الأحد  22 كانون الأول 2024

سمكةُ الوعي تتخبَّط خارج الماء

2014-07-08 03:31:21 PM
سمكةُ الوعي تتخبَّط خارج الماء
صورة ارشيفية

ضوء في الدَّغْل


 

محمد الأمين سعيدي - شاعر وأكاديمي جزائريّ

في طريق العودةِ من سهرة مع أحدِ الأصدقاء، كدْتُ أنْ أطأ طائرا صغيرا كان يتوسط الشارع المظلمَ، حملته بين يديَّ وكان بلا حركة، خلتُه للوهلة الأولى ميْتًا، لكنَّه ارتعشتْ فيه كهرباء الحياة ليكذِّب افترائي، ورفرف قليلا فقط لينزلَ على رصيفٍ قريب، حملْتُه مرةً أخرى ووضعتُه في حضنِ أقرب شجرةٍ إلى يدي، وواصلتُ سيري. دخلتُ البيتَ لأحتميَ بجدرانِه، هكذا أفكِّر بالأمان، جدرانٌ، سقفٌ، وبابٌ موصدٌ بإحكام لا تتسلل منه الريحُ فما بالك بالسرَّاق أو المجرمين. لكنَّ الطائر الصغير لا يفكِّرُ مثلي مطلقا، هو ينتمي إلى منظومة الطبيعة التي تجعلهُ يعيشُ لحظة وجوده تلك، لأنَّه لا يفترضُ الأذى كما أفعل، ولا يتصوَّرُ أنَّه في طريقٍ خاصٍّ بالسيارات التي قد تقتله، أو حتى بكائناتٍ أخرى مؤذية كالبشر والقطط والكلاب مثالا وحصرا(لا أعرف في مدينتي كائنات أخرى مفترسة غيرها)، إنه يعيش اللحظة مرتاحا حتى ولو عجَّلتْ بنهايته. بينما يمتلك الإنسانُ الوعْيَ بالأشياء والعالم، بالماضي والحاضر والمستقبل، فيتكوَّنُ لديه بهذا الوعيُ بالوجود، وأيضا الوعيُ العميق بالموت، هذا الأخير الذي لا يمتلكُه الطَّائر الصغير، ولعلَّه بفقْده إيَّاه امتلكَ السَّلام الغائب عن عالم الـHomo Sapiens(الاسم البيولوجيّ للإنسان).

 من وعي الإنسان بالموتِ، كما ترى البيولوجيا، تأسس فيه حبُّ الحياة الذي تؤطِّرُه غريزة البقاء، فلأنَّهُ يدركُ بأنَّه سيموتُ يظلُّ يناضل من أجلِ تأخير موتِه على الأقلِّ ليحقَّق ما يضمن له الذِّكْرَ:السلالة أوَّلا، ثم الإنجازات التي تخلِّده، هذا ما نسمِّيه الفنَّ؛ فنَّ صناعة الأبناء وحمايتهم ليحملوا جيناتنا وأسماءنا، وفنَّ صناعة الحضارة لتكون المرآة التي ترسمُ ملامحنا أمام الآخرين الذين ينتظرون، في المستقبل، وصولَ الماضي الذي هو في جزء منه نحن، أليس هذا الكلام ما تختصره صرخة محمود درويش:”هزمتْكَ يا موتُ الفنون جميعها”، هو نفسه على ما يبدو. لكنَّ الإنسانَ، على عكس الطائر الصغير، كائنٌ متناقض جدًّا، إذْ يقومُ بدوريْن لا علاقة بينهما، إنَّه يصنع الحياة، وفي الآن نفسِه ينتجُ الحربَ، ولا أتكلَّم هنا عن الإنسان المدافع عن نفسِه، بل عن الإنسان المحارِب الذي يفتتح مأدبة النزيف ليقضيَ على الخضرة في أرواح بشرٍ لم يلمسوا شعرة كبريائه، ولم يمثِّلوا تهديدا له بأيِّ حالٍ من الأحوال. الإنسانُ المحاربُ الذي يتناسى قولة سلفِه زهير بن أبي سلمى:

“وما الحربُ إلاَّ ما عرفتم وذقتُمُ

وما هو عنها بالحديث المرجَّــمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

وتضرَ إذا ضرَّيْتُموها فتضرَمِ”.

لكنَّ الحربَ، وهي الوجهُ الأسوأ للإنسان، تسير بهذا الوعي البشريّ العظيم صوب الحُمْقِ، فينقلبُ التفكير على غايته الكبرى التي هي إيجادُ السبل الأمثل لحماية الحياة، وتنهزمُ الحضارة أمام نفسِها لتتحوَّلَ مع الوقتِ إلى آلة دمارٍ قاسية لا ترحم. هذا ما يفعلُه كل احتلالٍ بأهلِ الأرض الطيِّبين. هذا الحالُ يجعلُ الوعيَ ينقلبُ ضدَّ غاياته كما أشرت، لكنَّه لا ينساها بل يخجلُ من انحرافه عنها، فيجد بخبثٍ التبريراتِ لما يفعلُه. زعمتْ فرنسا وهي تحتلُّ الجزائر بأنَّها تأتي بالحضارة، هذا تبريرُ العقل لجرائم أصحابه التي لا يحتملُها الضمير(إنْ كان هناك ضمير أصلا)، لكنّ الحقيقة هي أنَّ فرنسا كانتْ تسطو على الجزائر لتنفيَ الإنسان خارج أرضه وهويتِه ورؤيته إلى العالم. والمهزلة الرهيبة التي ينتجها هذا التبرير الزائف تكمنُ في بناء دائرة شفقة محدَّدة، أو لنقلْ مؤدلجة لعينة لدرجةٍ تجعلُ أمَّ القاتلِ تنسى الوجعَ الذي يشتعل في صدر أمِّ المقتول، وتنسى الاحتمالَ الوارد الذي قد يجعل منها أمَّ المقتولِ ذاتها.

يا صديقي الطائر النائم في الشارع المظلم، هل كنتَ تتخيَّلُ أنْ يغار منك إنسان واعٍ؟

 

ها إنَّني أفعل والله في هذا الدغْل البشريّ الموحش.