الإثنين  23 كانون الأول 2024

فصول من "كتاب الزيارة" : وقائع زيارتي الأولى لفلسطين المحتلة 1/ لم تعرفني الكلاب: * بقلم: سلطان القيسي

2015-01-27 06:07:56 PM
فصول من
صورة ارشيفية

 الحدث.

نازلاً عن شجرة الأحلام الوارفة، أمشي يداً بيدٍ مع ارتباكي وتفاصيل كثيرة ومذهلة، لا أستطيع تذكرها كلها، ولا يجوز أن أقفز عن أصغرها. فكيف لي أن أكتب ما حدث؟!

دعانا  متحف محمود درويش إلى أمسية شعرية في رام الله، محققاً حلمنا بأن نطأ أرض بلادنا للمرة الأولى منذ  1948، ولم أكن أتخيل صعوبة هذه المغامرة، نعم سأسميها مغامرة.. مغامرة أن تذهب إلى فلسطين محمّلاً بحسرة الجدّات، بآلام المسيح، ولسعة الاحتلال التي تقف في الحلق كالتهابٍ حاد، كان عليّ أن أتجهّز قبل الرحلة بأسبوع، كان عليّ أن أجعل من كتفيّ باحةً واسعة للحمام الأبيض ومكاناً لائقاً ببندقية محشوّة بالورد، كي لا أحيد عن الطريق الذي عبره الأجداد باتجاه الشرق، كان عليّ أن أضع أثراً مساوياً تماماً لأثر خطوة جدّي الكبيرة، و أثراً آخر مساوياً لخطوة أبي الصغيرة آنذاك، لأمحو الهجرة بعودة وإن كانت مؤقتة.

قطعنا الجسر الذي كان كعملة حديدية، كتبَ على وجهها الشرقي جسر الملك حسين، وعلى وجهها الغربي جسر أَلينبي، هذا الجسر الذي أسطرته فيروز بأغنياتها: يا جسراً خشبياً يسبح فوق النهر..

كنتُ أخاله جسرا ممتدا لمليون كيلو متر، وكنت أخاله جسراً من الألغام، حتى وصلنا واكتشفت أنه مجرد بضع خطوات، مجرد جسر واهٍ تم تحويله من الخشب إلى الخرسانة منذ أعوام قليلة فقط. قطعنا الجسر لنلتقي للمرة الأولى بأول عدوٍ غاصب، يقف بثقة غبية على أنه صاحب الأرض وبوّابها:

هنا بابنا، وجهةُ الريحِ والروحْ

هنا الظعنُ والطعنُ

والحبُّ والجبُّ

من هاهنا سقطت في الصحاري خطانا

ولم تأتِ سيّارةٌ كي تساعدنا  في الخروجِ

هنا بابنا .. 

في الحقيقة، لم أتفاجأ كثيرا بعد أن فتّش الجندي الباص، ودارت العجلة غرباً، فلقد تآمرت الطبيعة مع الاحتلال، وخلعوا عن الأرض ثوبها الأخضر، فالأشجار تعرف أصحاب الأرض وتعينهم على مكابدة العدو. وصلنا "النقطة الحدودية الإسرائيلية" لأرى علماً عالياً لا يشبه الأرض، وأرى شقراوات وزنوج يرطنون بلغةٍ مسروقةٍ من تراث كنعان، متحوّرةً بفعل السنين، كانوا يضعون نجمة داوود على أكتافهم، وعلى كل شيء، وكانت النجمة تقف على ساقٍ واحدةٍ مثل امرأة نشطة، وكنت أتزلزل ذعراً من لقاء البلاد. لن يتخيّل أحد حجم الطاقة التي احتجتها لأخدع الجندَ، لأكتمَ دمعتي، وأخبرهم أنني لست مهزوماً، وأخبرهم أن هذه الأرض تعرفني جيداً، وأنها من أرسلت لي: "تعال". وأنكم هاهنا لستم جديرين بها، برغم الشوارع الواسعة التي تشقونها، وبرغم العمائر الزجاجية العالية التي تضعونها على أكتاف البلاد، وبرغم الجاز الذي كنتُ أتخيله على الساحل.. كنت أتحلّى بلغة غيبية، كنت معرضاً عن الكلام إلا أن جملة واحدة انفلتت مني، إذ نظرتُ إلى الله وقلت: لماذا سحبت سجادة كنعان من غرفة نومي يا رب؟ لماذا يا حبيبي؟!

