الجمعة  15 تشرين الثاني 2024

شهر إدوارد سعيد...رؤيا إدوارد سعيد المزدوجة

2021-09-14 09:19:11 AM
شهر إدوارد سعيد...رؤيا إدوارد سعيد المزدوجة
إدوارد سعيد

الحدث- ترجمة| أحمد أبو ليلى

كتبت أوروسلا ليندسي Ursula lidsey مقالا في موقع The Point عن ازدواجية إدوارد سعيد.

وفيما يلي نص المقال مترجما:

قبل سنوات، قرأت مقالًا شهيرًا بقلم إدوارد سعيد عن "روضة مانسفيلد  Mansfield Park لجين أوستن Jane Austen. وبما أني قد ترعرعتُ وأنا أقرأ أوستن وأحبها، لذا فقد ترك المقال، وهو فصل مركزي في كتاب سعيد الثقافة والإمبريالية (1993)، انطباعًا عميقًا لدي. أشار سعيد إلى أنه في رواية أوستن، فإن راحة ونظام النبلاء الاقطاعين كانت متجسدة في مزرعة في أنتيغوا، وهو مكان يمثل مفتاح القصة ومع ذلك فهو بالكاد يذكر في الرواية.

بينما كان رئيس العائلة، السير توماس، "بعيدا يرعى حديقته الاستعمارية"، والتي هي مستنبة سكر تعمل فيها عمالة بالسخرة، يتوه أبناؤه في ضلالهم. أما ما يعيد في نهاية المطاف "الهدوء المحلي والانسجام الجذاب" لروضة مانسفيلد فهو إدارة وإنتاجية العقار البعيد، مما يسمح للسير توماس بالعودة إلى حيث ينتمي. إن استيراد الثروة من المزارع غير المرئية والتابعة - والحكم الجيد الذي تتمتع به بطلة الرواية، الفقيرة والوديعة والمستقيمة فاني برايس - يسمح لروضة مانسفيلد بالازدهار. يُظهر تحليل "الجغرافيا الأخلاقية" للرواية كيف أن أوستن كانت "أكثر تورطًا في الأساس المنطقي للتوسع الإمبريالي" مما تبدو عليه في البداية.

مع ذلك، خلص سعيد، بشكل مفاجئ إلى حد ما، إلى أن وصمة العبودية في روضة مانسفيلد ليست سببًا لإدانة أوستن أو رفض عملها. ويقول: "إن ما أسميته بلاغيات الملامة، التي كثيرا ما تستخدم الآن من قبل أصوات تابعة منضوية، أو أقلياتية، أو محرومة، تقوم بمهاجمة أوستن، وبمهاجمة آخرين مثلها، استرجاعياً، لكونها بيضاء، ذات موقع امتيازي، عديمة الحساسية، متواطئة. أجل، إن أوستن انتمت إلى مجتمع مارس اقتناء الرقيق، لكن هل نقذف لهذا السبب برواياتها بعيداً بوصفها تمارين سخيفة كثيرة في التهكم الجمالي؟ كلا، بإطلاق، أٌقول محتجاً، لن نفعل ذلك إذا كنا نأخذ مأخذ الجد مهنتنا الفكرية التأويلية [التي تقتضي] عقد الصلات، والتعامل مع أكبر قدر ممكن من الأدلة، تعاملاً كاملاً وحقيقياً، وقراءة ما هو موجود ثمة وما هو غير موجود. وكتب سعيد أنه من منظورنا اللاحق، يمكننا قراءة ديناميكيات القوة التاريخية المضمنة في القصة والحياة الفردية التي قامت أوستن بتجسيدها ببراعة. فالمهمة، كما يقول، هي رؤية الاثنين معًا.

أذهلتني مقالة سعيد. مثل العديد من القراء الآخرين، لم ألاحظ أو أفكر في مستنبت السكر في القصة - وكانت هذه هي وجهة نظره. نجح سعيد في لفت انتباهي إلى هذا الأمر دون أن يقطعني عن عمل استمر إعجابي به لأسباب عديدة أخرى. في الواقع، أظهر كيف أن ملاحظة هذه التفاصيل الإضافية يمكن أن تثري قراءتي لأوستن. وكانت بمثابة عملية رؤية أكثر من شيء في آن معا - ما أطلق عليه سعيد اسم قراءة  طباقية "contrapuntal" – وكانت جزءًا من جهوده المستمرة طوال حياته لتجميع الماضي والحاضر، والسلطة والأفراد، والثقافة والسياسة، وقول شيء أصلي وعادل عن العالم الذي نعيش فيه.

