد منافسه جورج بوش الأب ... "إنه الاقتصاد يا غبي".
ضبي الطابق يا عبير وشوفيلك تقاعد ... فاحت ريحتنا