الإثنين  23 كانون الأول 2024

الوطن في شعر سعدية بلكارح.. قراءة في ديوان "حبات المطر"

بقلم: أمين دراوشة

2015-04-14 11:18:01 AM
 الوطن في شعر سعدية بلكارح.. قراءة في ديوان
صورة ارشيفية

تمهيد
 
على بساط الغيم، تأخذنا الشاعرة إلى عوالم شتى مليئة بالهواجس والخوف، كما هي مليئة بالحب والأمل، والإيمان بغد أجمل وأحلى.
تزخر أشعار سعدية بلكارح بالفزع والقلق، لأسباب عدة أهمها المعضلات التي لا تحصى ولا تنتهي التي يواجهها الوطن مما يجعله عاجزا عن ركوب غيمة التقدم.
والديوان متخم بالرموز، والرمز هو قلب الشعر، الذي يخفق باللذة والمتعة. فالشعر ليس إلا طريق الشاعر إلى الهدوء النفسي، ومحاولة التوافق مع نفسه عبر الحلم بما هو قادم. فالواقع المعاش في مجتمعنا لا يطاق لذا ترى الشاعرة ضرورة تغييره جذريا.
ولقد تحدث مالارميه عن "ضرورة خلق كل شيء من جديد بواسطة الذكريات، من أجل إثبات أننا هناك حقا حيثما ينبغي أن نكون". (بول د ي مان. "وجه الرمزية المزدوج". في: البنوية والتفكيك. مجموعة من الكتاب. ترجمة حسام نايل. عمان: دار أزمنة للنشر والتوزيع. ط1، 2007م، ص 95-113) يمتلئ الديوان بالحديث عن الوطن وعشقه الخالد، وعثراته وسعي العتمة للسيطرة على روحه، والحرب التي لا تنتهي بين النور والظلام.

وللشاعرة حس مرهف، وتعبر بخيال مجنح عن ارتباطها الذي لا فكاك منه مع الوطن، لتصبح روحها أزهاره، وليكمل كل منهما الآخر. وتمتلك أسلوبها المميز والساحر، الذي ينم عن تجربة خصبة، تعبر عنها بمقدرة فنية عالية.
تنوعت أساليب القصائد غير أن الحبل الذي يشد كل خصلات شعرها هو الذات النقية الطاهرة التي تحوز من القوة والشدة ما يجعلها تقارع كل ما يجري في الوطن من ويلات. وقد أجادت الشاعرة بتصوير الأرض والالتصاق بها، وصورت العلاقات التي تربط الإنسان بأرضه وصباه وناسه، وما تحويه الطبيعة من سهول ووديان وأنهار وأزهار وطيور وحشرات مضيئة. واستطاعت الشاعرة أن تجعل الوطن حيا نابضا، فنراها في قصائدها تناجيه وتلثمه وتعاتبه وتخاصمه، وهو يمارس غوايته باقتدار.

