الإثنين  23 كانون الأول 2024

"لكل غرناطته, ولكل قدسه" ..قراءة في رواية ليلى الأطرش " ترانيم الغواية" بقلم: د. رزان إبراهيم (جامعة البترا)

2015-01-13 01:10:54 AM
صورة ارشيفية

الحدث

"تسكن الشياطين مع الملائكة في صوامع النساك, تنتهك مغارات تعبدهم..تشن حرب إغواء لا تتوقف..ترانيم تسكب الخير, وأخرى تزين الشر, وأسلحتها شك يقود إلى معصية..فأي إغواء زلزل روحي وزعزع إيماني لحظة أمسكت". ترانيم الغواية

"لكل غرناطته" هذا ما قاله أراغون حين سئل عما تعنيه غرناطة له. وهذا ما قالته رضوى عاشور حين سئلت عما تعنيه غرناطة بالنسبة لها. وهنا أقول: " لكل قدسه" التي يراها وفق ما تعنيه له. ولا تثريب إن كنت أرى في بطلة ترانيم الغواية- الرواية الصادرة عن منشورات ضفاف حديثاً-  شيئاً من أنفاس الروائية نفسها, فكلتاهما زارت القدس وفي ذهنها عمل فني قوامه رحلة تاريخية في هذه المدينة المقدسة. مع فارق بأن البطلة هنا تسعى إلى تحقيق فيلم عن القدس, تمارس فيه لعبة الخلق من سطور الآخرين, والروائية تسعى إلى رواية تنقل فيها القدس غير بعيد عن اللعبة ذاتها. لكنا  وفي الحالتين ( الفيلم /الرواية) نلمس رغبة في إيقاظ نمنمات الأيام وإطلاق الأفكار, خلافاً لتاريخ جاف تنسرب الأحاسيس والعواطف من بين دفتيه. أو يغفل روايات بسطاء سكنوها "  ترفعاً أو بسوء نية".

"ترانيم الغواية" نص ينقل حقباً متتالية تغير فيها الحكام وتتابعت معها الأحداث. وفيه قدر من التوثيق لحياة القدس الاجتماعية في نهاية العهد العثماني وبداية القرن العشرين. وهو بلا شك أمر يحتاج جهداً واجتهاداً يختلف في مقداره عما يبذله روائي يكتب عن مرحلة آنية يعيشها. ويبقى بإمكاني القول: إن جهد الباحث في التاريخ الاجتماعي واضح بقوة في هذا العمل. أمر تشهد عليه وتؤكده أوصاف تفصيلية تنقل مشاهدات عينية دقيقة, في وقت مخاضات كبرى خلعت فيه القدس عهداً لتعيش آخر. وهو عهد تشابكت فيه خطوط السياسة والدين لتتلون القدس " ببشر وأقوام فاض عنهم سورها العتيق".

 وعن هذه الرواية أقول: إنها تفتح الفرص واسعة كي تُدرس من وجهات تاريخية عدة, بما في ذلك الوجود المسيحي في القدس في فترة حاسمة من تاريخها, ليكون سؤال الدين والعروبة مطروحاً فيها بحجج كبيرة, تدعم مطالب للعرب بإدارة كنيستهم. عدا تلك الصراعات العائلية بين المقدسيين أنفسهم, وغيرها من قضايا تاريخية هامة. وهو ما لا أدعي أنني سأتناوله في هذه السطور الموجزة. فما لفتني هنا يتجاوز قراءة محصورة في وجهة تاريخية معنية بإعادة سرد الأحداث الكبرى بغرض الإثبات أو النفي. فما شدني أو جذب انتباهي في هذه الرواية عنايتها بدوافع اجتماعية إنسانية دفعت شخوصها إلى التفكير والشعور والتصرف على نحو ما. لتغدو علاقات صغرى يبرزها نص أدبي سردي أكثر ملاءمة في ذهني من سلسلة أحداث التاريخ العالمي المهمة الكبرى؛ فما يقع عليه الروائي من مواقف إنسانية عاطفية وجدانية وأخلاقية، يوسع من حريته في الاختيار والتوظيف الفني لشخصياته، وهو ما يمنح العمل طابعاً درامياً تعلو وتيرته في لحظات صدام فعلي مرده تناقض ملحوظ بين العاطفة والظروف الخارجية.

