الإثنين  23 كانون الأول 2024

فصول من "كتاب الزيارة" : وقائع زيارتي الأولى لفلسطين المحتلة

2015-02-11 12:09:04 PM
فصول من
صورة ارشيفية
بحر رام الله
سلطان القيسي
 
"من الوطن..إلى محمود درويش"، أول ما يزلزل أعماقك حين تدخل قصره، قصر الشعر، أعني متحف محمود درويش، الذي صعدَ ليعتلي تلة " عين منجد" ليشرف على رام الله، الوطن .. أم الشاعر؟ أم المسافة بينهما؟
لم يقدس الفلسطينيون فرداً على مر العصور، والأمر جينيٌّ على ما يبدو، فالكنعانيون لم يقدّسوا آلهتهم حتى، و لم يخضعوا لها، فلقد أثبت دراسات تاريخية حدّثني عنها الفنان الفلسطيني العالمي د.عبد الرحمن المزين أن أطول إله كنعاني لم يتجاوز ال30 سم، وأنهم كانوا يضعونه في البيت كمنظر أو كتميمة، ما يعني أنهم لم يقدموا له القرابين، و لم يشيدوا المعابد و يأتمروا بأمرها، حتى أن المعابد كانت في الهواء الطلق تأخذ شكل مهرجان غنائي كل دورة، وحديثاً في الأغاني الوطنية يتغنون بالهم الجماعي فقط، ولا يغنون غزلاً بأشخاص كغيرهم من شعوب المنطقة، حتى أنني أذكر أيام الجامعة كان الطلاب يزفّون زميلهم الخرّيج ويغنون: "إطلع يا قمرنا  وهِلّْ .. وضوّي عالمخيمات" ويرددون أغنياتٍ ارتجالية زجلية ينتهي كل  مقطع منها بـ " إييييه يافلسطين!" .
وعلى أرض الواقع، حين يحدثك أحدهم  عن زمن الراحل ياسر عرفات تفهم من كلامه أن الأمر كان بسيطٌاً جدا:  تأخذ سيارة تاكسي، وتطلب من السائق أن يوصلكَ إلى المقاطعة، ثم تدخل  لتقابل الرئيس. وأظن أن هذا الأمر رسخه أبو عمار الرئيس الفلسطيني الراحل، بذكائه و حكمته. إذن لماذا نقدّس محمود درويش؟ إن الأمر ليس بالهيّن، فالمتحف يتمدد على مساحة هائلةٍ، وقد صمم على أسس صادمة؛ فمثلاً الشكل الهندسي له يطابق شكل قرية البروة مسقط رأس درويش، و المسطح على شكل كتاب مفتوح، و تربة القبر جيء بها  من البروة، كذلك التربة التي صنعت منها الرفوف التي وضعت عليها الجوائز و الدروع و الأوسمة التي نالها، كما أن المتحف يعد الوحيد عالمياً المجهز تماماً لاستقبال ذوي الاحتياجات الخاصة. تظل هذه الحقائق تسحبُ الدمعَ من بئر عينكَ حتى يقول لك فريق المتحف أن المصمم هو المهندس العالمي جعفر طوقان، أو نجل الشاعر  ابراهيم طوقان.. تبكي وتتخيل إبراهيم طوقان وهو يبارك درويش بجهود ابنه،هناك انهرت وصار الدمع جديراً.
العبارة الأكثر شيوعاً في رام الله هي "محمود درويش" .. لقد اصبحَ اسمه عبارة، قد يكون هذا التقديس الأول للفرد في تاريخ الكنعانيين، أو قد لا يكون درويش فرداً، إنه مشاعٌ لكل الفلسطينيين، تماماً كرائحة البرتقال و الياسمين، تماماً كزيتون الشوارع.
بحر رام الله لا يبدو سهلاً، الموجُ يسحب الرائحَ و الغادي، بارد جدا وساخن جدا، يأتي سريعاً ومباغتاً ويذهب كذلك، في شارع "باطن الهوى"، في رام الله التحتا، أو رام الله القديمة، إطلالة مفتوحة، على بعد أميال ترى عمارات شاهقة مضاءة، تنعكس هذه الإضاءة على سطح بعيد جداً .. على حافة القلب تقريباً، و المنطق يقول أن هذا السطح ماءٌ، وأن هذه العمارات في منطقة " الشيخ مونّس" التي صار اسمها "تل أبيب" .. هذا هو بحر رام الله، حلمٌ عالق في الصدر كقلبٍ مريضٍ، تقف هناك لتراه فقط حين يكون الجو صافياً، و الحقيقة أننا كنا ننظر في دواخلنا ولم نكن ننظر باتجاه البحر.
بيني وبينكِ ألف صحراءٍ وموتٍ واضحٍ..
بيني وبينكِ حلم من مروا وظلوا مثل زوجةِ لوطَ
يلتفتون للخلف البعيد..