الوطن في شعر سعدية بلكارح: تبدأ الشاعرة ديوانها بقصيدة "عتبة" التي تخبرنا بها إنها عبر الكتابة تستطيع أن تحلق في فضاء من الحرية غير متاح بطريقة أخرى، فتقول: "القلم يمنح زفير الحرف فضاء رحبا ليبعثر بتلات ورده أمام العيون العطشى" (سعدية بلكارح. ديوان "حبات المطر". الدار البيضاء: مطبعة دار القرويين. ط1، 2015م، ص9(
وفعل الكتابة يزدادا اشتعالا بالعشق والشوق للأرض التي ستحاول الشاعرة عبرهما نزع السواد والإثم الذي يلطخ جمال الأرض.
فتكمل قصيدتها قائلة:"ما صار للمحراب طهر هُتكت فيه قدسية المعبد فيا حمائم العشق سربلي طهري..ببياضك ولا تقتري على بوحي بوميض وحيك" (ص9)
فالوطن يعاني من أمراض لا يمكن حصرها، أثرت على كل شيء جميل فيه وحتى الطفولة شوبها الألم والوجع والضياع والشحوب، تقول في قصيدة "أجساد متهتّكة":"مسحة من الورم تتخابث خلف العبث.. تمشط ضفائر النخاسة تحت السديم.. في عُقر القمار بكل شيء..
بوجه الطفولة..وأجساد المومياءات.." (ص 10(
والمدينة مريضة تأكل أبناءها، وتقضي على أحلامهم، وتتفتت هويتهم وتجعلهم بلا حول أو قوة، فرياح السموم تهب بقوة وتقضم كل شيء جميل وعذب في طريقها، تضيف الشاعرة قائلة:"تعفر صداك مدينتي بريح صفراء تلعق لونك الوردي.." (ص 12(
إلا أن حب الوطن الذي يولد ولا يموت في قلب الشاعرة، يجعلها تضحي بحياتها من أجله، فلا ضير إذن أن تطالب الوطن بأخذ حياتها إذا كان ذلك سينقذه من الذبول والضمور، تقول:"اسحبي من صدري كلّ أنفاسي.. فالموت بين سحائبك جرعة حياة.. أنت مدينتي...أنت مولدي..." (ص 12( وهنا يصبح الموت والحياة شيئا واحدا، فالمهم العيش بالوطن وتنسم هوائه رغم كل شيء.
يمتلئ الديوان بكثير من المعاني والكلمات المعبرة عن البداية الجديدة، ورأت الشاعرة إن الماء ومفرداته تفي بهذا الغرض، فالماء أصل الحياة، وبدايتها... وبالماء الذي يغسل أدراننا وأوساخنا ويطهر قلوبنا امتلأ الديوان، ومن الألفاظ الكثيرة نذكر (زرقة الماء، شتاء، ترعد وتبرق، سيول، شطآن، مطر، الموج، الزبد، البَرد، رذاذ، الغيم، مزنة...)، فتقول في قصيدة "حبات المطر":
"شتاؤك هذا المساء يغازلني يزرع حبّاته في مُقلتيّ يعانق دمعي فأبكي بلا خجل" (ص 15(
وتضيف:"ما أسعد ليلي بزخات المطر.. تنقر نافذتي تدغدغ صمتي.." (ص 16( وتخلل جميع القصائد "سعديات" وهي أبيات قليلة تحاول فيها الشاعرة التأكيد على موقفها، وتوضيح ما علق القصيدة من غموض، ففي "سعديات" التي تلي قصيدة حبات المطر تقول:"ويأتي المساء.. أقف كعادتي أرقبك من نافذة حلمي أغسل بهطولك غبار انتظار طويل كنت فيه زوبعة.. وكنت الهدوء الذي يسبقك..." (ص 17(
إن قلب الشاعرة يحترق لرؤية الوطن يرزح تحت نير الجهل والمرض والفقر والموت، والتفسخ الاغتراب، تقول في قصيدة "حين تحرّرت منّي":"شهقة..تسافر في المدى تتوغّل بين اغترابك وترقّبي يزهر بساط الحلم ورودا بلا لون تثير رائحة بقايا أجساد من زمن التفسخ المجاني تضيع حزمات الفكر في عرائن الضباع يرتفع مؤشر العدوى في بقعة الشمس هو عصر الخوف والدمع.." (ص 20(
لذا تطالبه وهي رهينة عينيه، وهو النبع الذي ترتوي منه ولا تكف عن الافتتان به في كل لحظة، أن ينهض ويزيل ما علق به من غبار، تقول في قصيدة "بتلات حارقة":
