الحدث الثقافي- عبد الله أبو حسان
صدرت عن دار "ابن النديم للنشر والتوزيع" و"الشبكة المغاربية للدراسات الفلسفية والإنسانية"، النسخة العربية لكتاب "الوحشية: فقدان الهوية الإنسانية" للمفكر الكاميروني آشيل مبيمبي Achille Mbembe. وهو دراسة إضافية في المشروع الفكري الذي انخرط فيه مبيمبي منذ عشرين عاما تاريخ صدور كتابه "ما بعد المستعمرة" الذي جعل منه واحدا من أهم المنظرين لفكر ما بعد الكولونيالية ومن كبار نقّاد بنيات التفكير العنصرية ومساءلة مستقبل الإنسانية من زاوية افريقية وعلى ضوء المسارات التي تتخذها العولمة والاقتصاد الليبرالي الجديد.
يقف مبيمبي في هذا العمل الذي قامت بترجمته وتحقيقه نادرة السنوسي، عند الهوة القائمة بين ما كان يأمل الإنسان في تحقيقه من حقوق وتكريس لحق المواطنة وتجاوز للتمييز العنصري بفضل التطور التكنولوجي، وما يعيشه اليوم من عنصرية وحروب ووحشية وتدمير للبيئة. ويصف المؤلف البشر المعاصرين بــ "ديناصورات القرن الحديث، والتي تسير نحو فنائها دون وعي".
ويفكر مبيمبي في تضاريس الهوية الإنسانية وفي كوكب الأرض الذي على بني الانسان اقتسامه والعيش فيه معاً. ولا يخفي الباحث الكاميروني تشاؤمه من مستقبل الإنسانية بالنظر الى الراهن القاتم بحروبه ونزعاته القومية والعنصرية واحتكار الثروة بين أيدي القلة وتفاقم فقر الغالبية، والمشاكل البيئية المتفاقمة.
وبحسب ما يعرفنا مبيمبي فإنه يستعيرُ مفهوم "الوحشية" من التفكير الهندسي، في حين أن الأمر يتعلق ذهنيا عنده بنمط سياسي للغاية، باعتبار أن السياسية هي سلطان على جميع الأنظمة، إذ يتم تحديد الوحشية، عند نقطة التقاء الهندسة بالسياسة، أي بين ما هو غير مادي، وما هو جسدي ومادي.
ويشرح مبيمبي في كلمة الكتاب الأولى التي تسبق المقدمة "الوحشية" باعتبارها وصفا لفترة استولى عليها شغف الهدم والإنتاج، على المستوى الكوني. وهو لا يسعى، كما يقول، إلى وضع علم اجتماع أو اقتصاد سياسي للتوحش، وليس أيضا معالجة العنف بصفة عامة أو أشكال من القساوة والسادية اللتين ولدهما الاستبداد. بل يكمن هدفه من كتابه في "القيام بتقطعات تسمح برسم لوحة جصية، وبطرح أسئلة بصفة مغايرة، وخاصة بذكر كلمة حول ما توفره هذه الفترة من خصوصية نسبت إليها العديد من الأسماء وهيمنت عليها ثلاثة تساؤلات مركزية، وهي الحساب في شكله الرقمي، والاقتصاد في شكله البيولوجي العصبي والكائن الحي فريسة مسار التضخم."
وعن الهدف النهائي للوحشية، يقول مبيمبي: "إن تغيير الإنسانية إلى مادة وطاقة هو المشروع النهائي للوحشية." لذا فهو يبتغي من وراء مؤلفه هذا إلى تسليط الضوء على ضخامة مثل هذا المشروع، باعتباره عملاً شاسعا، وليس فقط محاولة لهندسة العالم الواجب صياغتها، بل نسيج الكائن الحي. من هنا فإن هدفه هو تأطير حجة ممتدة "لإحداث انتماء إلى أرض مشتركة، حقيقية، وملموسة، وواضحة، دون مقاومة."
وبحسب ما يعرف مبيمبي الوحشية، فإن الوحشية هي طريقة لإدارة القوة، وفي ظلها يتوقف القتل عن أن يكون استثناء، ويؤدي"تغيير حالة الحرب في صلب الحالة المدنية إلى تطبيع وضعيات منتهية. فتقوم الدولة باقتراف جرائم الحق العام تجاه المدنيين"، بحيث يمكننا أن نتعرف على الوحشية عند "انخفاض التقنيات الخاصة بساحة المعركة في الدائرة المدنية.
ويضيف أيضا قائلاً: "يكون النفور من القتل وحظر الجريمة موضوع تعرية. فقد تحررت الغرائز التي كانت في الماضي محل مراقبة. وارتفع ثمن التصرفات في الحرب كما هو عليه وانتقل إلى الساحة المدنية. وأصبح التجرد من الإنسانية ممارسة عادية، والتخلص من النزوات العنيفة ممارسة شرعية، وكان موضوع تشجيع، وهيمن البحث عن المختلف وانتشرت تقنيات التبرئة. ووقع التحكم في الحياة المدنية بوحدات خاصة. وتحول "التمشيط" إلى برنامج. فالتخلص من أشخاص دون أن يطالب بذلك أحد، أصبح نموذجا بنفس الشكل المتمثل في الإجهاز على الجرحى وقتل المساجين. ولكن تتصرف الوحشية أيضا على قاعدة تبدد وقائعا وكذلك تأثيرها. وتتمثل عملية التبدد في إخفاء بشاعة العنف، وخاصة الموت الجماعي، حتى الموت الجزئي."
الكتاب الذي جاء في 328 صفحة من القطع المتوسط مقسم على ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة، ويناقش فيها مبيمبي مفاهيم الهيمنة العالمية، الكسر، الروحانية والباطنية، الفحولة، أجساد-الحدود، حركات الانتشار، طائفة الأسرى، الإنسانية المحتملة وسياسات الكائن الحي.