بدأ هذا الجهد قبل وقت طويل من كتابة ذلك المقال، عندما بدأ مع تقبل سعيد تدريجياً لهويته المجزأة والعناصر المختلفة والمتعارضة أحيانًا في فكره. ولد سعيد في القدس عام 1935. ونشأ في القاهرة، حيث كانت تنتمي عائلته إلى الطبقة الوسطى من المهاجرين الفلسطينيين البروتستانت الذين عاشوا حياة مميزة لكنها هامشية إلى حد ما. قاموا بزيارات متكررة إلى فلسطين حتى تم طرد عائلته الممتدة إلى المنفى بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948. (عاد لزيارة فلسطين فقط، بعد 45 عامًا، في عام 1992).

وضع انقلاب الضباط الأحرار عام 1952، والذي أطاح بالملكية وأنهى الاستعمار البريطاني في مصر، نهاية للعالم الكوزموبوليتاني لشباب سعيد. أعيد توطين والديه في لبنان، حيث كان لديهم أيضًا صلات عائلية. ومع ذلك، لم يشعر سعيد أبدًا بالراحة في القرية اللبنانية "الكئيبة" حيث تقضي عائلته الصيف كل عام، ومع مرور الوقت واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، أصبح يدرك بشكل متزايد مدى ابتعاده عن "التحالفات السياسية في لبنان - الطائفية"، والتي غالبًا ما تكون غير مرئية". لقد شعر بالانقسام بين اللغة الإنجليزية التي درس بها، والمتجذرة في القوة الاستعمارية، واللغة العربية المنطوقة في المنزل، والتي بذل جهدًا لدراستها رسميًا في وقت لاحق من حياته.

في كتابه "خارج المكان"، والذي هو عبارة عن سيرة ذاتية صادقة وحديثة وشائكة كتبها قبل وفاته بسرطان الدم في عام 2003، أشار سعيد بالقول: "لقد امتلكني هذا الشعور المقلق بتعدد الهويات - والتي في معظمها متضارب- طوال حياتي، ورافقته ذاكرة حادة أني كنت أتمنى بشكل محموم لو أننا جميعا عرب كاملون أو أوروبيون أو أمريكيون كاملون أو مسيحيون أرثوذكسيون كاملون أو مسلمون كاملون أو مصريون كاملون وما إلى ذلك". لكنه سيحول هذا الضعف أيضًا إلى شكل من أشكال الحرية الواعية: "لقد شعرت دائمًا بأولوية الوعي الفكري، وليس القومي أو القبلي".

ازدادت التوترات فقط مع إنجازاته المهنية والإشادة به. أسس سعيد، أستاذ الأدب في جامعة كولومبيا والذي كان ضليعًا في المعرفة الغربية، مجال دراسات ما بعد الاستعمار لكنه كان متشككًا في سياسات الهوية. وكشف باعتباره أحد المعجبين بجوزيف كونراد والفيلسوف الإيطالي في القرن السابع عشر جيامباتيستا فيكو، عن تواطؤ الثقافة الغربية وعملية إنتاج المعرفة مع العنصرية والإمبريالية، لكنه لم يتوقف أبدًا عن الإيمان بنهج إنساني للتعليم "يركز على الفردانية البشرية والحدس الذاتي، بدلاً من الأفكار المتلقاة والسلطة المفروضة". ويمكن أن يكون سعيدا شديدا وفي بعض الأحيان جدليًا في المناقشات الفكرية والسياسية، لكن فيما يتعلق بالأدب فإنه يقدر الازدواجية والغموض، وقام باستكشافه على الورق بأسلوب مرن مضطرب، غالبًا ما يُقارن بالموسيقى. قصة حياة سعيد بالإضافة إلى عمله ما هي إلا قصة تعلمه لتحويل تجربة عدم الاستقرار في مكان واحد يمكن أن يجد نفسه فيه.