وسجادة كنعان بدأت تخضرّ شيئاً فشيئاً، حين أجلسني الاحتلال على كرسي لا بد أنه لي، وبطبيعة الحال، غرست المجندة ضحكتها الخبيثةَ في لحمي حين أخذت جواز سفري الأردني، ودخلت إلى غرفة مغلقة، لقد كان حظي ودوداً طيباً هذه المرة.. عاد الجواز إليّ بعد ربع ساعة، لأصعد إلى الباص الذي سيأخذني إلى "نقطة حدود السلطة الفلسطينية".

كانت النقطة الفلسطينية، متعبةً وبائسةً، كريفيةٍ طيبةٍ تجلس على رصيف البلاد، كانت مسالمةً، مسحت على جبيني بكفّها المتعرّق،  بعد أن وضعتِ الحجرَ بجانبها، كاللبؤة؛ لا تؤذي مخالبها جبين طفلها، قالت لي: لا تحفل بدمعي، فإنه ينزل كلما مرّ واحد منكم من هنا، ينزل ربما ليتفقد الطريق إلى القلب قبل أن تعبروا.. النقطة الفلسطينية تشبه مقصفاً في نقطة العدو، ربما كان السبب ضعف الإمكانيات بالمقارنة، وربما كان ثقةً مخبوءةً، بأننا أصحاب البلاد الطيبون، البسطاء كأغاني "أبو عرب" ومواويل اللاجئين.. ربما.. ربما.

كنت بحاجة إلى أكياس كبيرة بعد ذلك، لأعبئها بالهواء، لأنني أخجل أمام فلسطين من صدري الضيق، أخجل من قلتي وكثرتها، من خوفي وطمأنينتها، من رعشتي ومَنَعَتِها، من عطشي ومن صوتها الريّان، من لا شيئي وكل شيئها..

لأن يدي قد تكون أقلّ

من الجيش حول كواكبكِ الواعدة

لأن سماءك تهبط فوقي

إذا ما تخلت عن الأعمدة

أؤجل موتي.. لأكمل قبلتك الدامية

 ودّعتني رفيقة الطريق هناك، وأخذت باصها إلى الشمال، ورحت أتلوّى حرقةً بين ذراعي صديقي موسى، الذي جاء إليّ من رام الله ليأخذني. مرورا بنخيل أريحا، مدينة القمر، أقدم مدن التاريخ على الإطلاق، كان الشارع يسعى كأفعى مسالمة، باتجاه رام الله العالية، كنتُ أفكر بها، تلك المجنونة التي أصرت أن تصعد الجبل لتصير مدينة، كأخواتها الباسقات في الشّمال وعلى الساحل الغربي، اختارت لها اسماً يليق بكبريائها، اسماً يتحامى باسم الله كله، لتفرض احترامها على الجميع، رام الله مدينة مجنونة ومصرة، لم يكفِها أن تصبح مدينةً، ظلت تركض باتجاها السماء، حتى صارت عاصمة الضفة الغربية، رغم أنها ليست بتلك المساحة أو ذلك الامتداد التاريخي، مثل أخواتها من مدن الضفة.

طوال الطريق كنت أفكر بهؤلاء الغرباء الذين يقفون بباب بيتنا، أفكر بابتساماتهم التي يعلقونها كأوسمة، أمامنا نحن المهزومين، تماماً كمن يأكل تفاحةً حمراء أمام أولادٍ يتامى لا يدركون رغيف خبز، نحن اليتامى، نحن الذين ننبشُ جيوبنا بحثا عن ابتسامات فلا نجد سوى ابتسامة الراضي، تلك الابتسامة الجارحة، التي كقوس كمان حزين تعبر القلب، فمنذ مليون سنة ونحن نرضى، نوافق أن يأخذ العثمانيّ أرضنا  ونعمل لديه بالسخرة، و نوافق أن نتعلم لغة الانتداب البريطاني، ونتحمل دمه الزنخ وخبث عينه الزرقاء كالوحل تماماً، نرضى أن يطردنا اليهود عن طاحونة مونيفيوري في القدس، بحجة أن الانتداب أقامها لدعم اليهود، نرضى ونقول: يهود... ياحرام!! فقراء ومضطهدون..، نرضى أن نكون شعباً طيباً وحنوناً دوناً عن غيرنا، ظللتُ أفكّر حتى وصلت... وصلت معبراً ما، ووصلت فكرةً أخرى.. الشعب الفلسطيني والعربي عامةً أولى بإدارة منظمات حقوق الإنسان من تلك الشعوب الشقراء التي تقدم العون عوضاً عن الأرض والبيت، تصفعك وتعتذر، تطعنكَ وتعطيك كحولاً ومعقماً وشاشاً، تقتل أباك وتفتح لك دكاناً لتعيل أيتام أبيك وأرملته أي عائلتكَ المهشّمة.. تذمرت كثيراً من تلك الكلاب التي نبحت علينا على بوابة المعبر، وشتمتها، وقلت لصديقي إن هذه ليست كلاباً، إنها كائنات معدلة جينياً، فألفة الكلاب تفرض عليها احترامنا، ووفاؤها يفرض عليها أن تلعق وجوهنا مرحبةً بنا، وبياضها وانتصارها للعِشرةِ يفرض عليها أن تنبح على الجندي لا علينا، وذكاؤها يفرض عليها أن ترى تراب فلسطين في ملامحنا... فقال لي يحدث ذلك لأنكم خارج المكان.

