الأحد  22 كانون الأول 2024

وردة عيسى. لـ أنور الخطيب

2014-07-03 02:54:44 PM
وردة عيسى. لـ أنور الخطيب
صورة ارشيفية

  الحدث: حصري

الفصل الأول (2-2)
لـ أنور الخطيب.
عيسى
(حين تولد في الكنيسة.. لا يعني أنك تشبه المسيح أو تكونه)
فرح عيسى أيضا لسماع صوت أبيه، وداخله إحساس بالرضا لرحيله قبل اندلاع القتال وهيجان دبابير الفتنة، رغم أنه لا يعلم إلى أي طرف سينحاز، وانحياز أبيه يعني الانخراط المباشر في القتال، فقد كان عيسى يسمع والده وهو يتحدث بغضب وأسى عن النظام، كلّما اعتقُل أحد أصدقائه لمجرد الإعلان عن رأيه أو تذمّره من تصرف مسؤول أو انتقاده لغياب خدمة من الخدمات أو سوء تقديمها، أو لموقف سياسي متذبذب، وكان يتقزز أيضا كلما قابل رجلا ينظر إلى العالم بعين واحدة، وكان يشعر عيسى أن موقف أبيه لا يؤيد أي طرف، ولو ظل حياً حتى مرحلة اندلاع القتال وتقسيم البلاد إلى مائة إمارة ودولة وجمهورية وحكم ذاتي، كان لا بد أن يتخذ موقفا ويترجمه على الأرض، وقد لا يكون مع الدولة ولا مع المسلحين، فقد كان يرفض العيش بين الاستبداد والتطرف، ربما كان سيخترع حزبا ثالثا ويخوض الصراع أيضا، وسيجد من يموّله بسهولة.
لقد حضر صوت أبيه بقوة، لأنه تنبأ بما يحدث منذ أربع سنوات:  
(اسمع يا عيسى، أنت تعلم أنني تزوجت امرأة قبل أمك، ولي منها ابنة جميلة اسمها ريما، تسكن المنطقة الغربية من المدينة، فضّلت أمها حضانتها والابتعاد عن حيّنا، قد لا تصدقني لو قلت لك أنني لا أعرف كيف تم الطلاق، فنحن معشر الرجال تنتابنا أحياناً رعونة لا أسباب واضحة لها، فنركب بحر الطلاق كما نركب البحر، جاهلين وجهتنا، فلا ندرك ما اقترفه جنوننا إلا بعد هبوب عاصفة الوعي، وهذا يصيبنا حينما نتزوج أيضا، أصدقك القول أنني لا أعرف كيف تزوجنا أيضا، كأن الزواج رعونة أخرى بملابس مختلفة، يمكنني القول أنها رعونة أنثوية ناعمة، كأسد متوحش يدخل القفص طواعية من دون حيّل أو مؤامرات صيادين، تمر القصة أمامي يا عيسى كحلم، وأنت بقيت تمر أمام عينيّ كحلم أيضا، لم أصدق سمعي حين تناهى إليّ صراخك، كان أعلى من صوت المرتلين في الكنيسة، كان أشبه بتصاعد آلام المسيح على خشبته، قد لا يكون ذلك في الحقيقة، لكنني سمعته عاليا ومؤلماً، ولا أخفيك، حين أتى أمك الطلق وسحبتها الراهبة أنطوانيت إلى غرفة داخلية، توقعت أن تخرج حزينة حاملة جثة صغيرة، كما فعلت القابلة مع أخويك، فأذهب إلى سجل المواليد الجدد ثم إلى سجل الوفيات، ونقيم جنازة لا يسير فيها أحد سواي ثم أعود ويداي مليئتان بالحسرة والوجع،  قد لا تشعر بفقد أخويك، لأنك لم تشهد مواراتهما التراب، أما أنا فبكيتهما بحرقة، وتقبلت العزاء بهما من الأقارب والجيران، واستصدرت لهما شهادتي ميلاد ووفاة في اليوم ذاته، هل تفهم معنى هذا يا عيسى؟ ربما تدرك هذا لأنك عيسى، وربما لا تدرك لأنك لست هو، ولهذا، وافقت على أن يباركك الأب جرجس، صحيح أنني كنت أشعر ببعض الحرج الظاهري، وربما كنت سأرجوه أن يباركك لو لم يطلب مني ذلك، وحملتك أيضا بعد أسبوع من ولادتك إلى المسجد ليباركك الشيخ عبد الكريم، وهنالك فرق بين أن يباركك أحد بطلب منه وبين أن يباركك آخر بطلب منّي، فقد امتعض الشيخ عبدالكريم حين علم أن الأب جرجس باركك قبله، وأعلن ذلك صراحة حين قال: (البركة الأخيرة هي التي تبقى)، لم يهمّني امتعاضه ولا حكمته التي لم يكن لها أي معنى، فقد أردت أن تباركك الديانات كلها، وتدخل في سمعك كل الكلمات التي تفتح طريق النور إلى السماء، رغبت في أن يباركك كل الناس والمخلوقات، حتى القطط الحزينة المشردة في الشوارع والكلاب الضالة الوفية، والأشجار العتيقة وورود حدائق العشاق والمشردين، وحفارو القبور وصاحب القلم في سجلات المواليد الجديدة، لا لتكون نبياً أو قديساً أو مباركاً، ولكن لأحصّنك من الموت، واعلم يا بني، لا أحد لديه مناعة ضد الموت، فهو ليس مجرد فيروس أو وباء أو مرض عضال، واعلم أيضا، لقد قبلت أن يكون اسمك عيسى لأنني أحب صاحب الاسم، وأرجو من الله أن لا تمر بآلامه، وإن مررت بآلام شديدة لا تظن أنك تمر بالتجربة ذاتها، أعلم أنك تطرب لسماع اسمك من أصدقائك ومدرّسيك، فحافظ على هذا الطرب الجميل، رائع أن يطرب الإنسان لسماع اسمه، وفوق ذلك إنه اسم له تاريخ، أحبّ الأسماء التي تنتهي بحرف مفتوح على المدى والحياة. لن أوصيك بشيء، فأنا أصغر من أن أكون حكيما، وأكثر جهلاً من أن أدّعي المعرفة، صرفت عمري أتنقل بين أسرّة المواليد الجدد والأطفال الصغار وتلهّف الأمهات وقلق الآباء وهم ينتظرون خارج غرفة الولادة، أنا لم أمر بحالة القلق يوم وُلدتَ، توقعتك ميتاً، والموت ينفي القلق، لكنه ينبش الحزن، وحين واصلتَ استنشاق هواء الحياة، ذهبتُ إلى جناح الأطفال ورقصتُ فرحاً، وقبّلت أيادي كل المواليد وعانقت الآباء، صحيح أنني جربت الأبوة وخبرتها مع أختك ريما، لكن أمها لم تمنحني فرصة مراقبتها وهي تنمو وتتحول من طفلة إلى أنثى، فجأة قررتْ الحياة وحيدة، وتوسّلت بكبرياء أن أبقي لها ابنتها، لم أكن من الرجال الذي ينكبون على قراءة قانون الأحوال الشخصية حين تطلب نساؤهم الطلاق، وافقت دون نقاش، لم أسألها عن سبب طلبها للطلاق، اكتفتْ بالتعبير عن رغبتها، ربما اكتشفتْ أنني غير مؤهل لتربية الإناث، ولا أدري كيف اكتشف ذلك، باختصار يا عيسى يا بني، شعرت بالفراغ المقيت القاتل بعد يومين من مغادرة أم ريما البيت، وكابرت وتعاليت على ندمي، لكننش شعرت في لحظة سوداوية أنني كنت كخيل أصيل مهمته التخصيب فقط، فلا يرى أبناءه الصغار وهم يتعلمون الصهيل، هي أنانية من أصحاب الخيوب، وأنانية أيضا من بعض الأمهات التي تنظر إلى الرجل على أنه مجرد ذكر فقط، بينما الرجال بشر جميلون يحبون تأمل نطفهم وهي تنمو، نحن يا عيسى نتعلق بأولادنا لأننا نرقبهم ونراقبهم وهم يكبرون كل يوم، فنعرف الحرف الأول الذي نطقوه، واللحظة التي استطاعوا الجلوس فيها، ونوثق لحظة وقوفهم على سيقانهم وقيامهم بالخطوة الأولى، هل تعلم ماذا شعرت حين نقلتَ قدميك خطوتين؟ أحسست أن ساقين جديدتين نبتتا لي، ولم أعد أخشى الزمن، ولكن اعلم يا عيسى، لن أحارب الزمن بك، هل تعلم أن أمك لم تعلم بقصة رقصي في جناح المواليد الجدد في المستشفى، ولو علمت أنني بكيتُ بعد الرقص لما صدّقت، فأنا لم أبك في حضرتها مطلقاً، وذاك ما كان يؤلمني، وأنا لم أبك أمام المواليد فرحاً، بكيت لأن صورةً بشعةً جداً مرت أمامي، رأيت النار تشب في كل زاوية من الجناح، وسمعت عويل الأمهات وصراخ الآباء، فإن حدث ورأيت المشهد يتجسد أمامك، تذكرني فقط، وقل أن اباك لم يكن كافراً.