الجمعة  22 تشرين الثاني 2024

عيل صبري

ال مش مواطن

2019-02-11 12:54:47 PM
عيل صبري
الممثل المصري أحمد زكي

الحدث - ال مش مواطن - بقلم: جودة أبو خميس

أنا من أشد المعجبين بالممثل الراحل أحمد زكي وتراثه الغني بأعمال سينمائية تستحق المشاهدة مرارا، ويحضرني في زاويتي اليوم ما قاله الممثل بعد أدائه قسم اليمين وزيرا في فيلم "معالي الوزير"، حيث قال "أقسم بالله العظيم أن أحترم هذه الصدفة التي جعلتني وزيرا وأن أحسن استغلالها وأن أحافظ مخلصا على سلامة منصبي وأن أبذل جهدي لخدمة هذا الشعب... هذا الشعب المكافح"، والبقية معروفة لكل من شاهد الفيلم، حيث قام الوزير بكل ما يستطيع للعمل خلافا لهذه المقولة، وكرس وزارته لتكديس حساباته البنكية ونهب المال العام.

ما دفعني إلى استحضار هذا المشهد أن معظم وزرائنا، والعديد منهم تم تنصيبهم بناءً على صدفة سياسية أو فئوية أو قبلية، يستخدمون الموقع لنهل ما يستطيعون من جاه المنصب وعطاياه، وفي ظل تعطيل المجلس التشريعي وحله مؤخرا غاب مبدأ المساءلة، وانطلق كل مسؤول في فضاء المنصب مسيرا بضميره ومصالحه وولاءاته، وغير مكترث للمساءلة الإدارية والمهنية التي تقع في آخر أولويات نظامنا السياسي.  وبذلك أصبح الوزير والمسؤول حاكما مطلقا في وزارته أو مؤسسته، وتحول مع مرور الزمن من مجرد موظف عام بدرجة عليا إلى خليفة ووال في موقعه، بعيدا عن متطلبات حمل الأمانة وتكريس وزارته لخدمة أبناء شعبنا والمساهمة في "معركة البناء"، في ظل أوسلو العرجاء.

تعتبر وزارة التربية والتعليم نموذجا، فعلى الرغم من نشاط الوزير وديناميكيته، وحظوته لدى النظام، فإن مسيرته لم تتوج بإنجازات استراتيجية، برأيي، في مجال إنقاذ التعليم من براثن النمطية والتلقين.  فالشواهد كثيرة على تدني مخرجات التعليم، واتساع الفجوة بين التعليم العام والجامعي،  واستمرار العمل بنظام التلقين، والتخلف عن مواكبة الجوانب المعرفية والتكنولوجية، والضعف الشديد في التعليم التقني، وغياب التقييم المستقل والدوري لمحتواه، وتم تحويل مجلس التعليم العالي إلى منتدى وبوابة للمحاصصة، وقزمت صلاحياته، أما فسائلنا فإن رادارها لا ولم يلتقط الكارثة الكبرى المتمثلة بانهيار هذه المنظومة التي كانت في يوم ما طوق نجاتنا.   وقد أدى هذا التراجع الخطير في جودة التعليم ومستواه إلى واقع يكاد فيه النظام التعليمي يتخصص في محو الأمية، ويعمل على ضخ خريجين من الجامعات، بالكاد يستطيع بعضهم كتابة جملة مفيدة بدون أخطاء، إلى سوق العمل، هذا إن تمكن القارئ من فك طلاسم كتاباتهم. علما بأن الوزير الحالي مسؤول جزئيا عن هذا الواقع، وللتاريخ لا بد من التأكيد أنه تولى المنصب ومسيرة التعليم في حضيضها.

للأسف الشديد، تحول التعليم في فلسطين من أداة كفاحية اقتصادية وسياسية ومصدر رزق لأغلبية أسرنا، إلى شهادات على الجدران وأرقام فلكية في البطالة بين الخريجين.  وقد أصاب الوهن والدمار كافة أركان ومحاور العملية التعليمية، وهي المنهاج والمعلم والطالب والإدارة التعليمية والبيئة الاجتماعية.