كلاب بلادنا لا تعرفنا، ربما كان هذا الكلب حفيداً لكلبٍ أفنى عمره في الخدمة العسكرية على باب مزرعة جدي، ربما كان حفيداً للكلب الذي بكى عليه أبي عندما مات من البرد. يحدث أحياناً أن يسبَّ طفل أمه في السوق، ويضربها وهو يبكي لأنها عجزت عن شراء الحلوى له، ويحدث أن يمرَّ عابر ويقنعها بأن تشتري له الحلوى دون أن يدرك عجز يدها عن ذلك، وأن تمر امرأة أخرى وتقول: حرامٌ عليك يا امرأة!

 يحدث ذلك ويجعل الأم تذوب في ثوبها وتضمحل حرجاً، حتى تصير كقطعة بطاطا حلوة على موقد مستعر، وهي تحاول أن تقنع الطفل بأن يسكت، وأن ينظر في عينيها ليفهم عجزها، وأن يكون إلى جانبها في هذه الوحشة التي ألمّت بها وسط سوق العالمين، وهم يتجمهرون حولها لائمين، وهي تضمحل  وتضمحل وسط هذه الزفة، ولكن الولد يظل يضربها ويصرخ .. ثم يبتسم لامرأة عابرة في السوق تعطيه قطعة شوكولاتة، هكذا تماماً كنت أمام الكلب ذاك.. فعلاً لم يكن كلباً.. كان ابن كلبٍ فقط.

قلت لصديقي: فعلاً الأمور صعبة على معبر قلنديا المؤدي إلى رام الله، الأمر مضجر حقا يا رجل!. قبل أن ينفجر ضاحكا، ويخبرني إن هذا المعبر اسمه "بيت إيل"، وهو معبر مريح ومحترم، يمر منه اليهود، ومن معه بطاقة DCO من العرب فقط، هذه البطاقة المرتبطة بالعمل المؤسسي التابع بشكل أو بآخر للسلطة الفلسطينية أو لجهات دولية أو حقوقية، وتابع ليخبرني أن معبر قلنديا قد يتطلب نهاراً كاملا للدخول. لم يدرك صديقي ما فعل بي، فكأنه طعنني مرتين، الأولى لأنه دلّني على وجع أعمق، وعلى كلاب أوقح، تقف على معبر قلنديا وتنبح على الناس، على الصبايا الفاتنات وعلى رجال في منتهى الأناقة، وعلى مسنين طيبين، والثانية لأنه ذكرني بأنني لا أعرف البلاد..بلادي.

تلومينني يا بلادي

ويخنقني اللوم يوماً على يومْ

تلومينني وألومك

والنار فينا تشبُّ

وتضحك منا السماءُ ولا ترسل الغيمْ

هاتي يديك لأبكي ..

عسا الدمع يطفي جهنّم هذا اللقاءِ

وهاتي عروق الدوالي بشالكِ

هاتي عروق دمائي التي جففتها المنافي

تعالي لوحدكِ إذ تنفضين الجنودَ كبكتيريا عن فراشِكِ

هاتي فراشَكِ.. من كل بيتٍ ومن كل ساقيةٍ، من سفوح الأملْ

وخلّي العتابَ قليلاً

ولمّي فتاكِ الذي ضلّْ.

حين وصلنا الشقة التي أعدّت لي،  فتحت شبّاك الغرفة لأرى المشهد الذي تردد أكثر من مرة في الطريق، بناءٌ أنيق يعتلي الجبل، بطبيعة الحال سألت عنه فأجابني صديقي: "بساغوت".

