الجمعة  15 تشرين الثاني 2024

جوديث بتلر تكتب عن أعمال كافكا مقالاً عنوانه: المفقودة وغير المعثور عليها

2021-08-02 09:26:24 AM
جوديث بتلر تكتب عن أعمال كافكا مقالاً عنوانه: المفقودة وغير المعثور عليها
فرانس كافكا - جوديث بتلر

ترجمة الحدث- أحمد أبو ليلى

كتبت جوديث بتلر* Judith Butler، مقالا نشره موقع Jewish Currents، تنتقد فيه الإصدارات الأخيرة لأعمال كافاكا التي اعتبرت مفقودة ومحجوبة عن قرائه، لتبين لنا أن تلك الكتابات لم تكن مفقودة وإنما تم التعامل معها بطريقة تشوه أعمال كافكا بالمجمل.

وفيما يلي ترجمة المقالة التي حملت عنوان Lost and Unfounded:

أبتليت كتابات فرانز كافكا منذ البداية بممارسات تَحْرِيرِية مشكوك فيها، لذلك أفترض أنه لا ينبغي لنا أن نتفاجأ إذا ما حدثت جولة تحرير أخرى. تم نشر الكثير من أعمال المؤلف بعد وفاته من قبل صديقه ماكس برود Max Brod، والذي قام خلال النشر بإدخال بعض التعديلات أحيانا، كما وأعاد ترتيب المواد ومقتطفات من مذكراته وخطاباته. وقد دأب الباحثون منذ عقود على فرز التاريخ الفضولي والقذر أحيانًا لهذه المنشورات. والآن، أصدرت دار النشر نيو دايركشنز New Directions مجموعة من أجزاء المؤلف بعنوان الكتابات المفقودة The Lost Writings، والتي اختارها راينر ستاخ Reiner Stach، كاتب سيرة حياة الكاتب الألماني كافكا والذي يحظى باحترام كبير، وقدمها بشكل رائع باللغة الإنجليزية الشاعر والمترجم مايكل هوفمان. ونظرا للعنوان المثير، يفتح المرء الكتاب متوقعًا العثور على نصوص كانت مفقودة في السابق. ومع ذلك، وكما يعترف ستاخ في خاتمة الكتاب، فإن كل ما يسمى بـ "الكتابات المفقودة" الموجودة في الكتاب كانت متاحة  باللغة الألمانية بسهولة ومنذ فترة طويلة.

يفتح المرء الكتاب متوقعًا العثور على نصوص كانت مفقودة في السابق. ومع ذلك، وكما يعترف ستاخ في خاتمة الكتاب، فإن كل ما يسمى بـ "الكتابات المفقودة" الموجودة في الكتاب كانت متاحة  باللغة الألمانية بسهولة ومنذ فترة طويلة

يسلط القليل من البحث الضوء على التأطير المريب لهذه الكتابات ككتابات "مفقودة" بينما يمكن العثور عليها.  ففي حملتها التسويقية الاستهلالية للكتاب، قدمت دار "الاتجاهات الجديدة للنشر" New Direction Publishing" المجموعة على أنها تتكون من "أربع وستين قصة رائعة لكافكا" والتي "لم تُترجم أبدًا وعلى الإطلاق" حتى الآن. وعلى ما يبدو، فإن كلمة "مفقودة" "Lost" في هذه الحالة تعني فقط  "غير المترجمة للإنجليزية" "untranslated to English". علاوة على ذلك، تبين خلال فترة النشر أن الغالبية العظمى من النصوص المحتواة في هذا الكتاب القصير - وهي في الواقع عبارة عن مجموعة من المسودات أو مقاطع من القصص - كانت قد نشرت بالفعل باللغة الإنجليزية وبلغات أخرى، ونفذت طبعة تلك المجموعات.  وبحلول الوقت الذي تم فيه إصدار الكتاب، كان الناشر قد خفض تصنيفه التسويقي للمادة "المفقودة" إلى مادة من "المستحيل العثور عليه". ويحق لنا السؤال: مستحيلةٌ بالنسبة لمن؟ لمن لا يريد أن يكلف نفسه عناء البحث؟