 ذاك ما سعت إليه " ترانيم الغواية" حين نددت بخطابات تاريخية رسمية من شأنها طمر قصص الناس البسطاء وبعثرتها. لذلك كانت الوجهة نحو " ميلادة الحنش" تنقل عنها الراوية قصص الآباء والأجداد قبل تناثرها فوق أرصفة الحياة. توقظ ذاكرتها- وهي من بدت عوارض الزهايمر تغزوها- لنعرف أكثر عن بشر مدينة الأديان في أزمان تحولاتها الكبرى. تنقل هذا لتؤكد أن لا وجود لقصة عادية, وكل إنسان مختلف بقصة مختلفة. تختار الرواية إذن أن تحكي عن بطلتها ( ميلادة) منذ كانت بنتاً صغيرة لأب اختار طريق الهجرة تاركاً زوجته مع أولاده ليغيب ويغيب معه وعد بأن يسحبها أو يرجع, ليكبر الأولاد دون أن يعود الغائب. وتبقى ميلادة في حالة انتظار لا تنتهي بدءاً من انتظار لهذا الأب  مروراً بانتظار الزوج, انتهاء بانتظار طفل يتحرك فيها ولم يحصل وسط حب خائف من بشر " عيونهم عليه مثل الرصد". لذلك قدر عليها أن تعيشه سرقة. وهنا يأتي ما أراه اقتحاماً أو نقداً  ضمنياً لصورة تنحي قوة أنثروبولوجية طبيعية, تولد مع الإنسان؛ ( العاطفة, الشهوة, الحساسية الجمالية), بدعوى أن السعادة الحقيقية تكون في العمل على تجاوز هذه القوى, بل والتواؤم مع بشر من طبعهم تصديق ما يريدون, بل وتدنيس حكايا العشق وجعلها خطيئة لا بد من تشويهها فيما يعجزون عن فعله.

في فسحة يبوح فيها الخوري متري حداد لابنه, رأيت نفساً تواقة للانعتاق تبقى عالقة يعبر عنها صاحبها بالقول: " أجاهد للفكاك فيكبلني أكثر". وهي مجاهدة ذكرتني ببطل سميحة خريس " يحيى" حين خاطبه الحاج جعفر محذراً إياه: " أنت أزهري, لا تضع نفسك في مثل هذا الموقع, سبق وقلت لك؛ إلا الغواية". وهو ما شهدناه أيضاً من قبل مع بطل " عزازيل" الراهب ( هيبا) حيث اقتربنا منه إنساناً قلقاً بجل عذاباته وتناقضاته وصراعاته وهروبه المستمر من الذات. ليكتسب توق إلى الطهارة مع هذه الشخوص الثلاثة طابعاً درامياً يغلفه  نقد ضمني للمثالي, ولنكون قبالة هذا  أمام ذات ملتبسة عاجزة عن التسامي والتجاوز, وقادرة على الاعتراف بكل ما هو بسيط وضعيف في حياة الكائن الحي؛ فهيبا ويحيى والراهب متري بشر ليسوا ملائكة متطهرين سقطوا سهوا من السماء. ومن هنا لم ينجح الخوري متري في " ترانيم الغواية" في التخلص من وطأة حبه لميلادة, وبقي موزعاً بين ثنائية الحب والواجب مثله مثل هيبا بطل عزازيل. لذلك نستمع إليه قائلاً: " أفكار خبيثة أزعجت تعبدي..تسحبني من صلاتي فأتعوذ من شيطان لا يكف عن تجربتي.. ترانيم غواية يرتلها في أذني, تعارض إيماني, تتنافر مع قلنسوة كاهن..صليت وصمت..قرأت تجربة المخلص على جبل قرنطل مرات..تصبرني فأتماسك, فيزداد إبليس شراسة لإغوائي, ورغبة في قهر صمودي".

" ترانيم الغواية" رواية انشطرت بين صيغتين من صيغ التعبير؛ فحين كانت تتكئ على المعلومات التاريخية المحضة اتخذت لغة رسمية كتلك التي نقرؤها في كتب التاريخ, مثلما فعلت حين وضعت المؤرخ قبالة الكاميرا ليعرض إحدى وثائق أرشيف الأستانة ويقول: " حلم السلطان بدولة حديثة في بلاد الشام مثلما فعل محمد علي وأبناؤه في مصر. وربط أصقاع الخلافة بسكة الحديد. فهي فكرة صديقه الإنجليزي كما أوضحها في رسالته, وتمت كما خطط لها..الخ". لنكون في مواقف أخرى مع لغة مختلفة توازي شخوصاً تحكيها. فها هي العمة تحدث البطلة بفضائح والد زوج أخيها قائلة:" فضائحه عمت وطمت. باع قطعة أرض, وصرف نصف ثمنها على عاهرات وجنكيات القدس, والباقي في مواخير يافا وبيروت. أخي إبراهيم سمع عن وردة وقال: البنت تناسبني . متعلمة وترطن لغات..".

ليكون قبل هذا وبعده شرط نجاح العمل مرهوناً كغيره من روايات ذات طابع تاريخي بقدرته على ابتداع شخصيات هي نماذج اجتماعية وإنسانية عاشها المكان الذي تتحدث عنه, أو فلنقل قدرة على فهم ودراسة وتحليل لعلاقات اجتماعية كانت سائدة آنئذ وإن لم تكن شخصيات حقيقية بثرواتها وأعيانها, لتبقى حقيقيتها مرهونة بمقدار تمثلها شرائح المجتمع في سياق تاريخي يتطلع الكاتب إلى تصويره في إطار أدبي لائق.