 إنها مستوطنة بساغوت الإسرائيلية، المستوطنات عبارة عن مدن مستحدثة، بناها الاحتلال على أراضي الضفة الغربية أي الأراضي المحتلة عام 1967، والتي أقرتها الأمم المتحدة و"أوسلو" كأراضٍ تقام عليها دولة للفلسطينيين، كذلك في القدس التي من المفترض أن تكون تحت سيطرة الأمم المتحدة بحسب قراراتها، ولكن العالم خائنٌ، والقوة تغلب القرارات والقناعات والتاريخ، فبضعفنا  وخيانة العالم استحوذ الكيان الإسرائيلي على أراضي الـ48، وبضعفنا وخيانة الكون، بنى مستوطناتٍ أخرى في الضفة الغربية، وبضعفنا وخبث العالم ذي العيون الزرقاء أحكم قبضته على القدس كعاصمةٍ له، ومقاماً لرئيسه.

في الليلة ذاتها، قطعنا الطريق إلى جبل الخليل، تحديداً إلى بلدة سعير، رأيتها قبل أن تنام بساعات، بلدة تقف بساقين ثابتتين على سفح جبل الخليل في الجنوب الفلسطيني، الجبل هذا يعرض بلداته وقراه بثقة جليّة، لا يخاف رصاصةَ خائنٍ ولا نظرة حاسدٍ، جبل مكينٌ كأبٍ يُجلس بناته الصغيرات في حضنه، هكذا تراه حين تنظر إليه من شرفة ما، لا بد من تراث لهذا الجبل لا بد من أبٍ يتشبه به، لا أدري كيف خلتُ أنه إبراهيم عليه السلام، بضخامته وقوة عزيمته، وقدرته الهائلة على الأسفار، عدنا من برد الجبل، إلى برد رام الله الأخف وطأةً، لم أنم طبعاً، ولكنني حلمت.

فتحت الشباك فجراً، رأيتها وهي تصحو من النوم، تتقلب في فراشها، تتمطى.. بنشوة رأيت إبطيها، سمعتُ تلك اللازمة الموسيقية التي اختتمتْ بها تثاؤبها الأول، ذلك الصوت الذي يقع بين الغنج والتنهيدة، وأخفت ملامحها حين انتبهت إلي، بلادنا خجولة وطيبة، ناعمة وبسيطة، ممكنة وأنثى، بلادنا تخاف الرصاص، وليست كما علمنا الأستاذ في الابتدائية، ليست كاسرةً وجبّارة، إنها بلادٌ طريةٌ ولا يليق بها النسرُ شعاراً، بلادنا تحتل المركز الثاني عالمياً في تصدير الزهور بعد هولندا، وبلادنا منبت الزيتون الأول في التاريخ، غصن الزيتون الذي غدا رمزاً للسلام كانت بلادنا مهدَه، فكيف لكل هذا الحب أن ينضوي تحت جناحي نسر؟!!

أريد أن أخلع النسر هذا عن رأس شرطيّ المرور، وأضع وردةً حمراء، أريد أن أصرخَ في وجه المعلمين البائسين: إن اللون الأحمر في علمنا ليس كما قلتم لنا، ليس لون الدم والفداء، إنه شفق خدود الكنعانيات وهن يستقبلن عشاقهن الآتين من الحصاد، أريد.. أريد.. أريد..

في مقهى رام الله، ذلك المكان الأسطورة، الذي خلناه يمتدّ و يتّسع كل يوم، تماما كما يفعل الكون، جلسنا مساءً أنا وعلي الزهيري الذي كان قد وصل أيضاً بعد أن وصلتُ بأيام، وفجعنا معاً بعدم تصريح الاحتلال لحسن مريم بالدخول، هذا الكسر في قوام الأغنية، الذي سببه الاحتلال لن يمّحي من البال، عليّ .. أنا .. فلسطين .. مقعد فارغ .. أين حسن؟!! هذا هو الاحتلال.