وبينما يصول وزير التربية والتعليم العالي ويجول في فضاءات الفيس بوك والإعلام المحلي مبشرا بإنجازات عظمى وغير مسبوقة، وتبذل جوقته جهودا جبارة للاحتفاظ بمساحة إعلانية إعلامية "لإنجازاته"، ولا تكاد تمر علينا ساعة بكامل دقائقها دون أن يطل علينا بالصورة أو بالصوت أو بالكلمة، يستمر قطاع التعليم بمسيرة التيه والتجهيل وقتل روح الإبداع لدى كافة الشركاء في العملية التعليمية، ما بين طالب مكتشف للفجوة القاتلة بين ما تعلمه من معارف ومهارات وما يطلبه سوق العمل، ومعلم يتنقل ما بين تعليم فلذات أكباده الطلبة صباحا والخدمة عليهم بعد الظهر في المقاهي والتكاسي وغيرها ليتمكن من توفير لقمة عيش كريم لأطفاله.

هناك شواهد كثيرة على أن الوزير "المعجزة" يعمل متفرغا لتكييش مزايا المنصب، فقد كانت أولى غزواته وزيرا توقيع اتفاقية مذكرة تفاهم مع رئيس مجلس إدارة المؤسسة الفلسطينية للتعليم من أجل التوظيف، التي هو عضو في مجلس إدارتها. ولم يكد حبر هذا التوقيع أن يجف حتى وقع اتفاقية مع مؤسسة شركاء في التنمية المستدامة – نت كتابي لاستخدام أجهزة نت كتابي في الوزارة، وهو الذي كان رئيسها التنفيذي إلى حين تقلد منصب الوزير، وما كاد يتربع على كرسي المنصب حتى انطلقت مسيرة التخليد والتأليه لهذا الوزير لدرجة إطلاق مسابقة رسمية في المدارس باسمه وهي مسابقة "مهارات اللغة الإنجليزية"، والأمثلة كثيرة على مدار فترة تولي الوزير لمنصبه.
للإنصاف، وبالاستناد إلى ما أقرأ حوله، فإن الوزير المذكور حافل بالمبادرات والأفكار التي تستحق التوقف عندها، وربما تبنيها، ولكن تقزيم هذا المبادرات وتوجيهها لخدمتها معيب جدا، ويقتل نبل هذه الأفكار وأهميتها، ناهيك عن احتمال مخالفته في ذلك للقانون.
نحن اليوم على أعتاب تشكيل حكومة معجزات جديدة، والتي قد يطول أمد تشكيلها لأسباب مختلفة، وما لم يتم بالضغط الشعبي والمدني والفسائلي لإخضاع تمثيل الحكومات لاعتبارات وطنية ومهنية، وليست شخصية وجهوية وقبلية، فإننا سنشهد في نهاية المطاف حكومة جديدة بشخوصها الممتنون لهذه العطية الإلهية، ولكنها تلبس نفس الثوب، وتستند بأفرادها إلى الولاء المطلق لشخص، وتفرغهم لتقديم فواتير التعيين حتى يستمر التصاقهم بالكراسي، وتستمر الحياة. أما مسألة المساءلة والبرنامج والإنجازات المنتظرة، فهذه أمور ثانوية لا تستحق مجرد التفكير فيها.
إن مسيرة التيه في التعليم، وهو عماد صمودنا واستمرارنا بالحياة، يتطلب وضع جودته فوق كل اعتبار، ولكن غياب مبدأ المساءلة سيحول دون التقدم في هذا المجال.  لهذا السبب، وأسباب أخرى كثيرة، لا بدم من الدق على جدران خزان الانتخابات الرئاسية والتشريعية، والضغط لعقدها حتى حزيران القادم، شاء من شاء وأبى من أبى.  وحتى يتم ذلك، لا بد للمجتمع المدني وما تبقى في الفسائل ممن لديهم الحد الأدنى من الحرص على ما تبقى من وطن وكرامة واستعداد للصمود، أن يقتدوا بتجربة الحراك، ويتحركوا قبل فوات الأوان.


ضب الطابق يا ريس واطلع المرسوم