"ترجّل قليلا، نمتط معا صهوة الغيم..نخترق أفق الغسق.. نبدد رائحة الرّدى نُعد التّرتيب من جديد" (ص 18( فهي امرأة من شعاع وضاء، تسابق الريح مرفوعة الهامة ولا تنكسر.
وعندما يتقاعس الوطن عن النهوض، ينتاب الشاعرة الحزن وفقدان الأمل، تقول في قصيدة "أنفاس مضطربة":"لا فرق الآن بين نومي وصحوي فرقعة السياط على ظهري تفجّر غضبي..
واندلاع ثورة صحت لها..تبوء بالفشل" (ص 30( تغضب الشاعرة على الوطن، وتهدده، قائلة:"ولن أبكيك بعد يا وطني ما عادت، دموع في المقل يبُست العروق.. فإن متّ.. لن أسقيك من دمي.." (ص 31(
ولكنها حين تهدأ تعود لرشدها، تبرم معه عقدا جديدا، تقول في قصيدة "انطواء الظل":"أبرم معك عمرا آخر بداياته خارج أسوار الزمن مفتولة عهوده من خرافات الليل.." (ص 45( وترجع الابتسامة على الشفاه، والإيمان بقدرة الوطن على الصعود، تقول في قصيدة "أعشق فيك نفسي":"كبيرا كالأرض تدور..تقر..في عمقي شاهقا كالسماء.. تبتعد..تقترب تذوب في رسمي أعشقك..
وأعشق فيك نفسي.." (ص 32(
ويمتزج الحب والوطن، ويغدو للحبيب والوطن وجها واحدا، ففي قصيدة سعديات، تقول:"كالغيمة هاربة..وعيناك مرفئي حين يشتدّ بي الحنين أسافر إلى وطني الذي تحمل تأشيرته.. فتكون أنت موطني.." (ص 50(
وكما أشرنا إلى ذلك سابقا، فالماء يرمز إلى الولادة من جديد، وفي قصيدة عميقة ومنسابة شلال، تقول في قصيدة "رذاذ سبو"، (وسبو هو نهر كبير ذو صبيب قوي ومندفع، يعانق في بهاء مدينة لشاعرة: القنيطرة):"أحبك رغم بوار الفصول رغم جحود المطر .....أحبك رغم تصدّعي جروحي.." (ص 61(
وتضيف معبرة عن الامتزاج الأبدي مع نهر محبة الوطن الذي لا ينضب:"وأنت واقف على شرفات عمري تشهقني.. من تكون؟ وعباب العشق اصطخاب في عمقك وعمقي، يأخذني منك ويعيدني.." (ص 61(
وعلى الرغم من الوجع والألم، والعلاقة المضطربة والمضطرمة بين الشاعرة والوطن، إلا أن هذا ما تخبرنا ليس إلا عتابا بين المحبين، تقول في "سعديات":"الربيع يتنفس لون البنسفج.. بلبة تلثم شفاه الصبح.. قلبان يحتسيان العتاب..." (ص 40(
وفي النهاية تعبر عن العلاقة التي تربطها بالوطن، والتي لا فكاك منها، فهي لا تكون إلا إذا كان الوطن هو الشمس التي تبزغ فيه أشعارها، تقول في قصيدة "خضاب":"كالغيمة حين  لهطول تغسل وجعي.. تمسح كل الأرقام الباهتة.. تُطلي بياضي بسمرة الغروب لتكون أنت شروقي... عرّفني من أكون..." (ص 63(
الوطن الكبير في شعر بلكارح: ما الشعر إذا لم يكن ثمار عناقيد العنب، التي هي نتاج علاقة الشاعر مع ذاته والناس والطبيعة.
مفهوم الوطن في شعر سعدية بلكارح لا يتضمن المملكة المغربية وحسب، بل يشمل كل أقطار الوطن العربي. لذا نرى بعض القصائد المعبرة عن هذا المفهوم في ديوانها. ففي موشح "الأرض"، تخبرنا بلكارح عن العشق المتمكن في قلبها للأرض فهي رمز الكرامة والعزة، وهي لا تبال بافتداء الوطن بكل نفيس، والتضحية بحياتها من أجله إذا تعرض لاعتداء غاشم، فما على لوطن إلا المناداة لتهبه روحها، والوطن العربي الكبير هو وطنها، وهي تؤمن بذلك، وعلى استعداد للجهاد في أي أرض عربية تتعرض للغزو، لذا تقول:"أنا لم أخلفك وعدا كلّ أرض العرب أرضي إن دعتني للجهاد" (ص 75(
