الأحد  22 كانون الأول 2024

وردة عيسى

2014-07-08 03:25:08 PM
وردة عيسى
صورة ارشيفية

حصري

الفصل الثاني

لـ أنور الخطيب.

ذاكرة عيسى

(لا تطع مدرّبك إذا ناداك “يا أنت” وكن مستعداً لقتله)

( لم يكن أبي كافراً، كان وليّاً، لكنني لن أشيّد له مزاراً حتى لا يعتبره المسلحون بدعةً وينسفونه وسط تكبيرات وابتهالات وتهليلات، فيكون قد مات مرتين، مرة بأمر الله، ومرة بأمر “سفراء الله” على الأرض..)   

كانت ذاكرة عيسى مزدحمة تلك الليلة، كان حميمياً مع نفسه، أطلق العنان لذكرياته، كان يعلم أنه يستدرج حركة عمره من غرفة تقع فوق صناديق باردة لموتى سيأتون: (أبي وليّ صالحٌ لأن رؤيته صدقت، اشتعل جناح الأطفال في المستشفى بعد تعرضه لقصف جهنّمي وانفجارات من تحت المبنى، كأن ألغاماً زُرعت تحت هيكل الرحمة، اختلط لحم الأطفال بالحجارة بالنار التي التهمت الشراشف وما تحتها، كيف استطاع أبي رؤية المشهد قبل ستة أعوام من رسمه على يد مُحدَثي الجنون، يبدو أن من يعمل مع الأطفال فترة طويلة تنتقل إليه عدوى الرؤيا، ومن يفقد أبنيه بعد لحظات من الولادة يصاب بعدوى الخوف، أحاطني بخوفه حتى غادر الحياة، كأنه كان ينتظر أمر الله بين لحظة وأخرى، وكنت أرى عبارات الشكر والحمد في عينيه كلّما استيقظتُ صباحاً، فيقيم مهرجان يقظة يدعو إليها أمي، كانت تجاريه في فرحته دون خوفه، ولولا عشقها له لطلبت منه ما طلبته “أم ريما”، وربما قالت له في نفسها: (أنت غير مؤهل لتربية الذكور)، فالنساء يعتقدن أن الخوف على الطفل الذكر يورثه الجبن، والرعاية الشديدة تزرع فيه أنانية مضرّة، وأبي لم يورثني الخوف ولا الأنانية، كل ما كان يفعله مراقبتي أثناء نومي، حتى أنني كنت أشعر يده قريبة من فتحتيْ أنفي ليتأكد أنني ما زلت حيّا، وكان يرتعش قلبه وتلحقني روحه حين كنت أغادر إلى المدرسة، وكنت ألحظه مختبئا خلف عامود الإنارة أثناء لعبي مع رفاقي، لكنه لم يكن يتدخل إذا ما نشب عراك بيني وبين أحدهم، أو مرّ شاب أكبر منّا سنّاً واستهزأ بي أو بأحد أصدقائي، لكن كان يهذّب انفعالي كلما زاد عن حدّه، ويعلّمني التسامح، خاصة من كان يتحسّس من اسمي ويتندّر على مكان ميلادي ومباركة الأب جرجس لي. 

استطاع أبي تحبيب اسمي لي، وغرس قيمة التسامح، سامحت كثيرا في حياتي، وتمكنت من تحويل المسيئين إلى أصدقاء ومعارف طيلة حياتي، باستثناء مدرّب عسكري قابلته في بداية فترة الخدمة العسكرية، يومها تذكّرت أمي حين قالت لي في أحد الأيام، وكنت أنظر في المرآة معجبا بهندامي وشعري: (اسمع يا عيسى، تعجبني وأنت تنظر إليك بتباهٍ وفخر، وأنت تفرح بجمالك ووسامتك يا بُني، ولكن احذر، فكما يطمع الرجال بالبنات الجميلات فإنهم يطمعون بالشباب الوسيمين، وفي حالتك، قد لا يكون الهدف الاعتداء الجسدي فقط، وإنما الاعتداء الوجداني لتاريخك واسمك وميلادك، وقد يفتي أحدٌ بجواز تعذيبك والتلذذ بآلامك..).

كنت حين قالت لي أمي ذلك الكلام على أعتاب المرحلة الثانوية، لكنني لم أفهم بدقة ما رمت إليه إلا عندما التحقت بالخدمة العسكرية، حيث المجتمع الذكوري المربك، وحيث كانت الوسامة تبدو لعنة اللعنات، على صاحب الوجه الوسيم أن يثبت أنه مشاغب ومجرم وصاحب نفسية قاسية ويستعرض أمام الجميع قدرته على التهام ثعبان، حتى يرهبوه. 

