الإثنين  23 كانون الأول 2024

هايكو القدس تجربة إبداعية فريدة.

2015-02-26 10:11:14 AM
هايكو القدس تجربة إبداعية فريدة.
صورة ارشيفية
 
 
الحدث- مصطفى لغتيري
 
رغم الأصول اليابانية لشعر الهايكو، إلا أنه بفضل بساطته وعمقه امتاز بجاذبية خاصة جعلته محط اهتمام المبدعين في شتى أقطار العالم، ورغم أننا في الوطن العربي لم نول كبير اهتمام لهذا الجنس الأدبي الجميل، غير أن كثيرا من الأدباء أخذوا يشرئبون تدريجيا نحو سحنة الهايكو الربيعية، وقد ظهرت تباعا بعض النصوص هنا وهناك، تحتاج إلى لم شتاتها وجمعها في مصنفات شعرية، تتيح للقارئ العربي الاطلاع بعمق على هذه التجربة الإبداعية الوليدة.
 
في غاليري الأدب اخترنا أن ننظم ورشة إبداعية سميناها "هايكو القدس" تناغما مع اختيار فلسطين ومعها القدس ضيف شرف على المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء، وقد كانت الاستجابة كبيرة، فغنمنا عددا كبيرا من نصوص الهايكو، التي تحتفي بالقدس من شتى النواحي.
 
وإذا كان الهايكو العالمي لا يستقيم له وجود دون الحضور القوي للطبيعة وحقلها الدلالي الدال عليها، فإن مبدعي غاليري الأدبي ووعيا منهم بهذا المعطى أو الركيزة، جعلوا معجم الطبيعة حاضرا في كثير من النصوص، لكنها طبيعة دالة على المأساة احيانا، يحضر فيها شحوب الخريف وقسوة الثلج والزمهرير ، يقول المبدعة رحيمة بلقاس:
 
صفراء أوراق الخريف
الخضرة لا تفارق زيتونها
القدس الحبيبة
وهو نفس التوجه الذي ارتضاها المبدع عبد الله امدياز لقصيدته حين يقول:
ذابلة كل الورود،
مابها ورودك يا قدس،
تزهر مدى الحياة
كما أغرت الطبيعة المبدع الفلسطيني أمين دراوشة فنسج قصيدته الهايكو بسداتها قائلا:
تاريخ يمشي بغبطة
إيل يركض في البراري
طفل يحضن عباد الشمس
إن الطبيعة في نصوص الهايكو التي جادت بها أقلام مبديعي غاليري تعد معادلا موضوعيا للمأساة التي طالت أكثر من اللازم، فأضحت علامة مميزة للقدس السليبة. التي غدت وردة في هايكو يوسف سعدون، الذي جعلها أكثر من ذلك وردة شهيدة تزف على أكتاف المشيعين نحو متواها الأخير.
سقطت وردة
حملوها على اﻷكتاف
انطلق العرس
فيما جعلت الشاعرة إحسان السباعي من القدس عصفورا يئن ألما مكتويا بجمرة القدس الملتهبة:
بعيدا
تغريدة عصفور يئن
في جمرة لهيب القدس
وهذا الاستثمار لمكونات الطبيعة تألق كذلك في قصيدة المبدعة مليكة لشهب:
زهور متفتحة
للكتب حاضنة
تعليم في الخيام
 
وباعتبار القدس مدينة للسلام أو هكذا من المفترض أن تكون، لولا العنجهية الصهيونية، التي تحاول أن تستولي عليها بغير حقا، وتهويدها بالكامل، فقد حضر غصن الزيتون دالا على معنى الجنوح إلى السلم والسلام، في نوع من الانتصار إلى هذه القيمة الإنسانية، التي لا يعدها ضعفا إلا الجاهلون، وفي هذا المعنى قالت الشاعرة سعدية بلكارح:
 
قذائف الحقد تحفر الهيكل..
يغازل اليمام أغصان الزيتون
وهو نفس المعنى الذي ركزت عليه المبدعة خديجة شقوري في قصيدتها التي تقول فيها:
خديجة شقوري
كفني بيميني
غصن زيتون بيساري
ارض مغتصبة تنتظر
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فلا يمكن لحضور غصن الزيتون كرمز للسلام سوي أن يستدعي حضور رمزي عالمي بنفس المعنى رمزا عالميا يتمثل في الحمامة، يقول شاعر الهايكو عبد الكريم الحسني:
خلف أسوار القدس
حمامتان تبكيان
الطفل وأمه
 
كما أن المبدعة رشيدة خزيوة استلهمت هذا الرمز، واختارت مخيلتها الإبداعية أن تجعل منه حمامة حزينة كانعكاس إبداعي لحزن القدس:
 
سماء غائمة
حمامة تبكي ..
الحجارة تصرخ
 
وحتى وإن انزاحت قليلا عن الحمام فقد عزف المبدع أشرف الفاضلي على نفس النغم لكن بتوظيف السنونو بدل الحمامة حين يقول:
عائدة من المنفى
سنونوة ثكلى
تغني أورشليم
 
ولعل هذا الحزن مبرر إبداعيا، خاصة وأن المأساة أكبر من أن يبرهن عليها، فالقدس السليبة ما فتئن تئن تحت وطأة الاحتلال، لذا كان الشعراء يغترفون من نهر الأحزان وهم يكتبون قصائدهم يبكون القدس وفلسطين، تقول المبدعة السعدية فاتحي في هذا الصدد:
 