ولربما ينبغي أن أكون سخية: إذ يمكن بالتأكيد أن تؤدي ترجمة نص إلى لغة ثانية إلى شعور بالاكتشاف لدى القراء الذين لا يستطيعون الوصول إلى النص الأصلي. ولكن تظل حقيقة أن هذه النصوص يمكن اعتبارها "مفقودة" فقط إذا كانت أسواق النشر الشعبية الناطقة بالإنجليزية تسيطر على شروط الواقع؛ أي أن تلك الكتابات تصبح موجودة فقط بمجرد أن تصبح في متناول عموم جمهور القراء الناطقين باللغة الإنجليزية. ويتجاهل ستاك في خاتمة الكتاب الاتهام المحتمل بالتأطير المضلل، حيث وأثناء تبرير "الطبعات العامة للقراء غير الأكاديميين" مثل "الكتابات المفقودة"، يصرف نظره  تماماً عن ذلك النوع من الباحث المثابر أو مدقق الحقائق المهووس، واللذين قد يمتلكان معرفة باللغة الألمانية أو باللغات الأخرى، أو يهتمان بتفاصيل النشر الغامضة يكتب قائلا: "يخيفُ العرض الأكاديمي وبشكل عام التعليق اللغوي الجاف محبي الأدب الذين يبحثون عن شيء "لمجرد" القراءة والاستمتاع، وليس بغية دراسة النصوص أو التفحص في أصل منشئها". إذ يتم التعاطي هنا مع القراء كمستهلكين يبحثون عن ملذات عابرة، بينما البقية منا، تمكثُ في الغبار، ويبدو أننا نتحول إلى غبار بمعدلات أسرع من أي وقت مضى.

[تلك] الكتابات والرسومات المخبأة في أوراق [ماكس**] برود، والتي تم الاحتفاظ بها في الخزائن السويسرية والإسرائيلية لعقود بينما كانت الإجراءات القانونية تسعى إلى تحديد مالكها الشرعي أهو المكتبة الوطنية الإسرائيلية أم أرشيف الأدب الألماني في مارباخ. في عام 2016

ولا أنكرُ أن خيبة أملي من تأطير "الكتابات المفقودة" تتفاقم بفعل حقيقة أن القراء الجادين لكافكا كانوا في الواقع ينتظرون الإفراج عن هذ المواد التي منعت عنا لفترة طويلة: [تلك] الكتابات والرسومات المخبأة في أوراق [ماكس**] برود، والتي تم الاحتفاظ بها في الخزائن السويسرية والإسرائيلية لعقود بينما كانت الإجراءات القانونية تسعى إلى تحديد مالكها الشرعي أهو المكتبة الوطنية الإسرائيلية أم أرشيف الأدب الألماني في مارباخ. في عام 2016، وبعد ثماني سنوات من الالتماسات القانونية، فازت المكتبة الوطنية الإسرائيلية بحقوق المجموعة، وقضت ثلاث سنوات في جمع أعمال كافكا من المكتبات وصناديق الأمانات في أوروبا ورقمنة المواد المكتشفة حديثًا. وقد أثارت هذه القصة الملحمية مجموعة من القضايا، بما في ذلك ما إذا كان كافكا، المؤلف اليهودي الناطق بالألمانية المولود في براغ، ينتمي إلى دولة إسرائيل، التي تنظر إلى نفسها على أنها تمثل كل الحياة اليهودية، أو إذا ما كانت كتاباته تنتمي بشكل صحيح إلى مارباخ. من يملك كافكا حقاً؟

نظرًا للظروف المزعجة التي أحاطت بنشر "الكتابات المفقودة The Lost Writings" ، فقد تم ترك هذا المراجع، على الأقل ، مع السؤال التالي: لماذا نراجعها على الإطلاق؟ ولقد وجدت شيئًا من الإجابة في عمل كافكا نفسه، الذي يعرض بشكل متكرر دراما من السرد غير الموثوق به ويحدث ثقبا داخل الإفراط في التوقعات. ويبدو، أن كافكا، بهذه الطريقة، قد توقع المعالجة الفظة والمدفوعة بتحقيق الأرباح من قبل محررين مستقبليين من وراء كتاباته. وعلى الرغم من أن كافكا نشر بعضًا من قصصه خلال حياته، إلا أنه اشتهر بطلبه إلى برود Brod بحرق مجموعته من الرسومات والنصوص غير المكتملة، بما في ذلك المخطوطات التي ستصبح [روايتي] المحاكمة والقلعة، بمجرد رحيله؛ ولربما أحاط به هاجس حول ما سيفعله السوق الأدبي بعمله بعد وفاته. سواء أكان فعله ذلك استشرافياً أم لا، فقد فهم بالتأكيد الإيقاع القاسي الذي سينشأ في خضم الادعاءات المبالغ فيها واللحظات التي يكشف فيها الواقع عن زيفها. في الواقع، غالبًا ما تستكشف كتاباته الطريقة التي تستمر بها آثار اللاهوت في الظهور في الحياة الحديثة، حيث تنتهي وعود الخلاص دائمًا بأبواب مغلقة وخيبات أمل قاسية.