لم أفعل ألتهم ثعباناً ولم أذبح حمامة أمام زملائي المجندين، لكن المدرّب نبش وحشاً متمرداً في داخلي، حين أبدى اشمئزازاً مباشراً لحظة نُطقي لاسمي في الطابور الأول للمجندين الجدد، واكتست وجهه ملامح من شم رائحة كريهة، وما زاد من غضبي وقرفي تحاشيه النظر إلي طوال فترة التدريب ذلك اليوم، يومها تذكرت كلمات أمي وأدركت معنى الاعتداء الوجداني، وخاصة حين استدعاني بعد الانتهاء من التدريب، وأخذني جانباً بحركة ماكرة التفافية دون أن ينظر إلى وجهي وقال:

- أنا لست ضد الدين المسيحي ولكنني لا أحب هذا الاسم، وأقترحُ أن تقوم خلال فترة التدريب فقط، باختيار اسم آخر أناديك به، أعرف أنك مسلم وأعرف أن اسم عيسى ورد في القرآن كثيرا، لكن الأمر ليس بيدي.

قلت له يومها: (لن أقول لك أنني لست مسيحيا، لأنني مسيحي بشكل أو بآخر، وهذا لن يعجبك، وأنا مسلم بشكل أو بآخر، وهذا التوصيف أيضا لن يعجبك، لكن من العيب أن تكنّ لي الكراهية وتشعر بالتقزّز لمجرد أن اسمي عيسى، كراهيتك لن تقربك إلى الله أكثر، بل ستبعدك عنه، أو سيبعدك عنه..

رد المدرب مستنكراً:

- لست أنت من يعلّمني كيف أتقرب من الله، وشكرا لك لأنك أوضحت لي جوهرك، فأنت مسيحي ومسلم بشكل أو بآخر، وهذه الجملة يرددها العلمانيون أمثالك، والمثقفون المتفلسفون، وهكذا يكون الأمر أكثر من واضح..

لم أكن أعرف الكثير عن العلمانية، ولهذا لم أجبه، وبعد شهر تقريبا، رثيت لحال المدرب حين قرأت عن علمانيين مسلمين ومسيحيين ويهود ومن جميع الأديان، وأنه يردّد الجمل الجاهزة، منذ ذلك اليوم وأنا اشعر أنني علماني، وأن أبي كان علمانيا حين أحبّ أنطوانيت، راهبةً وممرضةً، وحين وافق على مباركة الأب جرجس، الذي كان علمانياً أيضا، لكن الشيخ عبد الكريم لم يكن علمانياً حين أراد أن تبقى بركته إلى الأبد.  

حقد المدرب علي حقد مؤمن على كافر، ولو كان بيده لهدر دمي، لكنه انتقم مني بطرق أخرى، كان ينتظرني حتى ارتكب خطأ حتى لو كان صغيراً خلال التدريب ليوقع بي أشد العقوبات، وشدتها لم تكن في حجم ألمها بل في نواياها، فقد كان يرسم صليباً على الأرض ويجبرني على الوقوف في وسطه ساعات طويلة تحت أشعة شمس حارقة، أو على الركض والدوران حول الملعب وأنا أحمل خشبة فوق ظهري، وأمرني بالمشي حافياً على الحصى المسنّن، وبتنظيف الحمامات وساحة التدريب، الأمر الوحيد الذي لم يفعله أنه لم يضع علي رأسي تاجا مصنوعاً من الأسلاك الشائكة. 

تحملت آلامي كلها وعذابات العقاب التي كنت أتذكر فيها أبي، وكدت أقول في إحدى المرات: (أبي، لماذا شبقتني..)، قبل أن أنفجر وتنتفخ عروق رقبتي، صوّبت شاهدي يومها نحوه أمام المجندين جميعاً وقلت له: (اسمع، أنا لست المسيح أيها الجاهل المريض، وإن كانت محبتي له لا تعيبني، تحملت عقابك كثيرا على أمل أن تراجع نفسك وتفهم أكثر وتقرأ أكثر وتحاسب نفسك أكثر، أنا بشر أيها الحقود، أتألم وأبكي وأحقد ولا أسامح أيها الوقح أمثالك، ولن أدر لك الخد الأيسر أبداً، وسأقتلك إذا لزم الأمر لأنك تقتلني في كل مرة تعبّر عن فيها عن كراهيتك لي ولاسمي، الحيوانات المفترسة هي التي تكره دونما سبب، لقد تماديت في حقدك، ولن أكمل التدريب معك، وليكن ما يكون..)..