يوصف كتاب تيموثي برينان الجديد، أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد، بأنه "سيرة فكرية" للباحث الفلسطيني الأمريكي. يتطرق الكتاب إلى جميع الجوانب الرئيسية لعمل سعيد: فهو يؤرخ للموجهين الأوائل وتأثيراتهم في حياة سعيد. ويكشف مسودات الروايات غير المكتملة؛ ويروي ولادة كتب سعيد خلال محاضرات وورش عمل وفصول غير منشورة؛ ويرسم صلاته في عالم الإعلام في نيويورك وبين المثقفين العرب في بيروت. نتعرف على أسفار سعيد وأذواقه الموسيقية والملاحظات التي تلقاها من زملائه المشاهير.

وبصفتي شخصًا عاش في المنطقة العربية وكتب عنها ودرسها على مدار الثمانية عشر عامًا الماضية، فأنا من النوع القارئ الذي يعرف سعيد تمامًا كمفكر عام وقد شعرت بتأثير فكره علي. لكن هناك الكثير من فكره الذي لا أعرفه؛ كنت أتمنى أن يساعدني هذا الكتاب في سد هذه الثغرات، وأن يرشدني إلى فهم أعمق لما جعله مميزًا ومؤثرًا للغاية، وما الذي يمكنني الاستفادة من إرثه الآن. وعلى الرغم من أن سيرة برينان تغطي العديد من الأوجه والفترات من حياة سعيد، إلا أنها لا تنسجها في صورة كاشفة بشكل خاص. في نهاية ما يقرب من أربعمائة صفحة، شعرت أنني قد تعلمت الكثير جدًا والقليل جدًا عن سعيد، وقد غمرني بالمعلومات دون اكسابي الكثير من البصيرة.

في فصوله الأولى، يسرد كتاب برينان طفولة سعيد التعيسة كجزء من عائلة مثقفة ومعزولة من الطبقة العليا، وعلاقاته المشحونة مع والده المكبوت عاطفيًا والقوي وأمه المحبوبة عاطفيًا. في المنزل وفي مدارسه المختلفة (التي تديرها بريطانيا وأمريكا)، شعر سعيد بأنه يُساء فهمه باستمرار، ويعامل بشكل غير عادل. كان لديه نمط دائم من العداء للسلطة حتى عندما أصيب بجروح عميقة من النقد وخيبة الأمل لعدم الحصول على الاعتراف. بعد إرساله إلى مدرسة داخلية أمريكية مرموقة في سن السادسة عشرة، درس سعيد في جامعتي برنستون وهارفارد. وبعد أن تخلى عن خططه ليصبح طبيبًا أو عازف بيانو محترفًا، تولى منصب أستاذ الأدب في جامعة كولومبيا، حيث قام بالتدريس لبقية حياته.

هناك كتب سعيد "الاستشراق"، وهو العمل الذي كان وراء شهرته عندما نُشر في عام 1978. وكما اعترف سعيد في مقدمة الكتاب، فإن الدراسة الفكرية هذه كانت أيضًا "محاولة لجرد آثارها عليّ، أنا الموضوع الشرقي، للثقافة التي كانت السيطرة عليها عاملاً قوياً للغاية في حياة جميع الشرقيين". عرّف سعيد الاستشراق على أنه أكثر بكثير من الدراسة الأكاديمية للشرق من قبل العلماء الغربيين وعلماء اللغة والهواة المتحمسين (بالمعنى التقليدي للمصطلح). وصفه بأنه أسلوب فكري غربي - وجد بين الإداريين الاستعماريين، والعلماء في كل مجال من علم النبات إلى الاقتصاد، والكتاب والفنانين من كل الأنواع - والتي حددت الشرق على أنه نقيض الغرب. لقد بنى الاستشراق شرقًا وهميًا - غريبًا، استبداديًا، فاسدًا - وجعله موضوعًا للدراسة وحقلًا لممارسة السلطة عليه. لم تبرر هذه العملية الاستعمار كما حدث فحسب، بل خلقت خطابًا أرسى الأساس له.

يصف برينان كتاب سعيد بأنه "ليس مجرد نقد للهويات الثابتة والجوهرية ولكن عبارة عن نظرية كاملة للمعرفة التي هي في خدمة السلطة ... هي اتهام للدراسات الإنجليزية والفرنسية حول العالمين العربي والإسلامي." كان الكتاب أيضًا لائحة اتهام لعلماء معاصرين مثل برنارد لويس، الذي اتهمه سعيد بترويج التعصب ضد العرب والمسلمين. قال سعيد إن المستشرقين المعاصرين خدموا المشاريع الإمبريالية الأمريكية والمصالح الإسرائيلية من خلال تصوير العرب والمسلمين على أنهم متطرفون غير عقلانيين وبغيضين ورجعيين، دينهم مرادف للإرهاب، ولا يفهمون سوى لغة القوة.