وللشاعرة رسالتها في الحياة، فهي تدعو إلى النهوض الحضاري للأمة العربية، النهوض الجدي عبر الجهد المضني المؤدي إلى امتلاك ناصية العلم والثقافة الراقية، لا عبر التمني والوعود الجوفاء التي لا تؤدي إلا إلى التهلكة.
ولفلسطين الجرح النازف أبدا نصيب من شعر الشاعرة المؤمنة بوحدة الأمة العربية، وإن الوطن العربي كالجسد إذا اشتكى منه عضوا، فأن بقية الأعضاء تتأثر سلبا. لذلك هي تدعو الأمة للوقوف صفا واحدا أمام الهجمة الدموية التي تتعرض لها فلسطين، والاحتلال البغيض الذي يتغذى بنار الحقد لكل ما هو عربي، وتذكر الأمة بأقدس مقدساتهم التي تستباح وتدنس، وتدعوهم لتلبية نداء الواجب للدفاع عن الأقصى الذي ينز ألما لا ينتهي، فتقول في قصيدة "لغزّة غنّيت":
"فأقصى فلسطين لا زال يشكو قروحا توالت على كل عقد". (ص 76( وغزة قطعة الأرض الصغيرة والجميلة، والتي تخسر أطفالها في الحروب الظالمة المشنة عليها، تدعوكم لأخذ الثأر، فتقول:"وذي غزة العزّ تبغي انتقاما لأرواح أكبادها دون قيد" (ص 76(
وتفخر الشاعرة بأهل فلسطين الذين يقاومون المعتدي المدجج بالسلاح والمدعوم من قوى الاستعمار، فتقول:"صناديد ساح الوغى إن تبدّوا أَسودا تراهم ببأس وجدّ هم الموت يسقون عند اللقاء فيرمونهم بين جزر ومدّ" (ص 76(
فإيمان الشاعرة رغم الأمواج الصاخبة، والرياح العاتية لا يتزعزع، إيمان ويقين إن الوطن كل الوطن سينهض من كبوته، ويسير إلى الغد باقتدار، وسيصنع مجده الآتي.
خاتمة
إن الشعر الحقيقي كما يقول أمل دنقل، هو الذي تحسه وتشعر به "عن طريق الوجدان أولا وليس عن طريق العقل. الشعر فن وصناعة في الوقت نفسه، واكتمال الصناعة لا يعني أن الإنسان صار شاعرا، وكذلك الشاعر الموهوب، فبدون أن تستقيم له أدواته، أدوات الصناعة، يصبح شاعرا غير مبين، لا يملك الإفصاح الكامل عن نفسه. فالقصيدة هي التي تكشف نفسها...". (جهاد فاضل.
قضايا الشعر الحديث. بيروت: دار الشروق. دون تاريخ. ص 357( والشاعرة سعدية بلكارح تمتلك الإحساس الصادق الذي يفيض بالعاطفة، ومتمكّنة من أدواتها، ولها أسلوبها الذي لا يشبه شيء إلا ذاتها. وإذا كان هذا الديوان باكورة أعمالها، فأنها حققت مقولة الناقد الكبير إحسان عباس، الذي يقول إن الشعر "لا يؤمن بالمرحلة الوسط ولا بالمرحلة الدنيا. الشعر لا يؤمن إلا بالتفوق. فإذا كنت شاعرا بالمرتبة الخمسين في عصرك فلست شاعرا".
جهاد فاضل. مرجع سابق. ص 178( ولا شك عندي إن ديوان "حبات المطر" سينقل الشاعرة على قمة الهرم الشعري إذا استمرت بهذه القوة والجاذبية التي لا تقاوم في شعرها المليء بالألوان والصور المبتكرة.
وأستطيع القول إذا كان نص اللذة كما يقول بارت هو: "ذلك الذي يرضي، يفعم، يعطي المرح، ذلك الذي يأتي من الثقافة، ولا يقطع معها. إنه مرتبط بممارسة مريحة للقراءة". (عمر أوكان. "لذة النص أو مغامرة الكتابة لدى بارت". الدار البيضاء: دار أفريقيا الشرق، ط1، 1996م، ص 45(
فإن الديوان قد حقق لي الشعور بلذة القراءة. وأشهد أني استمتعت بالقراءة وإعادة القراءة.