ذلك اليوم، لم يحتمل المدرّب تمرّد مجنّد بسيط أمام المجندين الصغار، اندفع نحوي يريد ضرب عيسى، لكن المجندين فصلوا بيننا، تركته ومضيت بعيدا عن التجمّع، ثم بدأت أمارس لؤمي وخبثي بين زملائي، وأشعت أن المدرب ربما يكون من “تنظيم القاعدة”.

لم يكن قائد معسكر التدريب موجوداً حين وقوع المشادة غير المكتملة، فاستدعاني واستمع إلى أقوالي بهدوء وحكمة، لأول مرة أرى عسكرياً حكيماً، صدّقني حين دعمت أقوالي بشهادات الزملاء، وبعد أيام، فوجئت بنقل المدرب إلى إلى معسكر تدريب آخر.  

صبرت كثيرا، وفعلت كما أمرتني أمي؛ لم أتذكر المسيح حين تعرّض للتعذيب والقهر والتنكيل، لكنني تذكرت تاجه الشائك المنغرس في لحم رأسه ووجهه، وشممت رائحة الدم الذي سال من صدغيه، ولم أجرؤ على مناداة (الرب) أو معاتبته: (لماذا تركتني يا إلهي وخلقتني مسلماً في كنيسة!)، لكنني فتحت الطريق للإنسان الخطاء ليخرج في لحظة الغضب، ويصرخ بالمدرب الذي لم يكن ير سوى وجهٍ واحدٍ من التاريخ، فانتبه للاسم ونسي المسمّى. 

كان قرار قائد المعسطر صائبا جداً، يبدو أنه استشعر خطورة الوضع بيني وبين المدرب، أو بين عيسى وبين المدرب المتشدد، وشعر أن أحدنا سيقتل الآخر، حتى أن القائد سألني: (هل يمكن أن تقتل يا عيسى؟)، أجبته حينها أن الوحش الساكن في الإنسان قد يقتل، وأن الملائكة تسكن في السماء فقط، وأنني لا أدير خدي الأيمن أو الأيسر لأحد. هزّ رأسه يومها وقال: (أرجو ألا يتحقّق ما أرى الآن)، ولم يفصح عن رؤيته، ولكنني الآن أسمعه بوضوح، كلماته مترجمة في فصول الدم والنار وتقسيم المدينة إلى قسمين متنافرين.

لو سمع أبي إجابتي للقائد لكان لامني، وربما قال لي: (عيسى لا يقتل)، لكنه لم يسمع، وجميل أنه لم يستمع لذاك الحوار، فقد توفّي بالسكتة القلبية قبل دخولي المرحلة الثانوية،  استيقظت أمي صباحا لتجده بلا حراك، لم تصرخ ولم تبعثر شعرها، غطته وبدأت طقوس الترمل، لكنها لم تنتظر طويلا، فلحقت أمي به بعد عام، رحلت في التوقيت ذاته، وبالطريقة ذاتها، لم تكن تعاني من أي مرض خطير، لكنني استيقظت صباحاً فوجدتها جثة هامدة باردة، لم أصرخ كاليتامى الطازجين، وسرت في جنازتها حابساً دموعي مفرجاً عن ذهولي، وعدت من المقبرة إلى البيت وحيداً، حدّثت زواياه كثيرا، ثم لذت بزاوية اعتادت أمي الجلوس فيها لمشاهدة التلفزيون، دفء الزاوية فجّر ماء عينييّ من عمقهما السحيق، بكيتها وبكيت والدي وأخوي اللذين ماتا صغيرين، وبدأت أتواصل بكثافة مع أختي ريما، الحضن المتبقي من العائلة.

بقيت وحيداً في بيت شاسع تسكنه الأرواح حتى انتهيت من الثانوية العامة، مرت سنوات ثلاث قرأت خلالها عشرات الكتب، كنت أنجذب إلى قصة ولادة المسيح، تتبعتها في القرآن والإنجيل، وقرأت تفاصيل كثيرة عن آلامه وتعذيبه حتى كادت الشخصية أن تحتلني كاسمه، لكنني تذكرت حديث أمي وأبي، فألقيت عن كاهل روحي أي نوع من القداسة، حتى أنني بالغت في تواضعي والنظر إلى نفسي، وربما أخطأت في ذلك..).

سمع عيسى إطلاق نار كثيف بالقرب من دائرة دفن الموتى، لم يتحرك ليتابع ما يجري، استسلم لذاكرته وتدفق روحه، رغم أن بعض الرصاص كان يمر فوق الدائرة، وبعضه كان يرتطم بجدرانها، معكّراً صفو هالة الموت، وذكريات الأرواح التي مرت في برودة الصناديق.