واجه كتاب الاستشراق عندما نشر انتقادات ليس فقط من اليمينيين والمدافعين عن الاستعمار ولكن أيضًا من الأصدقاء الماركسيين العرب مثل المفكر السوري صادق العظم، الذي اعترض على توصيف سعيد لآراء ماركس، وانتقده في تشكيل وجهة نظر أساسية خاصة بالموقف الغربي الثابت تجاه الشرق، والتي تمتد من المسرحيات اليونانية القديمة إلى الجدل المعاد للإسلام في العصور الوسطى إلى استعمار القرن التاسع عشر. كما كانت هناك انتقادات من العلماء الذين أعجبهم سعيد مثل عبد الله العروي، وجاك بيرك، وماكسيم رودنسون، الذين لاحظوا أن سعيد "لم يكن على دراية كافية بالعمل العملي للمستشرقين". يكتب برينان: "حتى المعجبون بسعيد وجدوا الاستشراق في بعض الأحيان غير متوافق مع التناقض، ومستعدًا جدًا للوقوف على عكس المفكرين في نفس المعسكر." علاوة على ذلك، فإن "المبالغة في الكلام شوهت حجته"، وفي بعض الأحيان "بدا وكأنه يقترب من إنكار أن أي شخص غير شرقي يمكنه أن يكتب رواية عن الشرق دون التطابق مع السياسة الخارجية لبلده."

يتناول برينان هذه الاعتراضات، لكنه يشير أيضًا مرارًا وتكرارًا إلى أن عمل سعيد قد أسيء فهمه بشكل أساسي. يكتب: "فشل معظمهم في ملاحظة تناقض سعيد الحقيقي تجاه المستشرقين". "أُبتلي استقبال الكتاب بسوء الفهم." لأن "الكتاب لم يكن فقط، أو حتى بشكل رئيسي، عن الشرق وعلمائه"؛ لقد كان "تأملًا في الدرجة التي يكون فيها التمثيل جزءًا من الواقع".

لكن بالنسبة للكثيرين منا، يرتبط تأثير الاستشراق بهذه الحقيقة أكثر من ارتباطه بأي تنظير حول التمثيل. ترتكز أهميتها على الطريقة التي يتردد صدى مزاعمها حول الماضي في الحاضر. خلفية جميع الحجج حول الكتاب هي التدخل الغربي المستمر والمنتشر في الشرق الأوسط - بما في ذلك الدعم الأمريكي لإسرائيل، والغزو الأمريكي للعراق، والتدخلات المختلفة لدعم أو إسقاط الديكتاتوريين العرب، وفرض عقوبات ضد أنظمة معينة والبيع الضخم للأسلحة للآخرين. وقد أنتجب مبررات هذه السياسات، حسب المناسبة، عن النقاد والمعلقين والعلماء الموثوق بهم إلى حد ما.

في الوقت الذي بدأت فيه عملي كصحفي في القاهرة عام 2003، كانت مقدمة عمل سعيد، سواء قرأناها أم لا، جزءًا من الهواء الذي نتنفسه. في الدوائر التي سافرت إليها، كنا نهدف إلى توخي الحذر من التحيز ضد المسلمين والعرب، والتقارير الساخرة التي يتم الاتجار بها ضمن الكليشيهات الهجومية. لكن مع استعداد الولايات المتحدة لغزو العراق، لم يكن من الواضح بشكل أكبر مدى انخفاض مستوى التأهيل لإطلاق لقب "خبير" في الشرق الأوسط، وعدد المرات التي أعاد فيها هؤلاء الخبراء استخدام الصور النمطية التي حددها سعيد. كان برنارد لويس عدو سعيد القديم حاضرًا ليشرح مرة أخرى جذور "الغضب الإسلامي". كان كتاب رفائيل باتاي "العقل العربي" عام 1973، والذي جادل بأن العرب مهووسون بالجنس وليس لديهم أخلاقيات العمل، كبمثابة معيار للمحافظين الجدد في إدارة بوش.

