الأحد  22 كانون الأول 2024

“الأنا والآخر في رواية مرايا إبليس”

2014-06-24 00:00:00
 “الأنا والآخر في رواية مرايا إبليس”
صورة ارشيفية

للكاتبة: منى الشرافي تيم

بقلم: أمين دراوشة

من جلد الذات إلى نقدها

لا شك أن الأدب الفلسطيني عانى ما يسمى بعقدة الذنب النابعة من العجز والعقم عن فعل شيء ذي قيمة أمام التحديات التي واجهها الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.

ففي بداية صعود الأدب الفلسطيني، كان هناك شعور بالذنب، لأن الكتاب الفلسطينيين، أرادوا التغيير والنهوض بالمجتمع، ولكنهم وقفوا عاجزين أمام آلة الحرب والدمار الصهيونية، وأمام الأوضاع المزرية للمجتمع، حيث عمل الاستعمار الإنجليزي على إبقاء السكان في أوضاع غاية في السوء، عبر حرمانهم من التعليم وممارسة السياسة...، وتمهيده الطريق وتعبيدها للحركة الصهيونية للسيطرة على الأرض الفلسطينية.

ووقف المثقف الفلسطيني عقيماً، ولا يلوي على شيء في إحداث التغيير المجتمعي القادر على الوقوف بقوة في وجه الهجمة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية، ففشل في زحزحة القيم والعادات والسلوكيات والأفكار الغيبية، فكان لقسوة الواقع المعاش أن دفع المثقف الفلسطيني للبحث عن طريق للخلاص. وكان للشعور الطاغي بالعجز أن جعل المثقف يقف ويفكر، ويحاول إيجاد تفسير لهذا العجز المدوي، وأوصله هذا الأمر إلى جلد الذات، والذي وصل ببعث الكتاب أن حملوا أنفسهم والشعب الفسطيني مسؤولية الهزيمة القاسية في 1948م، و 1967م.

ولعل بعض روايات غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا في بدايات كتاباتهم، مثال على جلد الذات.

وكان لثورات الشعب الفلسطيني المتتالية دورها في التأثير على الكتاب الفلسطينيين، الذين انتقلوا (وخاصة بعد صمود بيروت وانتفاضة 1988م، وانتفاضة 2000م)، من جلد الذات المقيت، ورميها بكل سوئها إلى النقد البناء، الذي ينظر للإيجابيات والسلبيات، وتسخير الفكر النقدي لنقد الأوضاع السلبية ومحاولة تغييرها، ونرى هذا في رواية “الوجوه” للناقد والروائي والمترجم وليد أبو بكر، وعند الكاتب العظيم جبرا إبراهيم جبرا في روايته الشهيرة “البحث عن وليد مسعود”.

وهذا ما فعلته الروائية الفلسطينية المهجّرة، والتي لا تستطيع رؤية بيت والديّها، الذي تم الاستيلاء عليه، ومحو معالمه.

حيث تخلصت منى تيم من عقدة الذنب، ووضعت يديها على علل الأمة، وتخلصت من نظرية المؤامرة التي لا تزال تسكن الكثير من العقول العربية النيرة! فلولا ضعفنا وهواننا وكسلنا ما كان ممكنا للحركة الصهيونية أن تركبنا وتحتل أرضنا، وما كان للعالم الاستعماري الغربي أن يسيطر ويهيمن على ثروات بلادنا.

فتقول على لسان إبليس، الذي يخطط لنشر الفوضى والطغيان وسفك الدماء، أن أهل شرق الأرض، سيقدمون لي المساعدة، فإرث الجاهلية والقبيلية ما زالت تسيطر عليهم. 

“ويعشّش في نفوسهم شعور بالاضطهاد، مؤكدين أن العالم كله متحامل عليهم، وتراهم يستغربون حين تصفهم شعوب غرب الأرض بالإرهابيين، وهم في بعض المدن يذبحون بعضهم بعضا تحت مسميّات طائفية وحزبية هم اخترعوها” (ص 27).

كما أنهم كسالى، ويطلبون من الآخرين “أن يقدّموا لهم التنمية والحضارة على طبق من ذهب، وبدون أي مجهود فكري أو عضلي” (ص 27).

وهم يرتعون في ساحات من التخلف في كل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، ولا يعرفون غير الثرثرة، أما العمل والفعل فهم أبعد ما يكونوا عنهما، ودائماً ما يتذمرون من أن العالم الغربي يتأمر عليهم ويسرق خيرات بلادهم، ويتناسون “ أن هذا العالم يعتمد على المصالح والتناحر وصراع القوى” (ص 27). وأن لا مكان فيه للكسالى والحزانى والفكر الجامد المتحجر.

كما لا تتوانى الكاتبة مهاجمة التفكير السلبي، وتنتقد بقسوة تخلف المجتمع العربي، ومعاملة للمرأة، فتقول عن زواج شهرزاد زوجة شاطر، أنها عاشت في بيت والدها سجينة، وأن زواجها لم يكن أكثر من “ عمليّة تسليم وتسلّم” (ص 39). وتظهر مدى ضحالة فكر شاطر، وهو أحد القادة الموكل إليهم قيادة أحد المجموعتين، فالمرأة عنده “ ناقصات عقل ودين” ووظيفتها تقتصر على تلبية حاجاته الجنسية متى أراد، وتحضير الطعام وتنظيف البيت وتربية الأولاد.