وينشدون :
بيني وبينك ألف بينٍ بائنٍ
ونشيدُ عيدْ
مدنُ فلسطين صغيرةٌ جدا، وأليفة كقطط، والناس طيبون، يخلعون خبثهم على باب البلاد، كما يخلع المصلّي نعليه، هناك فقط اكتشفت حقيقةً: كلما اتسعت المدن صار الناس أكثر شراسة.
 رجعنا إلى البيت بعد أمسية المتحف متخمين بحب الأصدقاء، أخذنا أطول شهيق في الكون، تنفسنا حباً وطواعية، موسيقا عالية جداً كانت في داخلي، تكونت من أنفاس الحضور، من ابتساماتهم من دمعاتهم، من دعواتهم، من حزنهم اليسوعي و فرحهم الكرنفالي، من كل شيء، كان عرساً ولم تكن أمسية، وفكرت بجدية بعدها أن أترك الشعر، فأي مكان سيليق بحزني بعد هذا، أي مدينةٍ ستفهم ذهولي، أي ناسٍ سيعرفون لهفتي ويشيرون إلي بابتساماتٍ حملوها على ظهروهم و جاؤوا: " إنه ابننا العائد" ؟! 
لن يفوتني هنا أن أذكر فعلة سامح خضر مدير متحف محمود درويش، الذي لم يكن صديقاً عزيزاً بعد: جرني من يدي إلى مكتبه، أغلق الباب، فكَّ ربطة عنقي العسلية، وأهداني ربطة عنق قطفها من عين أناقته الدائمة.. الناس في فلسطين يحبونك دون مقابل ودون رصيد سابقٍ، ربما لم يفكّر سامح بالأثر العميق والطويل لهذه الفعلة العفوية كلهجته.
في نابلس، أصابني ذهولٌ من نوعٍ آخر، ذهول يشبه رائحة البهارات، يشبه الطرابيش الحمراء و الأراجيل، يشبه أنفاق و أزقة البلدة القديمة، يشبه الساعة القديمة التي تقف وسطَ البلد، ذهول لونه برتقالي، تماما كلون الكنافة النابلسية، ذهول عالٍ جدا كجبلي جرزيم وعيبال اللذين يحملان المدينة في حضنٍ دافئٍ، والأمسية هناك شيء مختلف، عائلةٌ كبيرة جداً جداً، ألفةٌ غريبة و قريبة، سأعترف هنا أنني للمرة الأولى بعد أن نفدت نسخ الكتاب أتعرض لهذا الحب، الحب النابع من شوق غامضٍ. سأعترف أنني للمرة الأولى وقَّعت على أوتوغراف، وأنني للمرة الأولى وقَّعت على أكفّ الحاضرين، ورحت أتخيل متسائلاً: أي ماءٍ ذاك الذي سيمسح توقيعي عن يد أحد الأصدقاء، كيف يجرؤ ماءٌ أن يفرق بين شاعر هشٍّ مثلي  وصديقه؟!
نابلس مدينة استيقظت فجأة حين دخلنا، أنا و علي الزهيري الذي ظلّ مصدوما حتى عودتنا، وعبد السلام العطاري الذي اصطحبنا كصديق أصيل و كشاعر عاشقٍ  و كمندوب عن وزارة الثقافة الفلسطينية أيضاً التي رعت الأمسية، نابلس.. مدينة تشبه الكتبَ الكبيرة، لا يقرأها الجميع، لكنهم يدركون عظمتها، استيقظت وعلى أكتافها تاريخ ثقيل، لأنها مدينة عريضة المنكبين.
وصلت صديقتي من الشمال الفلسطيني، ففاجأتها بطلب غريب: هل لي أن أقود سيارتك؟
 ضحكتْ طويلاً ثم ناولتني المفتاح و هي تسأل: ولكن لماذا؟ وكيف وأنت لا تحمل رخصة سياقة أصلاً؟ ولكنها عرفتْ الإجابة حين تُهنا في نابلس.. عرفت رغبتي المجنونة في أن أقود سيارة في فلسطن، فأثناء سيرنا في الشوارع كنتُ أظنّ اللافتات تمزح، مرة تشير إلى القدس، مرة إلى رام الله، مرةً إلى بيت لحم و الخليل، مرةً إلى أريحا، مرة إلى أسماء مستوطنات دخيلة، المستوطنات التي تعتلي الجبال، على الطريقة الكنعانية تماماً، بدليل ما رأيناه في "دير غسانة" قضاء رام الله، في أراضي الكاتب والصديق الكبير حافظ البرغوثي الذي اصطحبنا  هناك في رحلة جبلية، حيث ابتدأنا السير من مقام الخوّاص، حتى وصلنا أعلى تلة في المنطقة لنرى أنقاض بيت كنعاني و معصرة زيتون و معصرة نبيذ و حمّام و بئرين كبيرين، وهذا دليل على قيام مدينة صغيرة على هذه التلة، فالتاريخ يذكر أن الكنعانين كانوا يسكنون أعالي الجبال. تُهنا أنا  وصديقتي في مدينة لا نعرفها جيداً، مدينة من أكبر مدن فلسطين، ظللنا ندور حول أنفسنا، إلى أن تجلّت المدينة مرة أخرى، أعادتنا إلى المركز، إلى دوار نابلس، الذي يتوسط العالم ذاك كصحنٍ من المطبخ النابلسي، نحن الغريبان لا نعرف المدينة ولكنها تعرفنا جيداً.