وكما قالت الروائية اللبنانية دومينيك إيده، فإن حجة سعيد لها "ميزة كبيرة في تقديم نظرة عامة - على مستوى الفكر والخيال - تكشف إلى أي مدى كانت عنصرية الماضي لا تزال موجودة". في كتابها في عام 2017، "إدوارد سعيد: فكره كرواية" ، ترسم إديه صورتها الحميمية والقاطعة لسعيد وعلاقتهما التي استمرت لعقود. وهي تعترف بالميل نحو المبالغة في الاستشراق، لكنها تجادل بأن افتقار الكتاب إلى الدقة هو المفتاح لقوة حججه. تكتب أن القول بأن الكتاب أثار أسئلة أكثر مما قدم إجابات هو مجاملة. "الاستشراق كتاب يفسح المجال للنقد - سأذهب إلى حد القول إن النقد أمر حاسم لحيوية محتواه وبقائه. كان طموحه أكبر من أن يُرضي بالكامل، وموضوعه معقد للغاية بحيث لا يسمح بوضع أطروحة نهائية".

يذكر برينان إيدي وكتابها ليتجاوزها بسرعة باعتبار شهادتها منحازة وتعبر أن مصالح ذاتية. ومع ذلك، فإن كتاب إيدي يستكشف شخصية سعيد بثقة وتعاطف والخيال يفتقر إليها برينان؛ فكتاب [إيدي] يصر على أهمية العاطفة والأنا والتاريخ الشخصي لفكر سعيد وفي الواقع لجميع المناظرات الفكرية. كشخص له نفس الهوية مثل سعيد، (الفرنكوفوني واللبناني) فلدى إيده معرفة مباشرة بالأزمة الصعبة التي وجد سعيد نفسه فيها أحيانًا. لقد اعترفت بلطف بخطأ سعيد المتمثل في تركيزه بشكل حصري تقريبًا على الهيمنة الأجنبية دون التركيز على العوامل المحلية التي ساهمت أيضًا في مأزق العالم العربي، "وفترة الركود في القرن العشرين، مع فقدان جماعي للإبداع ونفاذية رهيبة لأوهام الإسلاميين". لكن إيده تفهم أيضًا سبب عدم تركيز سعيد على تلك الأوهام. بصفته مسيحيًا عربيًا تلقى تعليمه في الغرب ونشأ في ظل نظام استعماري، كان يعتقد أن لديه التزامًا أخلاقيًا بإدانة الإمبريالية الغربية عندما سنحت له الفرصة. كان عمله "وسيلة لسداد تلك الديون، باتساق ودقة ملحوظتين، وفي نهاية المطاف التخلص منها، أو على الأقل أن تكون مديونيته تجاهها أقل."

كان سعيد يسدد ديونه على الدوام في دفاعه عن الشعب الفلسطيني وحقه في الكرامة وتقرير المصير. بصفته مواطنًا أمريكيًا، وباحثًا إنسانيًا، وشخصية مفوهة ومتعلمة محصورة داخل مقعد تعليم غربي، كان سعيد في وضع جيد بشكل خاص لدحض الصور النمطية عن العرب والمسلمين كونهم عنيفين أو غير متسامحين أو متخلفين. بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، التي سيطرت فيها إسرائيل على الضفة الغربية وغزة ومرتفعات الجولان، انخرط سعيد أيضًا،  إلى جانب صديقه إبراهيم أبو لغد، في المناصرة السياسية للقضية الفلسطينية.

لا ينبغي لأحد أن يقلل من قيمة الخسائر ومخاطر التحدث علنا بشكل متكرر ومتسق كما فعل سعيد، خاصة عند تحدي الدعم الواسع النطاق في الولايات المتحدة لإسرائيل. كان سعيد بهذه الندرة، فلسطيني يُستمع إليه في الغرب. (ينسب إليه برينان الفضل في التغيير الفردي للرؤية التحريرية لمجلة لندن ريفيو أوف بوكس حول موضوع إسرائيل وفلسطين). يمكن قياس تأثيره في تغيير شروط النقاش جزئيًا من خلال العدوانية التي استُهدف بها على مر السنين. عندما تحدث سعيد ضد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، تلقى كميات كبيرة من رسائل الكراهية. تم إلقاء قنابل حارقة على مكتبه بعد بضع سنوات. قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بتجميع ملف من 238 صفحة عنه. يذكر برينان أن المكتب الوحيد إلى جانب مكتب سعيد الذي "به نوافذ مضادة للرصاص وجرس يرسل إشارة مباشرة إلى أمن الحرم الجامعي" كان مكتب رئيس جامعة كولومبيا.