وعلى الرغم من أن التسويق ليس مقدسا، فإن كلا من حركة العبور داخل ضمانات مستحيلة، تغري بالإثارة وتخيِّبُ الآمال في نفس الوقت. ففي قصته الشهيرة عام 1924 "جوزفينة المغنية، أو شعبُ الفئران" ، قدم كافكا شخصية العنوان بشكل رائع، وبأسلوب يتشارك فيه مع المبالغات الدعائية [إذ يقول]: أثارت الحماسة في كل من سمعها تغني، وترجم إدوين وويلا موير السطر الثاني، "[أي] شخص لم يسمعها لا يعرف قوة الأغنية." ومع ذلك، قيل لنا بعد ذلك أنه لا أحد من شعب الفئران - [والذي هو] مجتمع من المخلوقات لم يتم تحديدُ ماهيته بوضوح سواء أكان حيواناً أم إنساناً، فقد كان غالبًا ما يُقرأ على أنه يحيل إلى رمزية اليهودي- [وقد كان هذا الشعبُ] يعرف كيف "يعلو فوق أي شيء مرتفع جداً وبعيدا جدًا عن روتيننا المعتاد مثل الموسيقى،" وهم في الواقع لا يستطيعون تقدير [المغنية]، لأنها هي بحد ذاتها كانت "الاستثناء الوحيد"، و"الوحيدة" التي "تحب الموسيقى وتعرف أيضًا كيفية إيصالها". ويبدأ المنطق في الدوران: حتى لو أصيب كل من يسمع الأغنية بالحماسة، إلا أن أيا منهم لا يستطيع حقا تقدير ما تقوم به، ولكن لا أحد يستطيع حقًا تقدير ما تفعله، فهل حقاً شعر المستمعون بالحماسة؟ بعد ذلك نتعلم أن غناء جوزفينة هو، في الواقع ، "ليس شيئا خارجا عن المألوف"، ويبدأ الراوي، بالتعبير عن شكوك، في استعادة الرواية السابقة، واستبدال صيغ التفضيل المطلقة بالأسئلة ("هل هذا أصلا غناء؟")، ليصل إلى نتيجة مفادها أنه "ليس سوى نوع من أنغام مزمار"، ثم ليطرح التساؤل عما إذا كانت هذه الأنغام هي عبارة عن مجرد خطاب عادي لشعب الفئران.

فازت المكتبة الوطنية الإسرائيلية بحقوق المجموعة، وقضت ثلاث سنوات في جمع أعمال كافكا من المكتبات وصناديق الأمانات في أوروبا ورقمنة المواد المكتشفة حديثًا. وقد أثارت هذه القصة الملحمية مجموعة من القضايا، بما في ذلك ما إذا كان كافكا، المؤلف اليهودي الناطق بالألمانية المولود في براغ، ينتمي إلى دولة إسرائيل، التي تنظر إلى نفسها على أنها تمثل كل الحياة اليهودية، أو إذا ما كانت كتاباته تنتمي بشكل صحيح إلى مارباخ. من يملك كافكا حقاً؟

