الثلاثاء  24 كانون الأول 2024

دراسة في رواية "بطعم الجمر".. للكاتب: أسعد الأسعد

2015-04-21 10:53:17 AM
دراسة في رواية
صورة ارشيفية

بقلم: أمين دراوشة

تمهيد
يتناول الكاتب في روايته، عودة شخصيته الرئيسية "زيد" إلى أرض الوطن بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، ورحلته الطويلة من بغداد إلى غزة مروراً بعمان والقاهرة. وعلى الرغم من زمن الرواية القصير إلا أن الكاتب وعبر تقنية الفلاش بالك، وتداعي الأفكار أخذنا في رحلة تمتد لأكثر من خمسة وعشرين عاماً. فعند وصوله إلى المعبر ورؤيته للازدحام، وعذابات الأطفال، يتابع طفلاً يبكي بحرقة ويصرخ بأعلى صوته، ويقلب نظره فيمن حوله، ينظر الطفل إلى جنود الاحتلال المدججين بالسلاح ويدهم على الزناد، يشهرونه في وجوه المواطنين المتدافعين أمام البوابة "ويتضاحكون بشكل هستيري مريض، كأنما يتلذذون بعذابات الناس، وذلهم.. حدّق في جنود الاحتلال.. لم يتغيروا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما..". (أسعد الأسعد. بطعم الجمر. القدس: دار الجندي للنشر والتوزيع. ط1. 2014م. ص 25)
زيد بطل الرواية، فلسطيني أبعد إلى خارج وطنه من قبل الاحتلال وبعد اتفاقيات أوسلو سمح له بالعودة، وكان قضى بضعة سنوات في المنفى، وترك خلفه زوجة وطفل "سالم" كبر ولم يتمتع في رؤيته ينمو ويشتد عوده، وهذا حال الكثير من الشعب الفلسطيني.
مرارة العودة إلى الوطن
البؤرة الأولى في الرواية هي التواجد على المعبر من الجانب المصري لبضعة أيام في انتظار سماح حواجز الاحتلال للمواطنين بالدخول إلى فلسطين. قضاها زيد برفقة صديقه القديم رمزي في النوم في بيت قديم حوله صاحبه إلى نزل صغير ومتواضع، والجلوس في المقاهي. فهناك ضغط كبير على المعبر، "والإسرائيليون كعادتهم يضّيقون على الناس". (ص35)
يعتمد الكاتب في روايته على العودة إلى الماضي وذكريات البطل، فالزمن متحرك إلى الخلف وإلى الأمام، وعبر هذه الذكريات التي يحكيها الراوي العالم بكل شيء عن شخصياته. يتذكر زيد الاحتلال الذي أفقده حبه رباب، فجنود الاحتلال أذاقوه الألم، ولاحقوه في لقمة عيشه، وحرموه من حب حياته "نعم الاحتلال طارد حبه، ومنعه من ممارسة حقه في الحب والحياة.. وهو ما دفعه إلى الانخراط في المقاومة حتى يتمكن من ممارسة حقه هذا، والدفاع عن حبه". (ص44)
وأثناء إبعاده حاول عدة مرات العودة دون نجاح. في النهاية وصل عبر الحافلة إلى المعبر، وكانت غزة على بعد أمتار منه. وكما جرت العادة عند قوات الاحتلال، كان لا بد للقادمين من الدخول على غرف المخابرات...
دخل زيد إلى ممر أحدى الغرف يرافقه جندي وآخر من المخابرات، وقبيل الوصول إلى الغرفة المقصودة سمع صوتاً يعرفه جيداً يقول له تفضل. إنه صوت الكابتن "روني" الذي لازمه سنوات طويلة، وانطبع في ذاكرته. يحدث بينهما نقاش عن ماضي زيد، ويحتد زيد عليه، قائلاً له: إن هذه فلسطين المحتلة وأنا عائد إليها وليس إلى إسرائيل. يفترقان ويظهر أن الكابتن لن يترك زيد ليعيش حياته كباقي البشر.
يلتقي زيد بصديقه رمزي على شاطىء غزة بعد أن أضاعه على المعبر، ومن حديثهما يستشف أن زيد يشعر بالضيق، وأن الأشياء في الوطن تغيرت ولم تعد كما كانت، وحتى هو قد تغير، يقول لصديقه: "ولا أدري إن كنت زيداً الذي كان هنا ذات يوم، السجن، الإبعاد، المنفى، تبدّل الأصدقاء... كونت أهلاً آخرين ثم أخيراً العودة على هذا النحو". (ص56)
ويستمر زيد في الحديث لصديقه عن صعوبة التوازن في ظل ما مر به، فالعمر قصير، ولكن السنوات الماضية مرت كأنها دهر، "كل ذلك وما تخلله، يدفعني إلى الجنون". (ص56)