عندما يحدثه سندباد عن المشاكل التي يواجهها مع زوجته، لأنها تحثه عن وقف ما يفكر فيه من جنون، يقول شاطر متفاخرا، لم لم تقمعها كما فعلت أنا مع زوجتي، فالنساء لا يمكن التعامل معهن بأدب، “وهنّ يا صديقي جنس لئيم لا يمكن أن تكون كريما معهنّ” (ص 42).ولكن الكاتبة لا تكتفي بالنقد السلبي، بل تتحدث عن الكثير من الإيجابيات التي يمكن تحقيقها، فمن خلال شخصية علاء الدين نستطيع أن نرى أن العربي ليس سلبيا بل هو قادر على الفعل والنجاح، فعلاء الدين “مهندس كمبيوتر وشاب ذكي وطموح وصادق، وقد أحبّه كل من تعامل معه” (ص 63).

ورجل يحب وطنه ولا يمكنه الاستغناء عنه، ويعبر عن ذلك بشكل جلي عند وفاة والده بمرض السرطان، وفي مقطوعة جميلة، تقترب الكاتبة من لغة الشعر، يقف علاء الدين حزينا ومتأملا ما يجري حوله، ويخاطب بحر بلاده، قائلا: “ما أجملك يا وطني وما أبهاك! فعلى الرغم من أننا في فصل الشتاء، إلا أن سماءك صافية، وأشعة شمسك دافئة وساطعة أرخت ظلالها الرائعة، فأضاءت تموّجات بحرك الهادئة، فأبدعت بضوئها تدرجات لونية تعجز ريشة الفنان بألوانه المبتكرة أن تبتدعها” (ص 69).

كما أنه لا يتوانى أن يحارب بفعالية وحيوية التخلف الاجتماعي والأفكار البائدة، فنراه يشجع ويحث سندريلا على الوقوف بقوة في وجه زوج أمها “عارف” والقائه في السجن، لأنه شخص عار على الإنسانية كونه يعتدي بالضرب على زوجته، كما حاول الاعتداء الجنسي عليها.

ويعبر بصراحة عن رفضه لتفجيرات “الصيف الموعود”، ويقرر في النهاية العودة إلى وطنه، والاستقرار فيه.

فبعد اليوم المشؤوم، تعرض الكثير من السكان العرب الأمريكيين لمعاملة قاسية ومهينة وإلى الاعتقال، واستهدفت مصالحم.

وعندما تقول له سندريلا عبر الهاتف، أنها ستأتي إليه بأول طائرة، يرد عليها معلنا موقفه النهائي: “لا يا سندريلا، أنا سأعود إلى موطني، سأكون بينكم” (ص 188).

فكأني بالكاتبة، تعبر عن نفسها ورغبتها الشديدة التي لا فكاك منها في العودة إلى بيتها القديم في موطنها المسروق، فالإنسان لا يحيا دون وطن.

ولكن الروائية منى تيم على قناعة تامة أن ذلك لن يتم إلا بأخذ ناصية العلم والمعرفة، لهزيمة قوى الشر والظلام، والسير إلى الأمام.

تصل الرواية إلى منتهاها، حيث لا حل لمشكلات العالم إلا بعودة الأمور إلى مسارها الصحيح. وأن كان اللقاء غير ممكن بين الشرق والغرب حاليا، فالمستقبل يخبئ أشياء كثيرة إيجابية.

كما أن الإنسان العربي قادر بكدحه وعلمه ونجاحه وتفوقه على تغيير مجريات الأحداث للأفضل. وأن العربي لا يمكن له الاندماج في العالم الغربي، ومحو هويته، فعملية انسلاخه من جذوره تؤدي إلى التهلكة، ونرى في النهاية علاء الدين يحمل حقائبه، ويعود إلى وطنه حيث أهله وحبيبته، وبحره الجميل العذب.

وأن أدانت الكاتبة العمليات المسلحة، التي تستهدف المدنيين من قبل بعض المجموعات العربية المتطرفة إلا أنها تدق الخزان، وتحذر العالم الغربي القاسي واللإنساني في تعامله مع العرب وقضاياهم، عبر دعم الظلم واحتلال أراضيهم، أن لهذا الأمر ذيوله، ويجبر الضعيف وصاحب الحق عن الدفاع عن نفسه، بكل الطرق الممكنة حتى لو كانت مؤلمة.

وتتركنا الكاتبة مع عالم يعج بالفوضى والظلم، ومع مراياها العديدة، حيث “مرايا الإرهاب الزائفة التي تجعل من الإرهاب الحقيقي دفاعاً عن النفس، وحقّاً في البقاء” ( ص196). ومرايا تعكس “صورة صاحب الحق الفعلي، ومطالبته به، تحوّله إلى إرهابي” (ص 196).

إن الحل التي تريده الروائية، ينبع من هنا، من الوطن، فالإنسان لا يمكن له النجاح في وطن آخر، ويترك وطنه تحت رحمة سيل من الخرافات والطغيان والاستبداد، فالإنسان يجب أن يكون حرا، ويمتلك العلوم والمعرفة والمحبة، ليكون جديرا بالإنسانية، وكأني بها تقول: “إن على العالم العربي أن يقلع شوكة بيديه”، أو سيبقى يرزح تحت نير التخلف و والمرض.

 

وهذا ما نراه حاليا من ثورات تعم العالم العربي، تريد بقوة تغيير الواقع الجامد والمتكلس إلى عالم عربي أجمل وأحلى، وأكثر قوة وصلابة في الدفاع عن حقوقه، وفي تحقيق ذاته التائه.