في اليوم التالي استيقظت فزعاً، أدركت أن الساعة تآمرت مع العدو، وبدأ العد التنازلي، التنازل مفزعٌ دائماً، لا يأتي بسهولة ولا يذهب بسهولة أيضاً، تنازل الأهل عن المكوث ليحموا دماءنا في أوردتهم، وتنازلنا عن المغامرة باتجاه الأرض لنحمي الدمع في عيونهم، لطالما اتهمناهم بالكذب و الحنين والتهويل عندما كانوا يحدثوننا عن البلاد وعن رشاقتها، ولكننا اكتشفنا نادمين أنهم كذبوا أيضاً، كذبوا لأنهم لم ينصفوا البلاد، فالحقيقة أن البلاد أجمل مما قالوا بكثير.
الطريق إلى الخليل كانت صعبة و طويلة، علقنا على معبر قلنديا – بوابة رام الله- لنصف ساعة تقريباً، و كان السائق مملاً، لا يفتأ يعيد الفيديو و يضحك على تهريج الممثلين في مسرحية "العيال كبرت"، السائق بسيط جداً، يتناول الشارع على مهله، ولا ذنب له، لم نخبره بأننا على موعد مع أناس نحبهم في مسرح إسعاد الطفولة في الخليل، و لم يفهم هو ذلك من توترنا  ولهفتنا، ظل يعيد المشهد، وتجرحني الجملة : " العيال كبرت" .. نعم كبرنا و كبرت الجبال بيننا يا بلادُ!
تأخرنا عن موعد الأمسية 45 دقيقة، كان هذا الأمر كافٍ لأن يحيق بنا التوتر، و أن يزهقنا القلق كنملة تحت قدم الجندي، كان كفيلاً بأن لا نجد أحداً في المسرح، وأن نجد هناك عريضةً موقّعةً من أهل الخليل كلهم، تبيح دماءنا، وتنص على مقاطعتنا تماماً، وربما تتبرأ منا وتلغي كلَّ لهفة حملوها و حملناها كل من طرف، لكنها رحمةُ إبراهيم .. إبراهيم خليل الله و صديقه، وصلنا المسرح، فكان ممتلئاً كأننا وصلنا على الموعد، كان الأمر محرجاً جدا، تملكني حرجٌ دعاني إلى خطأ نحوي فادحٍ، رفعتُ ظرف الزمان.. الزمان الذي نكّل بنا، و الظرف الحرج الذي تلبّسنا، كان من الأجدى أن أغمسهما في الطين، لا أن أرفعهما، اعتذرنا لأبينا إبراهيم عن تأخرنا، واعتذرنا للناس، منهم من تقبل ذلك، ومنهم من لم يتقبل، ولكننا قبلنا في الحالين، فنحن المذنبان، وإن كان الذنب الجنود الذين يقفون علًى أبواب المدن، فنحن المذنبون لأننا تركنا الجنود يدخلون، الجنود الذين منعوا حسن مريم من الدخول، أنفسهم خلقوا عقداً على جباه قرائنا وأصدقائنا. الخليل تلك المدينة التي يصلها المرءُ متأخراً دائماً، أو التي  تسبقنا دائما، لم أستطع أن أذهب إلى معالمها التاريخية كلها لأزورها، لكنني مررت بأسواقها، مدينة كثيرة المحال، أسواقها عامرة، وناسها منشغلون في أمور التجارة وعالمها، تحس ذلك من اقتصادهم في الحديث و من إيقاع خطاهم السريع العالي الوتيرة، من قصصهم التي يتداولون، الخليل مدينة تقبع في الأخير، بثقة عالية، تعرف أن المدن ستأتي إليها لتزورها، هي أختٌ كبرى، و تعي حجمها، في الطريق إليها عرفت أشكالا عدة للقسوة و الصعوبة، منها مصاعب جميلة كطريق "وادي النار" التي تأخذك في منعرجات غير عادية، لتكتشف أنك تهبط بالسيارة من قمة جبل لتصعد قمة أخرى، تمر أخيرا بجبل الخليل  بعد أن تحاذي بيت لحم، وتهبط باتجاه مدينة الخليل التي تتحامى بجبالٍ تطوقها.