ومع ذلك، استمرت فكرة جوزفينة المثالية، ويتجمع شعب الفئران في ترقب كبير للإصغاء إليها تغني. ويمكن للمرء تشبيهها بمؤدي مسرح اليديش الذين صنعوا الفن من لغة ليست مفهومة تمامًا أو محترمة من قبل الناطقين بالألمانية. وفي الواقع، فإن أحد أسباب قراءة الفأر على أنه يهودي هو أن المصطلح الألماني "ماوشيلن" ، وهو رسم كاريكاتوري مهين لليديشية، يشير إلى نوع من لغة الفأر. وينسب  جمهور جوزفينة إليها الفضل في القدرة على تجميعهم وتوحيدهم، لكن قواها تتلاشى، وبحلول نهاية القصة يتوقع الراوي أنها "ستفقد نفسها بسعادة في الحشد الذي لا يحصى من أبطال شعبنا، و هكذا . . . سترتقي إلى ذروة الفداء وتُنسى مثل كل إخوتها". وبهذه الخاتمة، نفهم سبب قراءة جوزفينة أيضًا كتعبير عن الشكل الأنثوي ليوسف الإنجيلي، الذي يضخم والديه غروره من خلال إعطائه معطفا متعدد الألوان، حيث يُباع [يوسف] من قبل إخوته الغيورين ليصير عبدا بسبب أنه أخبرهم بحلمه الذي يكون فيه واقفا بينهم متفوقاً عليهم في المكانة والمنزلة. وفي قصة كافكا، نجد أن الناس هم الذين يرفعون مستوى جوزفينة ويخونونها أيضًا، ويتخلون عن بطلتهم لأنها لا تستطيع تجسيد المثل الأعلى الذي ابتكروه لها. وللمفارقة، يجسد صعود المغنية إلى المثالية الأبدية نفس حركة سقوطها، وعبورها إلى النسيان.

لعل كافكا أدرك أن كتاباته قد تعاني من نفس المصير الذي تعرض له غناء جوزفينة، متنبئًا بأولئك الذين يسعون إلى الاستفادة من كلماته من خلال تقطيع صفحاته إلى أشكال جمالية بيَّنة. لذا، لا ينبغي لنا، إذا ما اقتفينا أثره، أن نتفاجأ من أن الكتابات المفقودة تعطينا شظايا انتزعت من سياقها وقدمت دون أي تفسير لمكانها في دفاتر ملاحظاته أو مذكراته أو مجموعة رسائله. قد يدافع المرء عن هذا الإجراء باعتباره محاولة لتكرار الشعور بالارتباك وفقدان السياق الذي يسجله كافكا في عمله: السلب التاريخي، تفكك الأساس والجاذبية، والتاريخ المنسي والكتيبات غير القابلة للقراءة، والسفر المتقلب داخل وجهات غير محددة، والاتصالات التي تتعثر أو تفشل. لكن على العكس من ذلك، أود أن أزعم أن رفض وضع كتابات كافكا في سياقها ضمن تاريخها الخاص يستغل ببساطة هذا الارتباك، ويقلل من ضياع الزمان والمكان اللذين يميزان عمله.

وعلى الرغم من هذا التشويش، فإن الأعمال في هذا المجلد تجعلنا على اتصال بأشكال استفزازية من التفكك. يبدأ كل جزء مع راو يقدم سردا لمشهد أو يخاطب شخصًا ما، لكننا لا نعرف من يتحدث أو أين هم، ونادرًا ما يتم تقديمنا إلى المرسل إليه. ولنتأمل في بعض هذه السطور الافتتاحية: "إنه يوم ممطر. وأنت تقف فوق لمعان بركة"؛ "سافرتُ إلى الخارج لأعيش بين الأجانب. علقت معطفي على مسمار، ولم يهتم أحد بي"؛ "الكونت كان يتناول طعام الغداء، لقد كان يومًا صيفياً هادئًا." ولا يتم موضعة الضمائر "أنت" و "أنا" و "الكونت" بشكل ملموس في الزمان أو المكان؛ في الواقع، يحدد تعليق هذه الإحداثيات كل مشهد. وفي كثير من الأحيان لا يمكن العثور على الأرضية الأدبية، أو لا يمكن الإمساك بها. فعلى سبيل المثال، تتكشف في نبذة واحدة، وفي جملة غير مباشرة، وصف محفوف بالمخاطر:

"هي مسألة حساسة، هذا المشي على أطراف أصابعه عبر لوح متهالك وضع كجسر، لا شيء تحت الأقدام، ومضطرًا إلى أن تشق الأرض التي تمشي عليها بقدميك بصعوبة، وألا تمشي على أي شيء سوى انعكاسك في الماء أدناه، تُمسك العالم بقدميك، وتتشنجُ يداك في الهواء للنجاة من هذه المحنة."