السعدية الفاتحي
انسكب فنجان العرب
سقطت حجارة ملفوفة
برداء شهيدك يا فلسطين
ويضيف رضوان الكسوار معززا ومساندا لهذا الطرح:
- رضوان الكسوار
اشتاقت شجرة الزيتون إلى أصلها
فمالت شرقا
مشيرة إلى فلسطين
كما حضر هذا الوجع بقوة في هايكو المبدعة سميرة المنصوري حين تقول:
جرح في الروح غائر
لا يبرأ ولا يندمل
القدس الجريحة
 
وهي متناغمة في ذلك إلى حد كبير مع المبدع يوسف التزراتين الذي يقول في قصيدته:
 
جروح قلبي غائرة
يقطر منها الدم
فلسطين
 
غير أن هذا الحزن المقيم لم يقتل في نفوس المبدعين روح الأمل والإصرار على تحرير القدس،يقول عبد الله لبحر متغنيا بروح الأمل:
 
برائحة الورد و الزعتر البري
كان يحدثني عن فلسطين
ذلك الشيخ المقدسي
 
وهي ذات القدس التي يقول عنها المبدع محمد لفطيسي:
صخرة قبة
تظلل مليار مسلم
سماؤهم قدس
 
وبنفس تلك الروح الصامدة المؤمنة بمستقبل القدس يقول عبد الغفور أفراريج:
فقدت القدس
كل الأولاد
تبنت النجوم
 
وكأنه يرد بذلك على المبدعة نادية الخديري التي يحزنها تناسل المستوطنات فتقول:
الشَمْسٌ تُجَفِّفُ أَحْبَالَ الغِيَّاب
تنتقي الوجوه على غسيلها
مستوطنات تتفرع
 
وهو أمل يزهر في القلوب والنفوس، فترتفع في الأجواء تلك الأغاني المبجلة للحرية يقول المبدع عبد الإله مهداد:
يموت الزّهَرْ
ينمو الزّهر ...
مازالت أغصان الزيتون تغني
 
فالقدس لن يموت ذكراها في وجداننا وعقولنا كما يقول محمد دريوش:
هودوا كل شيء فيها
إلا مجراها في العروق
القدس.
 
فأمر القدس لا يتوقف على الإنسان فحسب بل يطال الشجر والحجر، وحتى البرتقال لا يرضى غير فلسطين هوية، تقول فاطمة الشيري:
هودوا كل شيء فيها
إلا مجراها في العروق
القدس.
 
ولا يقبل مبدعو الهايكو أن يكون الحلم مجرد نوايا طيبة، بل يؤمنون بأنه لن يتحقق إذا لم تستوعبه العقول وتؤمن به القلوب، وتحمل السواعد السلاح من أجل الكفاح لاسترداد حقوق مستحقة. فلن ننتظر صلاح الدين كما يقول المبدع عبد الحميد مرحوم:
حاملا سيفه
راكبا جواده
ظنوه صلاح الدين
 
ولنا في الانتفاضة درس بليغ في الكفاح بأضعف الإيمان وقد استثمرت المبدعة - سهام عنتاري ذلك قائلة:
 
داعب الحجارة
واجه الإغارة
نجل زهرة المدائن
 
وفي نفس السياق قالت المبدعة اعتماد عطا الله:
قسمات شاحبة
...حجارة و اثربة ...
..فلسطين صامدة
 
وقد بجل المبدع ادريس أحمد الشريف تلك الحجارة المباركة قائلا:
طوبى لمن يعطي
من دمه حجر
طفل يعانق الخلود
 
وعلى نفس النغمات تقريبا كتب المبدع محمد معاشيب قصيدته:
ينحت ذاكرة الشمس
بجرح حجرة الأساس
جسر العودة نهض
 
ولعل هذا الإيمان بعدالة القضية هو ما يجعلها عصية على النسيان تقول حورية بوكدال:
تراها عصية صلبة
تلك ليست
إلا القدس
 
وهذا الاستعصاء ترجمه الخضير كريش إبداعيا فقال:
القبة الحديدية
جعلتها أضحوكة
قبة الصخرة
 
وقد نال شهداء القضية نصيبهم من الزخم الإبداعي في غاليري، فقال المبدع عزيز أجعيط:
أطفال،
يحتفلون بالفراشات في السماء
حلقوا حينها شهداء
 
فالمؤمن بقضيته لا يحد من اندفاعه نحو الشهادة أي نوع من التنكيل حتى لو كان الموت الذي قالت عنه المبدعة أمينة منيب:
رائحة الموت تفوح
دمار يعم المكان
في كل زاوية مهد.
 
ليس غريبا بعد هذا الاحتفاء الإبداعي بالقدس شعريا ومن خلال قصائد الهايكو أن تردد المبدعة زكية زناتي قصيتها التي تقول فيها:
أصبح أنشودة
وقد كان قضية
ثالث الحرمين
 
ولا أظن أن هناك أفضل من الأمل في تحقيق غد أفضل للقدس وفلسطين كلها لنختم به هذه الجولة في هايكو القدس، فقد كتب مصطفى لغتيري قائلا:
منتشيا حط السنونو
على قبة الصخرة
فلسطين ابتسمت.