الإثنين  23 كانون الأول 2024

فصول من كتاب الزيارة

كيف لرجلٍ عاديٍ مثلي أن ينام في القدس؟!

2015-02-26 10:22:32 AM
فصول من كتاب الزيارة
صورة ارشيفية

 
الحدث- سلطان القيسي

رأيت أريحا أكثر من مرة، كيف؟
أولاً في الطريق إلى رام الله مررت بها، رأيت منها جانباً واحداً فقط، الحدود و الفنادق بعدها، والمرة الثانية رأيتها على المياه المعدنية، في كل بيت في رام الله، في كل مطعم، في كل مقهى، تقرأ " مياه جريكو"، والمرة الثالثة ذهبت لزيارتها زيارةً ارتجالية، أريحا أو" يريحو"  كما  كان يسميها الكنعانيون، و يعنون بها " مدينة القمر" هي أقدم مدينة على وجه الأرض، ترى فيها تاريخاً جافاً لما مر عليه من أيام، ولأنه واقف طوال النهار تحت شمس حارقة، الناس في أريحا يميلون إلى السُّمْرةِ، يركبون الدراجات الهوائية كوسائل نقل، كما يستخدمون سيارات فارهة أيضاً، قد يكون الأمر متعلقاً بالمال، وقد يكون مجرد تقاليد اعتادوها. النخل منتشر و باسق في أريحا، تماماً كحراسٍ يراقبون المدينة، والقصور التاريخية تعتلي الجبال، لا سبيل إليها إلا التلفريك، الذي تركبه لتنظر إلى الأرض فتراها زرقاء لامعة بفعل الفسيفساء التي تزين أرض البلدة القديمة، والطواويس تنتشر حول النوافير الموزعة في كل زاوية من زوايا البلد.

 هدم أسوارها النبي يهوشع، الذي بشّر بالتوحيد أيام كان أهلها يعبدون الأوثان، صب عليها ثلاث لعنات لأنها كانت عصية عليه، ولم يدخلها إلا بمعونة راحاب العاهرة التي أعطاها الأمان فيما بعد بحسب الرواية التوراتية، وبعد سنين رفع حيئيل أسوار أريحا، فمات ابنه البكر بلعنة يهوشع، و حين بنى المدينة مات ابنه الثاني بلعنة يهوشع أيضاً، و لحق بهما الثالث حين سكنها.
 
وأنا أحبّك
تحملين إليَّ أقمار الغياب جميعها
وتحرمين عليّ و جهكِ
كم أريحا سوف تقتل عاشقاً ؟!
كم مرةٍ سيخونني سيف الحنين؟!
 
عدنا من أمسية الخليل الرحبة جدا، متعبين.. قلت لعلي الزهيري: سأصلي غداً في الأقصى. فدخل في نوبة ضحكٍ طويلة، وظل يقول لي مجنون ...مجنون .. مجنون ويضحك، ضحكت معه ودخلت في نوبة السعال التي تهاجم ضحكتي دائما، وكان غريباً أن دخلها الزهيري معي،  ثم انخرطنا  معاً في موجة بكاء طويل، سَبَبْنا كلَّ شيء، جاوزنا النواحَ، شددته إلى حضني ونحن نواصل سبّ الاحتلال بألفاظ نابية، ونبكي و نضحك على الحال التي وقعنا بها، فالقدس تبعد 10 دقائق عن مكان إقامتي في رام الله، ولا سبيل إليها، سوى الطرق الخارجة عن قانون اليهود المحتلين، أخذني صديقي الشاعرعامر بدران بسيارته إلى أطراف رام الله، لنشرف على سجن عوفر، وأضواء مدينة القدس البعيدة، عامر بدران ضحك حين سببته وهو يقول: "هذا الشارع المضاء اسمه طريق القدس – يافا". سببته و ضربته بقبضة يدي في كتفه، الأصدقاء هناك جارحون وجميلون، عرفات الديك الشاعر الصديق حين مازحته قائلاً: "رايح على يافا" قال لي: "انبسط عنّا"، جرحتني ابتسامته ولم يدرِ.

استيقظت يوم الجمعة على صوت الأذان، دون أي تخطيط بدلتُ ملابسي، اتصلت بالزهيري لأخبره: أنا رايح عالقدس، تأفف علي، وقال لي: كن بحجم المغامرة يا ولد!

لبستُ معطفي، أخذتُ تاكسي إلى قلنديا مثل مجنون أنيق، ظللت أرتب شعري طوال الطريق، أفرغت علبة عطر الجيب على وجهي و ملابسي، أخذت سيجارة، وأعدتُ ترتيب ملامحي، وأنا أتذكر جملة صديقي الذي تخرج من كلية الفنون الجميلة، و الذي يعمل في المسرح " سلطان، أنت ممثل بارع.. صدقني لو شاركتنا عملاً ستكون موفقاً" .. صدقتُه حين وصلتُ قلنديا، صدقته لأنني بحاجة إلى هذا، بحاجة إلى أن أكون ممثلاً على ثقة عالية، سأدخل في دور استعباطيٍّ، سأقنع الجندي بأنني أردني، أتيت هنا  بدعوة من متحف محمود درويش و سأصلي الظّهر كما المسلمين في الأقصى و أعود إلى رام الله، وأتظاهر بأنني لا أعرف شيئاً عن منع فلسطينيي الأردن والأردنيين من دخول القدس، طلب الجندي جوازي و تصريحي، أعطيته الجواز، و كنت أحاول إخراج التصريح من جيبي، حين أشار بيده: ادخل..