هنا، يكشف مشهد محفوف بالمخاطر تدريجيًا افتراضاتنا حول ما إذا كان الشكل المركزي خاضعًا لقوانين الجاذبية. في البداية، يعمل "اللوح المنهار" كجسر، تم تشييده بشكل مهلهل ولكنه لا يزال يؤدي غرضه كأرضية. ولكن بما أن هذه الأرض تثبت أنها انعكاس في الماء، فإن "أنت" التي بدت في البداية أكثر أو أقل إنسانية - استخدم كافكا كلمة رجل"، وهو ضمير ألماني غير محدد يشير إلى شخص غير محدد أو إلى البشر بشكل عام - تصبح على ما يبدو كائنًا خارقا للطبيعة. ربما يكون أطلسًا مقلوبًا، يربط العالم بقدميه؛ قد يكون أيضًا نسخة من يسوع، الذي سار على الماء، أو نرسيس، المذهول بانعكاس صورته على الماء. تتشكل لائحة اتهام لطيفة: إنه ليس الماء الذي تمشي عليه يا رب، بل هو انعكاس لنفسك، نرجسية قوية يعتمد عليها العالم كله. وفي الخطوة الأخيرة من الجملة، فإن هذه الشخصية، مهما كانت مقدسة، أصبحت الآن أيضًا إنسانًا تمامًا: جسد لا يُعرف إلا بأطرافه المحمومة المتماسكة عبر الألم. في هذه القطعة، كما هو الحال في العديد من قصص كافكا، تنهار أجساد البشر تحت وطأة المثل العليا التي يُطلب منهم التمسك بها، مما يفضح الاستحالة المعذبة لشكل بشري يحمل قوى إلهية. عندما تحدث الاستنارة اللاهوتية، فإنها تحدث بمعزل عن شكل الإنسان أو على حسابه. وفقًا لجزء غير موجود في هذا الكتاب، "سيأتي المسيح... عندما لا يوجد من يدمر هذه الإمكانية ولا أحد يعاني من تدميرها "؛ بعبارة أخرى، سيأتي المسيح عندما لا يستطيع أحد أن يستقبله - ربما عندما لا يكون هناك أي أحد على الإطلاق.

لعل كافكا أدرك أن كتاباته قد تعاني من نفس المصير الذي تعرض له غناء جوزفينة، متنبئًا بأولئك الذين يسعون إلى الاستفادة من كلماته من خلال تقطيع صفحاته إلى أشكال جمالية بيَّنة

في مكان آخر، يبدو أن كافكا يحترم الأمر اليهودي التقليدي ضد تجسيد الله من خلال تحديد ومضات من الإله في المخلوقات التي يكون ادعائها للإنسانية نفسها زلقًا أو مزعجًا، غالبًا لأنها تقف على حدود غير مستقرة بين الإنسان والحيوان. في قصة الكاتب التي كتبها عام 1917 بعنوان "تقرير إلى أكاديمية"، يلقي قرد اسمه ريد بيتر خطابًا على جمعية أكاديمية، يروي قصة ظهوره في الكلام والمعايير البشرية. بينما يصف عملية أسره ونقله من جولد كوست في عنبر سفينة حيث يتم تهديده بالطعن إذا تحرك في أي اتجاه، ندرك أن هذا الحيوان ربما كان عبداً وأنه لا يزال في الأسر. كما وصلنا أيضًا إلى فهم وضعه كمشهد في معرض استعماري باعتباره استمرارًا لاستعمار الأفارقة: يُعامل البشر مثل الحيوانات ثم يُجبرون على تمثيل دور الإنسان في ضجة وانبهار المتفرجين. تدور القصة حول حقيقة أن بيتر الأحمر، كحيوان ناطق، يخلط بين التمييز بين الإنسان والحيوان الذي ينتج مشهد حديثه من البداية - لأنه في النهاية، ألم يتم تعريف الإنسان بدقة على أنه الحيوان الذي يتحدث؟ يمضي ريد بيتر ليقول إنه لا يسعد بتقليد البشر، لكن هذا التقليد يفتح أمامه "مخرجًا". إنه لا يفهم كيف أن مسألة أن يصبح إنسانًا هي شكل من أشكال التقدم، ووسيلة للتغلب على حيويته؛ على العكس من ذلك، هذا الشكل من الحياة هو سجن، يتطلب الهروب منه تقليده القدير لقواعده. إذن، يفضح تقرير ريد بيتر ما لا تستطيع أي لغة "بشرية" أن تنقله بشكل كافٍ، أي قسوة الأعراف الحضارية التي تحتكر الإنسان. كما في المقطع حول مجيء المسيح، فإن المثل الأعلى للإنسان في كلتا الحالتين يعيق المخرج؛ يظهر شبح الإلهي بدقة من خلال نفي الشكل البشري.