لم أكن أعرف أن مقهى رام الله مكان متواضع جداً إلى هذا الحد، لم أكن أعرف أن حماماته غير صالحة للاستعمال، لم أكن أعرف أن المرء رغم ذلك لا يمكن إلا أن يعود إليه مشتاقاً كل مساء. ولم أكن أعرف أن شعراءَ رام الله الذين أحاطوا بنا كقناديل مضيئةً على هذا القدر من الحب والجدارة، إنهم جديرون بأن تهدي إليهم قلبك كل صباح ليفعلوا به ما يشاؤون، فتكون على ثقةٍ بأن قصيدةً تختبئ فيه ليلاً، وأن دمعةً تحفّهُ، وضحكةً تواسيه، وأملاً يجرّه إلى الشارع أيضاً، احتفلنا.. غنينا لبيروت ولليرموك وللوحدات .. فعلنا كل شيءٍ هناك، بكينا كثيراً وضحكنا قليلاً  جننّا.

رام الله في الصباح حلوة جدا، خصوصاً حين تجيء صبيةً متّشحةَ بالأخضر وتمشي معك في "شارع رُكَبْ" وسط البلد، وتبارككما يدُ الرحمنِ ورضاه، مطرٌ ناعمٌ وأرضٌ ناعمةٌ، صوتٌ ناعمٌ، وسربُ موسيقا، صوتها يلفكَ كشالٍ مطرّزٍ وهي تغني:

"يا ابو قلب فضّة، عَ إيش هالبُغضة؟!

بعطيك تاترضى، من عيني راس مالي.."

كانت الطريق تقصُرُ شيئاً فشيئاً، حتى ولجنا مطعم "زيت وزعتر"، كل شيء في فلسطين فلسطيني، هذا ما لم نعشه في الشتات، النادل.. الطعام.. المعلقات.. العلم على باب المطعم.. اللهجة.. البشرة..كل شيء فلسطيني، ويدها فلسطينية أيضاً، كعادتي لم أختر شيئاً.. رتبتْ فطورنا، وشاينا، وخطوَتنا إلى بوظة رُكَب، الجنون الحقيقي أن تأكل البوظة والمطر ينقر على الزجاج ويهرب، والهواء يفرك ظهره بالزجاج ذاته ويضحك منك، والجنون الأكبر أن تمر في رام الله دون أن تأكل بوظة رُكَب، "رُكَب" اسم المحل المتواضع الذي صار اسم الشارع الأهم في المدينة، قرأت عنه في كتاب مريد البرغوثي، وحكى عنه الشعب بأكمله.

يدها التي كانت تبرد دائما، لم تبرد في رام الله، هذا الأمر الذي دعاني للغناء في الشارع:

خطوتها في بِركِ الماء على الشارع

إيقاعات غجرْ

يدها دافئةٌ وأحنُّ من القطن على جسد الطفلِ

وقامتها غصنٌ يتمايل في الريح

ويخضرُّ ولو ولّت عينيها عنّي

تبلعني الغربةُ.. يحرقني الماء

الطريق إلى طولكرم قصة قصيرة، أشجارٌ كثيفة وزيتون معلقٌ على الجبال، ظل الأمر كذلك حتى دخلت النفق الأخضر، أشجارٌ على جانبي شارع قصير تعانقت، فكان نفق شجري، أوصلني إلى دار أصدقاء، بيتٌ من الأيام، أيام تراكمت فوق بعضها فصار بيتاً، يرتدي أحجاراً سميكة وخشنة، ويتحلّى ببلاطٍ ملوّن كأنه سُجّادٌ فارسيّ، وعلى الشباك الواسع يتعربش شجرٌ أخضر جداً، لم أرَ مثله في حياتي، البرتقال المعلق على الأشجار واضحٌ جداً كأنه يضيء، وعلى السور البعيد للحاكورة تتكئ شجرة "passion" هذه الثمار التي خِلتها لا تنبت إلا في أمريكا الجنوبية، تتكئ على جدار الدار المكين، Passion  تعني الشغف، الشغف الذي تخمّر منذ آلاف السنين في تراب بلادنا، أمر عاديٌّ جداً أن يطلع على الشجر.

طولكرم مدينة بسيطة، أخذ الاحتلال زهرة عمرها قرية "أم خالد" مطل المدينة على الساحل، التي أصبحت الآن مدينةً مستقلة أطلق عليها الاحتلال "نتانيا"، من يومها والأم مشدوهة تجاه الساحل، من يومها لم ترتدِ ثوب فرح، لم تضع ماكياجاً، لم تلبس الكعب العالي، لم تخرج في نزهةٍ، هكذا صارت طولكرم بلدةً بعد أن كانت مدينة كبيرة، فالنساء يضمرنَ حين تشحُّ الضحكة.

* شاعر وكاتب فلسطيني مقيم في الأردن