حتى الآن لا أعرف كيف تمالكتُ أعصابي حينها، و أنا أخرج من هذا الفيلم، لأدخل الواقع، الواقع بأكمله، الواقع الحقيقي كبداية الكون، الغامض كوجود اليهود على المعابر، الحقيقة كلها أمامي: قبّة الصخرة..ارتجفت طويلاً، أصابني ذهولٌ و تشنّج، أنا الآن تحت عرش الله تماماً، هكذا خاطبتُ نفسي، مليون مرة حاولت أن أسحب موبايلي من جيبي لأتصل بعلي الزهيري، ولكن دون جدوى، في المرة الأولى نسيت يدي في جيبي، في المرة الثانية نسيت الموبايل في يدي، في الثالثة سقط من يدي وانتشرت أحشاؤه في كل مكان، نزلت لألمّه، انهرت .. قبّلتُ الأرض و بقيت ساجداً لدقائق.. أيقظتني رائحة الفلافل: انهض أنت في القدس الشريف..

اتصلت بالزهيري، ولكن الصلاة كانت قد انتهت، وصل الزهيري قلنديا فأعادوه.. ولكنني ظللت أنتظر، جُستُ خلال الديار، لألتقي نضال، الفتى المرابط في الأقصى، يأخذ الناس ليدلهم على المرافق، و يساعدهم بأخذ صور مع إرث السماوات، ويأخذهم في جولةٍ حول المسجد، أخبرني أثناء الجولة أنه يرابط يومي الجمعة و السبت، و أن أخاه يرابط الأربعاء و الخميس، و أن جدته ترابط باقي الأسبوع، أخبرني أيضاً أن كثيرين من مشاهير فلسطين و غيرها، يزورون الأقصي تسللاً أو خفيةً، وذكر لي في من ذكر أصالة نصري الفنانة السورية، و غيرها .. شعب كهذا يتفهم الجميع و يحتويهم، يشبه بلادنا، شعب كهذا يبهجك أن تنتمي إليه، شعب كهذا جدير بالصمود.
 
حلّ الغروب، لأكتشف أنني أمضيتُ ستَّ ساعات سيراً على الأقدام في اتجاهات لا أعرفها، لولا دلالة القِبلة، في مناطق لا تعرفها خطوتي، لكنني أدرك أسماءها بالفطرة، في القدس.. القدس التي لم أرها  من قبل إلا في البوسترات الموزعة في مخيم الوحدات في عمان، ها أنا أمشي في شوارعها وألمس مقتنياتها بيدين واهنتين، وهي القوية التي تمنحني كل شيء. قضيت وقتاً طويلا حتى وجدتُ فندقاً متواضعاً تعود ملكيته لعربي، ربما لأنني لا أعرف المدينة جيدا، آآآه كم توجعني هذه الجملة!! أنا لا أعرف العاصمة جيدا..

دخلتُ غرفة الفندق الذي بدا مريباً بعض الشيء، موظفة الاستقبال هنغارية معترفة بإسرائيل، لأنها أعطتني الخارطة، و لا شعوريأ وضعتُ يدي على يافا، قلت : هذه لي.. ضحكت و هي تقلب جوازي  الأردني بيديها، قالت بإنجليزية غير محكمة: كيف؟ أنت أردني.. قلتُ لها أنا  من يافا، أنا من كفرعانة قضاء يافا، و تقع إلى الجنوب الشرقي لمركز المدينة، تبعد 10 دقائق عن المركز، و تشتهر بأشجار البلوط و الفطر و المواشي، وهي ممتدة ككف اليد، غير أن تلالا صغيرة تزينها. تعجبتْ و أعطتني كارت الغرفة..وهي تضحك: "يافا في إسرائيل، أنت أردني ..لستَ إسرائيلياً" !.
 
كيف لرجلٍ عاديٍ مثلي أن ينام، أن ينام في القدس؟!

رحت أقلب الصور في رأسي، اليهود الأرثودوكس " السكناج" ينتشرون في المكان، السيّاح الآريّون أيضاً، يحملون ابتساماتهم الملمّعة ويجوبون المدينة، المقدسيون الأصيلون يتصرفون بشكل طبيعي، أنا الوحيد هنا الذي أحس ابتسامتهم نصلاً، أنا الحزين الوحيد في هذه الغرفة المقدسة، أنا المجنون الوحيد و العاقل الوحيد، تذكرتُ كل الآلام التي مرت بي ذاك النهار و مررت بها، يهودية شابة سألتني عن بار في شارع يافا، فأشحت بوجهي عنها و أجابها نضال. سلّمتُ على  شاب أمريكي يضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه وسألته عن زيارته، فقال لي: أزور القدس بين الحين و الآخر وأنت ؟ فأخبرته بأنها زيارتي الأولى، فقال لي: أهلا بك في القدس. سقطت ضحكتي أرضاً وقلت له: أهلا بك في عاصمتنا.. عاصمة فلسطين. ضحكَ ضحكةً خجولةً واستأذن وغادر..

*شاعر وكاتب فلسطيني مقيم في عمّان

[email protected]