تُظهر الكتابات المفقودة عددًا من الشخصيات التي تعيش في تلك المنطقة بين الإنسان والحيوان، بدءًا من الراوي الذي يبدو بشريًا ووقع في شرك صياد يطلق عليهم "عيِّنة رأس المال"، إلى مخلوق "يشبه الكنغر" مع "شبه بشري"-وجه نظر "- وكذلك ريد بيتر نفسه. يظهر القرد الناطق في مسودتين مهملتين من "تقرير إلى أكاديمية". في البداية، يسعى المراسل أو المتفرج إلى إجراء محادثة مع ريد بيتر، لكن حارسًا عند الباب يمنعه من الوصول: وبين العروض، لا يحب ريد بيتر الظهور أمام البشر. في قصة أخرى، تباطأت محادثة مهذبة بين الإنسان وبيتر الأحمر إلى أن توقفت عندما وجد الأخير أنه ليس لديه ما يقوله: "أحيانًا أشعر بمثل هذه الكراهية تجاه البشر لدرجة أنني على وشك التقيؤ".

النقطة المهمة ليست أن كافكا يضفي طابعًا رومانسيًا على الحيوية، ولكن في قصصه، فإن الجسد المخلوق الذي يتلوى تحت مثل هذه المعايير التقييدية للإنسان هو المكان الذي يمكن العثور فيه على الشعور والمعاناة والأمل. يمكن للمرء أن يجسد مثل هذه المعايير للحصول على وجبة، وتأمين مأوى، وإبقاء المشجعين سعداء، لكن هذا التجسيد يأتي على حساب الجسم المناسب للعيش. تم الترحيب والإهانة بكل من ريد بيتر وجوزفينة من قبل جماهيرهما واللذين كانا يسعيان إلى ما وراء ما يسميه ريد بيتر، "مخرجًا"، مستبعدًا فكرة التنوير عن "الحرية". في جوزفينة، التي أبهرت بعزفها مجتمعها من الفئران من خلال رفع مستوى خطابهم المتواضع وتحويله إلى أغنية، استحضر كافكا ما قد نراه على أنه حالة فنانة ظاهرية مرتفعة ومهملة بسبب أدائها. ربما يستمر التذبذب بين المثالية والدمار في ملحمة عمل كافكا نفسه، فهو في النهاية أحد أفراد شعبها، ويخضع لمصير مماثل.

يبقى السؤال إذا: هل ستنجو أعمال كافكا من التمثيلات المشوهة التي قدمت باسمه، أم ستسير على طريقة جوزفينة؟ يبدو أن المغنية قد ماتت في نهاية قصتها، لكن الراوي يخبرنا أنها "تفقد نفسها بسعادة"، لذا فإن موتها يمثل إطلاقًا سعيدًا من القفص الذي ينهك شخصيتها الشهيرة. من الصعب أن نتخيل إطلاقًا مفرحًا لسراح كافكا، الميت منذ زمن طويل، طالما أن قطعًا متفرقة من عمله معروضة للبيع؛ وتم تقطيعها وإعادة تغليفها للاستهلاك الشعبي على أساس وعود كاذبة، لتصبح قراءة كتاباته أكثر صعوبة بدلاً من التخفيف من وطأة صعوبتها. في ظل هذه الظروف كيف ننقذ المؤلف من منتفعيه؟ إحدى الطرق، بالتأكيد، هي إعادة بناء تاريخ نشر موثوق لعمله، وبالتالي تعلم قراءة نصوصه ضد قيم السوق التي تهدد وضوحها. بهذه الطريقة، يمكننا الاقتراب أكثر مما هو مكتوب، حتى لو كان ذلك يعني الحصول على القليل من الغبار على طول الطريق.

 

* جوديث بتلر Judith Butler:  فيلسوفة أمريكية لها إسهامات في مجالات الفلسفة النسوية، نظرية النوع والمثلية، الفلسفة السياسية، والأخلاق. وهي أستاذm في قسم الأدب المقارن والبلاغة في جامعة كاليفورنيا (بركلي) أحدث كتاب لها، The Force of Nonviolence ، الصادر عن دار Verso في 2020.

** ماكس برود ، صديق وكاتب زميل عمل كمنفذ أدبي لكافكا. بدلاً من إتلاف أوراق المؤلف كما طلب ، اختار برود نشرها والاحتفاظ بها.