تم تشويه سمعة سعيد بأنه إما أنه ليس فلسطينيًا بدرجة كافية (لأنه نشأ في القاهرة) أو أنه فلسطيني جدًا إلى حد بعيد. في عام 2000، في زيارة لجنوب لبنان، عندما انسحب الإسرائيليون لتوهم بعد ثمانية عشر عامًا من الاحتلال، انضم سعيد إلى آخرين في حشد من الناس في إلقاء حجر على السياج الحدودي الإسرائيلي. تم الاستيلاء في الغرب على صورة لفتة التضامن الرمزية هذه - التي يتم الاحتفال بها في العالم العربي -  كدليل على دعم سعيد للإرهاب، وتبع ذلك مشاجرة إعلامية بين إسرائيل والولايات المتحدة. لُقب سعيد، وليس للمرة الأولى ، بـ "أستاذ الإرهاب".

بعيدًا عن كونه مدافعًا عن الإرهاب، كان سعيد دائمًا يعارض العنف السياسي بصدق. واستنكر معاداة السامية وإنكار الهولوكوست، والتي غالبًا ما كانت تتسرب إلى النقد العربي للصهيونية، وكان دائمًا مباشرًا في انتقاده للمستبدين العرب والقيادة الفلسطينية. في الواقع، أظهر سعيد، في دفاعه عن فلسطين، نفس الاستقلالية والحذر في العقائد كما فعل في مسيرته الأكاديمية. لقد ظل ثابتًا على مبادئه، لكنه تابعها بطريقته المرنة والمميزة.

وبعد أن كان قريبًا من ياسر عرفات وكان عضوًا مستقلاً في المجلس الوطني الفلسطيني، اختلف سعيد مع عرفات بشأن اتفاقيات أوسلو، التي وصفها بأنها تنازل كارثي من شأنه أن يقضي على أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بالنظر إلى سيطرة الجيش الإسرائيلي العسكرية والإقليمية واستمرار إسرائيل في بناء المستوطنات. (قارن سعيد منظمة التحرير الفلسطينية بحكومة فيشي، وحاول عرفات حظر كتبه في الضفة الغربية وغزة). في عام 1993، وهو العام الذي تم فيه توقيع أول اتفاقيتي أوسلو، التقى سعيد بالموسيقي الإسرائيلي دانيال بارنبويم، وعقد صداقة قوية معه. وأسسا معا أوركسترا الديوان الغربي والشرقي، وهو مشروع يجمع موسيقيين من فلسطين وإسرائيل ودول أخرى معًا ويستند إلى "الاقتناع بأنه لا يوجد حل عسكري للصراع العربي الإسرائيلي، وأن أقدار الإسرائيليين والفلسطينيون مرتبط ارتباطًا وثيقًا ". (خلق التعاون توترات داخل عائلة سعيد، والتي دعمت إلى حد كبير حركة لمقاطعة إسرائيل). كما بدأ سعيد في الدعوة إلى حل الدولة الواحدة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بحجة أن حل الدولتين أصبح بعيد المنال.

كما فعل في علاقته بالنضال الفلسطيني، رسم سعيد موقعه المعقد "الوسطي" في الحروب لأكاديمية المزدهرة في عصره، وفي المناقشات حول دراسات ما بعد الاستعمار. يخبرنا برينان أن سعيد كان من أوائل الذين تبنوا النظرية البنيوية وما بعد البنيوية الفرنسية ومن ثم فقد اهتمامه بها وباستخدامها في الجامعة الأمريكية، ويعود ذلك إلى وجهة نظر إنسانية أكثر تقليدية شددت على أهمية التفسير والاعتراف بالفاعلية البشرية ضمن شبكات السلطة المختلفة.

