الإثنين  23 كانون الأول 2024

حمامة الضمير المقتولة محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ

2015-01-13 11:25:34 AM

حمامة الضمير المقتولة
محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
صورة ارشيفية

ضوء في الدَّغْل

الحدث.

في فيلم"Scent of a woman"(عطر امرأة) الذي أُنتج سنة1992، يخوض الكولونيل (الممثلAl Pacino )الأعمى رحلة صوب إعادة اكتشاف الضمير في شخصية شاب صغير(طالب)يعملُ لديه مرافقا ليحصل على بعض مالٍ يعين به نفسه. فيأخذه الكولونيل في رحلة معه إلى نيويورك حيث يفكِّر في قضاء أيَّامِ متعةٍ يختمها بإنهاء حياته التي لم تعدْ محتملةً بعد أنْ أصيب بالعمى، خاصة وأنه قضاها محتفلا بكل الملذّاتِ، مفتونا بالمرأة لدرجة التولُّه. لكنَّ الفتى يحولُ دون حصولِ المأساة، ويبقى مع الكولونيل رافضا أنْ يتركه يقتل نفسه رغم تهديداته بأنه سيطلق عليه النَّار إنْ لم يترك الغرفة. هذا الفتى وصل إلى هذا المشهد لأنه صاحب مبادئ وأخلاق. ويشترك مع الكولونيل في وقوع كليهما في مشكلة؛ الكولونيل بعدم تقبُّله للعمى، وتشارلي المطالب في المدرسة بالشهادة ضدّ طلاَّبٍ قاموا بعملٍ مشين. ويختلفان في إيمان الفتى بالرجولة ورفضه الوشاية بالطلبة المذنبين رغم أنهم لا يحبونه، وأيضا، فيما بعد، رفضه ترك مستخدمه الأعمى للموت انتحارا، واستهزاء الكولونيل بما يؤمن به. وينتهي الفيلم بمشهد مجلسٍ تأديبي مفتوح، يحضره الجميع طلابا وأساتذة، ويحاكم فيه فتيان؛ جورج ابن رجلٍ ثري، والشاب تشارلي. ويمتاز هذا المشهد بدخول الكولونيل إلى القاعة، بعد أنْ تغيَّر، دون علم الفتى، ليحضر معه كوليّ له نائبا عن والديه مدَّعيا بأنه صديق العائلة، ويكاد ينتهي المجلس بالإبقاء على ابن الغني لأنه وشى بالفاعلين، وبطرد الفتى الفقير لأنه رفض الاعتراف بما رأى. هنا ينتفض الكولونيل ملقيا خطابا مؤثرا يحاكم فيه المدرسة ويتهمها بأنها تصنع الوشاة وموتى الضمير لأنها لم تتفهَّم إيمان الفتى تشارلي بمبادئه ورفضه أنْ يكون واشيا.

هذا تقريبا أهمُّ ما وصلني من مشاهدة هذا الفيلم، لكنَّ الأعمق فيه هو التحوُّل الذي يحصل للكولونيل الأعمى، من شخصية تسخر من المبادئ وترى أنَّ الضمير قد مات، وأننا في عصر خيانة الزوجة، وغدر الصديق، واقتناص أيَّة فرصة للنجاح ولو باع الواحد روحه للشيطان؛ إلى شخصية استفاق فيها الضمير، فانقلبتْ على كلِّ أحكامها السابقة بسبب فتى لا يزالُ بريئا ونبيلا ولم يفهمِ الحياة بشكل جيدٍ بعد، لكنَّه يكشف عن واحد من البشر لا يزالُ قلبه ينبض بالإنسانية، بالحبِّ الذي صارت تأفل شمسه في سماء العلاقات القائمة بين الأشخاص. ولذا يمكن القول إنَّ شخصية الكولونيل الأولى، أيْ قبل أنْ يتغيَّر، وعلى عكس شخصية الفتى المناضل، تعبِّر عن الإنسان المعاصر الذي قُتلتْ في فضاء قلبه حمامة الضمير البيضاء، لأنَّه تربَّعَ على عرش الأنا، واكتفى بتحقيق أحلامه هو ولو بسحق غيره من النَّاس. لكنَّها، أيضا، تعبِّر عن العالم المعاصر الذي يفقد قيمه وأخلاقه في سبيل براغماتية متوحشَّة أسَّس لها نظام عالمي تسيِّره الدّول القوية المسيطرة، وتضيع جرَّاءه حقوق شعوب كثيرة.

ماذا يحدث للإنسان اليوم؟ إنَّه يخون قيمه التي تبلورتْ على امتدادٍ طويل من التجارب الإنسانية، ويطعن العقل بخنجر النفعية المتوحِّشة. إنَّهُ يعيد بناء المركزيات من جديد؛ مركزية القويّ في مقابل هامشية الضعيف، مركزية الغربيّ في مقابل الشرقيِّ المتخلِّف، مركزية الإسرائيلي المدجَّج بالأسلحة في مقابل الفلسطيني الأعزل، مركزية الدينيّ المتطرف المشهر السيف في مقابل رقابٍ بريئة...إلخ.

هذا هو عالمنا المعاصر؛ عالمُ عودة المركزيات التي تسحق كلَّ من لا ينتمي إلى دائرتها، إنه عالم الدوائر الكثيرة التي تتجاور ولا تتقاطع، إنَّه عالم الكولونيل يوم كان بلا ضمير، بلا إحساسٍ إلا بذاته، بلا رؤية سليمةٍ رغم امتلاكه بصرا في الماضي. هل كان بحاجة للعمى والتقاء فتى بقلبٍ بصير حتى يخرج من الظلام الذي كان يعيشُه طوال حياته؟ ها عالمنا صار أعمى وبلا قلب، أينَ نجدُ له شمس براءة ومحبة تريه طريق الخير؟؟ أين نجد للإنسان قلبا كقلب تشارلي؟؟

أيها الإنسان المعاصر:عدْ إلى بيت المحبة الجميل رجاء، أو ارمِ نفسك من نافذة.