الإثنين  23 كانون الأول 2024

ضوء في الدَّغْل

من شاهدكِ ترقصين أيتها اللغة

2015-02-26 09:50:49 AM
ضوء في الدَّغْل
صورة ارشيفية

الحدث
 محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
 
في العالم العربيّ، شعريّا، هناك عودةٌ غريبةٌ للنَّظم من خلالِ قصائد أكبر اشتغالٍ فيها هو الوزن، وكل رهانٍ فيها هو أنْ يقيم ناظمُها كلماته ويرصفها على بحر من البحور أو تفعيلة من التفعيلات. ولعل سبب هذه العودة يرجع إلى سيطرة ثقافة المشافهة، فالعربي يزداد يوما بعد يومٍ بعدا عن ثقافة الكتابة مما يترتَّب عنه اتساع الهوة بينه وبين القراءة. بل لا نبالغ حين نقول إنَّ العرب لم يتوغَّلوا في الكتابة بما يكفي لتتغيَّر الحياة ويرتقي التفكير مما تقتضيه المشافهة من حماسة إلى ما تشترطه الكتابة من تأمُّل وهدوء.
 
يعيدنا هذا الواقع الشعريّ إلى ما يجب أنْ يكون، وهو رهان الشاعر مع نفسه ومع اللغة. وكلامنا هنا هو عن الشاعر الذي يكتب لا عن الذي يقول، والفرق بينهما كبير، وهو نفسه الفرق بين الكتابة والمشافهة. يبدأ الرهان الأوَّل من المعرفة العميقة بالتراكم الشعريِّ داخل اللغة التي ينتمي إليها الشاعر، وهذا ليتمكَّن من الاندراج ضمن حركة الزمن الإبداعيِّ، وليصبح واعيا بالتحوُّلات الشعرية المهمَّة التي تطرأ في كلِّ مرة على القصيدة فتغيِّر ملامحها. يتيح هذا للشاعر فرصة لكي يضيف بتجاوز القديم وبتجاوز ذاته شعريا، لأنَّه لن يحقق شيئا جديدا إذا كان منقطعا عن اللحظة الزمنية التي يعيشها وعن حركة التاريخ التي أدَّتْ إليها. ولعل هذه هي مشكلة هؤلاء النَّظامين الذين يعيشون زمنيا بيننا، وينتمون إبداعيا إلى لحظة أحمد شوقي وربما إلى ما قبله. هذا ما يجعلهم كائنات خارج التاريخ عالقة في لحظاتٍ جمالية ماضية ومتجاوزة، ومشكلتهم أنهم لا يدركون ذلك بعد.
 
ويتمثَّل رهان الشاعر الثاني، وهو الأهمُّ طبعا، مع اللغة، وهو رهانٌ صعب جدا. والسبب راجع إلى تعامل الشاعر معها، وإلى كونِها ظاهرة شديدة التعقيد لأنَّها، من جهة، الدليل على الوعي، ومن جهة أخرى وسيلة إدراك الأشياء، بل هي الأشياء لأنَّ لا شيء موجود خارج الإدراك، ولا إدراك إلا بلغة(إشارات الصم والبكم لغة أيضا). إذا كانتْ اللغة بهذا المعنى تصف العالم فتمنحه قيمته ووجوده، فلغة الشعر ماذا تفعل؟؟ إنَّها تتمرَّد على النمطية التي تسكن الكلام بواسطة الارتباط المرجعي بين الدوال وبين أشياء العالم، إنَّها تخلخل العلاقة بين الدَّال والمدلول، والغرض ليس وصف العالم، بل خلق عالم جديد داخل القصيدة من خلال الاشتغال على الاحتمالات غير المعادة للجملة الشعرية. الشاعر لاعب ماهر بهذا المعنى، يبني، انطلاقا من مبدإ المجاورة اللساني، وجودا مختلفا داخل نصه، وهو بهذا يثري العالم والإنسان، ويلتقط القيم الباقية الخالدة. فلنقل إذًا إنّ الشاعر رجل الأحلام، ينتج من الواقع المعروف وقائع أخرى غير معروفة، وليس الغرض هو هذه التهويمات والتخيلات فقط، بل الغاية هي إعطاء معنى ما، سؤالا ما، دهشة معينة في تلقي خطاب الحياة.
 
أختمُ بتلقِّي الشعر عربيا، وهو صراحة لا يبشِّر بخير. فأغلب القرَّاء لا يزالون عالقين داخل دائرة تلقٍّ للشعر كلاسيكية تروم الإطراب الذي تناله الأذن، وتغفل عن الرؤية التي يطرحها النص. ولذا يظلُّ كثير من القرَّاء في معزلٍ عن الأفق الذي حققتْه الحداثة عربيا في نماذجها الجيدة، لأنَّهم اعتادوا على نصوص شعرية مهادنة ترسِّخ أفق توقّع المتلقي فتأسره أكثر في الفهم الكلاسيكي للشعر(الوزن والقافية).
 
أيُّها القارئ:
كل نصٍّ تتلقَّاه كما تشرب الماء يسخر من قدراتك..
كل شاعر يقولُ لك هذه عيون جميلة، وتلك سماء صافية لا يؤمن بمواهبك.
كل قصيدة تقرعُ في أذنك ألف طبلٍ ولا تقرع في عقلك سؤالا واحدا تستغفلك.
كل قراءة لا تقودك إلى مكتبة ولا تشعل فيك التفكير ضياع وقت.

(ملاحظة:عذرا على هذه التعميمات صديقي القارئ، لكنها ضرورية أحيانا).