الأحد  22 كانون الأول 2024

بعضٌ من وهْم

2014-01-08 00:00:00
بعضٌ من وهْم
صورة ارشيفية

بقلم: أنور الخطيب

ثمة امرأة، تعتقد الآن أن تغريداتها على الفيسبوك وتويتر، كانت العامل الحاسم في الإفراج عن البطل سامر العيساوي، ستتحدث بخيلاء عن نضالها، ثم تغيب في ضباب الأمكنة، محتمية بجواز سفرها الأجنبي.

ثمة سفير، احتفل بذكرى النكبة بتنظيم عشاء وحفل فني انتهى بالغناء لأم كلثوم، سيذهب منتشيا إلى “بيت السفير” لاعتقاده أنه قام بدوره الوطني على أكمل وجه، رغم أنه الحفل الوحيد الذي ينظمه من أجل فلسطين طيلة شهور السنة.

ثمة فتاة، شاركت في مهرجان تراثي بارتداء ثوب فلسطيني مطرّز، ستتباهى أمام رفيقاتها بأنها حرّرت نصف فلسطين، وستنشر صورها كعارضة أزياء محترفة على مواقع التواصل الاجتماعي.

ثمة شاعر، ألقى قصيدة عصماء، شتم فيها كل المتخاذلين بلغة فجّة مباشرة وسطحية، فصفق له الجمهور، يحتفل الآن مع أصدقائه باحتساء نخب الواجب الوطني، سيعود إلى بيته راضياً مرضيا.

ثمة شاب محمول على الأكتاف، يرفع الآن صورة “أبو عمار” في عرس في مخيّم للاجئين، ويغنّي وسط هيجان أصدقائه (علّي الكوفية علّي)، بينما يخرج آخر مسدسه من غمده ويطلق النار في الهواء، سيذهب كلّ منهما مع أصدقائه لتدخين سيجارة الكفاح المسلح.

ثمة كتاب وشعراء ومسؤولون، سافروا من بلد إلى آخر، للاحتفال بمئوية أحد الشعراء الراحلين، وتصرفوا كالضيوف الرسميين والدبلوماسيين، ولم يلتقوا الشعراء والكتاب والصحفيين الفلسطينيين في الدولة المضيف، ولم يفكر أحدهم بإحياء فرع الكتاب الفلسطينيين، عادوا إلى بلدهم بإحساس من قام بعملية فدائية.

ثمة مسؤول ثوري رفيع، ذهب للسهر في فندق فاخر، والاستماع إلى غانيته المفضلة، أغراها كي تغني لفلسطين ونجح، فتمايل ونفخ صدره ورقص طيلة الليل مع صاحبته، سيعود ثملا إلى بيته الكائن على ربوة تطل على البحر، وهو على قناعة تامة، أنه وضع اسم فلسطين في المحافل الدولية، وسينام بضمير صاف. 

ثمة جمعية ثقافية، جمعت أموالا طائلة من رجال الأعمال، لاستضافة فنانة لإحياء يوم الأرض، يشعر رئيسها الآن أنه حرّر نصف الأرض، وسيعود مبتهجاً فخورا بإنجازاته، يستعرضها أمام مجلس رجال الأعمال الفلسطينيين. 

ثمة جمهور عريض وغفير يفترش الساحات ويرابط أمام الشاشات لتشجيع فنان صاعد، لم يخرج شاهرا صوته في وجه المتاجرين بقوت يومه، ولم يشهر سيفه في وجه المحاصرين له، سيغادر الساحات وفي داخله إحساس من خرج في مظاهرة ضد الجدار.

ثمة مسؤول كبير، منح جواز سفر دبلوماسي لفنان، كي يتنقل بحرية، ويغني في المهرجانات والأعراس والحفلات، سيسجل قراره المصيري في الكتاب السنوي، وسيؤكد أنه أطلق نجماً سيضيء سماء فلسطين من أقصاها إلى أقصاها. 

ثمة امرأة سمراء تعمل في محجر لإعالة أخوتها وأبيها المقعد ولم يلتفت إليها السفير.

ثمة مريض بمرض مزمن يستجدي اصحاب الأيادي البيضاء لتوفير الدواء، ولم تلتفت إليه المرأة التي حرّرت سامر العيساوي متهمة إياه بالتمارض.

ثمة طالب عبقري أنهى دراسة الثانوية بتفوق، لم يلتفت إليه رجل أعمال.

ثمة شاعر يحفر في صخر الغربة، يحمل وطنه في روحه، لم يستطع المسؤول الكبير منحه جواز سفر بدلا من وثيقة السفر التي تقيده وتحبس أشعاره داخل الجدار وفي دائرة الحصار.

ثمة رجل تقدم من المسؤول الثوري بطلب الالتحاق بالتنظيم، نهره المسؤول متّهماً إياه بالنفاق والركض وراء المال، وطلب منه الابتعاد وعدم اقتحام خصوصياته.

قال الشاعر الفلسطيني العالمي محمود درويش في لقاء تلفزيوني إن كتابة الشعر ورطة حقيقية لرجل فلسطيني مثله، وتكمن الورطة في ظن الشاعر أنه قام بواجبه الوطني على أكمل وجه، ويشعر براحة الضمير، ويمارس حياته وكأنه أنجز مهمته، وفي هذا بعض من وهْم