 

تشرح مقالة سعيد بعنوان "نظرية السفر" مخاوفه بحول فوكو، الذي كان مصدرًا للإلهام في يوم من الأيام. إن تعريف القوة الذي يقول "القوة في كل مكان" يمكن أن يمحو "دور الطبقات، ودور الاقتصاد، ودور التمرد والعصيان"، كما يقول. يتحمل المثقفون مسؤولية تحديد الأشكال المختلفة للسلطة والتمييز بينها، والاعتراف بالفاعلية والنضال والتصور، وحتى العمل من أجل التغيير: "إذا كانت السلطة تضطهد وتسيطر وتتلاعب، فإن كل ما يقاومها لا يساويها من الناحية الأخلاقية، فهي ليست محايدة وليست ببساطة سلاحًا ضد تلك القوة". وبخلاف ذلك، يمكن لـ "نظرية تمرد وُجدت ذات يوم" أن تصبح "عقيدة ثقافية" أكثر بقليل من نظرية فوكو، ولتستحوذ عليها المدارس والمؤسسات ولتحتل "مكانة السلطة داخل المجموعة الثقافية أو النقابة أو الأسرة المنتسبة". وتصبح وسيلة للباحثين "لتبرير الهدوء السياسي بفكر متطور".

يشير برينان أيضًا إلى وجهة نظر سعيد المعقدة لدراسات ما بعد الاستعمار وسياسات الهوية. يخبرنا أنه على الرغم من أن سعيد دعم تنوعًا أكبر في الأوساط الأكاديمية ودمج المزيد من الكتاب غير الغربيين في المناهج الدراسية، إلا أنه كان يمقت "التثبيتات على" الهوية "الشخصية"، والتي سرعان ما أصبحت السبب الميداني لكون الطلاب والأساتذة غير البيض يشقون طريقهم إلى مناصب السلطة المغلقة سابقًا. لقد قاد الطريق، وخلق حركة أكبر منه ولكنها أصبحت الآن خارجة عن إرادته ومستوحاة من جسد فكري كان منشغلًا برفضه".

يصف برينان العلماء الشباب الجدد من البلدان المستعمرة سابقًا والذين كانوا غالبًا من "عائلات ميسورة الحال لها صلات سياسية"، و "هاجروا إلى الجامعة الحضرية جزئيًا بسبب الانفتاحات التي خلقها سعيد".

ولكن بمجرد وصولهم إلى هناك، وشعورهم بقوتهم المكتشفة حديثًا، اشتركوا في نظرية "الانفجار الكبير" التي تقول إنه لم تكن هناك مقاومة للاستعمار قبلهم. بدت الفكرة أنه يجب على المرء أن يكون عضوًا في مجموعة عرقية أو إثنية أو قومية مضطهدة من أجل مقاومة الظلم الإمبريالي، وتم رسم معادلة (كان سعيدًا دائمًا يعارضها) بين ما يعرفه المرء وما هو.

تثير هذه الملاحظة مسألة إرث سعيد داخل الجامعة المعاصرة ولكنها تستحق المزيد من التفصيل. يشير برينان بإيجاز إلى عمل الباحث إعجاز أحمد، الذي رأى الاستشراق على أنه يزود نخب ما بعد الاستعمار التي تدخل الأكاديميات الغربية بروايات عن الاضطهاد كانت مفيدة من الناحية المهنية، لكنها لا تفسر رد فعل سعيد على مثل هذه الانتقادات.

أجد أن موقف سعيد من العلاقة بين الهوية والمعرفة أكثر غموضًا مما يتيحه برينان - كما يشير تردد سعيد في التعبير عن تحفظاته علنًا (يكتب برينان أن "شدة استيائه كانت، كالعادة، أكثر وضوحًا خارج السجلات"). أود أن أقول إنه بينما كان سعيد يعتقد أن التمثيل- في كلا المعنيين - مهم، فقد كان مهتمًا جدًا بالأصالة، في كسر الحدود، لقبول التصنيفات الصارمة في النظرية أو في الحياة.

إحدى الحقائق المحزنة في مسيرة سعيد المهنية أنه على الرغم من عمله غير المحدود ومكانته العالمية، فإن القضايا التي كان يؤمن بها لم تحرز تقدما ملموساً. لقد اختفت احتمالية قيام دولة فلسطينية، كما تنبأ سعيد، وأصبحت الظروف التي يعيش فيها الفلسطينيون أكثر وحشية من أي وقت مضى. بعد أن انتهيت من كتابة هذا المقال، أدت الإجراءات القانونية التي من شأنها تشريد المزيد من العائلات الفلسطينية من منازلها في القدس الشرقية وتسليم تلك المنازل إلى مجموعات المستوطنين إلى اندلاع احتجاجات من قبل الفلسطينيين، والتي تم قمعها بعنف. أطلقت حماس صواريخ على إسرائيل من قطاع غزة المحاصر وقصفت إسرائيل المستشفيات والمدارس والمساجد والمباني السكنية ومقار وكالات الأنباء هناك، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 232 شخصًا، من بينهم 66 طفلاً.

نسبياً، وبسبب عمل سعيد (الذي كتب كتابًا كاملاً عن التغطية الإعلامية المغرضة للإسلام)، أود أن أزعم أن التقارير الغربية عن المنطقة قد تحسنت؛ ومن المرجح اليوم أن يقوم بهذه التقارير صحفيون من خلفيات عربية أو ممن درسوا اللغة العربية على الأقل. كما أنه في بعض الأوساط الإعلامية والثقافة الأمريكية، هناك وعي أكبر بالتحيز ضد العرب والمسلمين وتصوير أكثر دقة، مثل العرض التلفزيوني لرامي، أو الفيلم الفلسطيني القصير

"الحاضر". ومع ذلك، تغلب على صور المسلمين البساطة والسلبية والتي ما تزال مستمرة بشكل كبير. وبعد عشرين عامًا من تقديم التقارير عن المنطقة، ما زلت أرى نفس الاستعارات القديمة تظهر بشكل دوري وبسهولة تنذر بالخطر. كصحفي، حاولت أن أتعلم من سعيد أن أقاوم هذه الاستعارات بقدر ما أستطيع (لا أدعي أني أنجح دائمًا) وأن أحاول الكتابة من موقف وسطي لا يفترض تفوق جمهوري الغربي على محيطي الشرقي. ومع ذلك، وبغض النظر عن التقدم الذي قد يحدث على مستوى التمثيل الثقافي، فقد تم تحقيق القليل على مستوى علاقات القوة الفعلية أو السياسة الخارجية الأمريكية، كما يشهد على ذلك "حظر المسلمين" من قبل ترامب وعدم استعداد بايدن لانتقاد القصف الإسرائيلي لغزة.

وفي نفس الوقت، حيث أصبح الاستشراق محكًا في الدراسة الأكاديمية للشرق الأوسط، فإن الشعبية الواسعة والاستخدام العشوائي للمفهوم في بعض الأحيان يهدد بتحويله إلى اتهام دون التفكير فيه. في أسوأ الحالات، يتم استخدامه بطرق مختزلة ورفضية بدلاً من كونه طريقاً كاشفا. في كتاباتي الخاصة، أستشهد به بشكل مقتصد، وغالبًا ما أجد أنه من المفيد وصف كيف يكون أمر ما استشراقيا أكثر من ذكره مباشرة. وهذا لا يعني أنه لا ينبغي التأكيد على التأثير التاريخي للاستعمار والإمبريالية، والنفاق والتحيز في السياسة الخارجية الغربية، خاصة أنها مستمرة بلا توقف، ومدعومة بكثير من سوء النية وفقدان الذاكرة. يكمن التحدي في الخروج من دائرة بسيطة من الإدانة والإنكار، وحدود تحليل الخطاب الذي، مهما كان دقيقاً، لا يقدم جديداً.

كان سعيد دائمًا يريد أن يقول شيئًا جديدًا. تبدو رؤيته للمفكر، المستندة إلى فكرته الشخصية الفريدة، أكثر ندرة اليوم. كان مثقفا بشكل غير اعتيادري ولكنه منخرط في السياسة. وكان حريصاً على التأثير في الخطاب العام؛ شخصا لم ينسجم مع محيطه، مخاطر، تجول بحرية بين المجالات التأديبية والأطر النظرية، ولم يتجاهل التقاليد كثيرًا مثل استيعابها وإعادة تفسيرها. وسواء كان يكتب عن روايات جين أوستن أو عن إمكانية تقرير المصير للفلسطينيين، فقد ناشد سعيد قراءه "بالتواصل، وبالتعامل مع أكبر قدر ممكن من الأدلة".

لربما لم يكن دائمًا قادرًا على التوفيق بين جميع عناصر حياته وفكره؛ للحفاظ دائمًا على التوازنات ودعم الصلات التي وصل إليها؛ لحل التناقضات والثغرات التي شملها عمله (ركزت كتاباته المتأخرة على مفهوم "عدم التوفيق"). ومع ذلك، كانت كتاباته في أفضل حالاتها رحبة ومدهشة ودقيقة وتنمي وعيًا نقديًا وصفه بأنه "ولع بالبدائل لا يمكن إيقافه".