يجلسان في عريشة "أبو علي" لتناول السمك الطازج، يتقدم منه أبو علي ويخبرهم إن قارب خفر السواحل الاحتلالي موجود في البحر ولا بد من الانتظار حتى يذهب ناحية الجنوب لمدة ساعة، لكي أنزل إلى البحر لعلي أصطاد ما يكفيكم من السمك. نزل مجموعة من الصيادين إلى البحر، ولكنهم تأخروا بالعودة، لذا تفاجأوا بقارب الدورية الذي لم يحذرهم بل شرع بإطلاق النار مما أدى إلى استشهاد أحدهم وإصابة العديد من الصيادين ومن بينهم "أبو علي".
في المستشفى يتعرف زيد على آراء الشباب الفلسطيني في السلام مع الإسرائيليين، فهذا علي بعد إصابة والده يقول: "يحاصروننا حتى من البحر.. إياك أن تصدقهم، إنهم كذابون مخادعون.. لا يريدون السلام.. يريدوننا أن نموت.. أنا أكرههم.. أكرههم". (ص61)
وأثناء تجواله في شوارع غزة، سمع إطلاق نار، وشاهد جيبات الاحتلال العسكرية، فأدرك إنهم لم يغادروا، وتوقف ليسمع تعليقات المارة على الحادثة، فقال أحدهم:
- أي سلام هذا؟!
- إنه سلام القوي يا عزيزي...
- يا سلام سلّم...  
في اليوم التالي، يركب زيد السيارة العمومية، وينطلق إلى رام الله، بعد أن تم التنسيق له للعبور، ويستمع إلى أحاديث الركاب حول السلام، ويتأكد أن الاحتلال لم يغادر بل هو باق ويتحكم بكل مفاصل المدن الفلسطينية، وفي حياة الشعب الفلسطيني، ويفهم عامة الشعب هذا الأمر، لذا يرد السائق على أحد الركاب الذي يتحدث عن ضرورة الالتزام بالاتفاقيات، قائلاً: "الطيّبون والسذّج فقط هم الذين يلتزمون بتوقيعهم أما هؤلاء فلا عهود لهم، وهم ليسوا طيبين وليسوا سذّجاً". (ص87)
الابن سر أبيه
يصل زيد إلى بيته، يستقبله الجميع، ويغرق في عناق ابنه سالم، وبعد دقائق، يتسائل أين رباب. يخبره أخاه زياد إنها في مستشفى "هداسا"، لأنها أصيبت بالسرطان، الذي انتشر بكامل جسدها. يوبخ الجميع على إخفاء الأمر عليه، ويصمم على زيارتها في الصباح، وهنا يتدخل الأخ ليقول له أن الأمر يحتاج تصريحا، وأن الوضع أصعب من السابق.
فالطريق إلى القدس لم تعد "سالكه كما كانت قبل إبعاده، لكنه يعرف تفاصيلها أكثر من جنود الاحتلال، ويعرف كيف يصل إلى هدفه، بعيداً عن عيون دوريات حرس الحدود". (ص96)
فهو ابن البلد، ولد وعاش أغلب سنين حياته، قبل أن يأتي الاحتلال ليطرده من بيته، لذا هو يعرف الأرض أكثر، والأرض تشعر بدفء خطواته، وثقل أقدام الاحتلال.
الكابتن روني يتبع زيد إلى أي مكان يذهب إليه، وفي المستشفى يظهر نفسه لزيد ليقول له أنا أراك.
وكان اللقاء برباب وهي على سرير المرض المميت، بدت قوية ومتماسكة، وتعرف إلى أين يقودها مرضها...
يخبره الطبيب أنها أنهت علاجها هنا، وبإمكانه إعطائها العلاج الكيماوي في مستشفى المطلع في القدس الشرقية. يرتاح زيد لهذا الأمر، ويقفل راجعاً مع رباب إلى رام الله، ويتخلل الطريق اشتباكات بين شباب مخيم قلنديا وقوات الاحتلال، وعندما يصلون إلى البيت، يجلس زيد مع فنجان قهوته ليرتاح، ويحدث نفسه عن الحياة الظالمة والقاسية التي عاشها، ورغم كل شيء بقي الوطن يجذبه بقوة للبحث عن أشياء ضائعة، ويقول مخاطباً رباب النائمة: "كل شيء تغير...الكل تغير، أنا، أنت، النّاس، المكان، الحقيقة الوحيدة الباقية ولم تتغير، الاحتلال، الاحتلال يا رباب، الكابتن روني وحده لم يتغير، لا يزال كلب الحراسة - الذي عرفته- يلاحقنا أينما ذهبنا وحيثما حللنا". (ص 121)
في الصباح ينطلق بصحبة رباب إلى مستشفى المطلع، وعند بوابة المستشفى، يهبط الكابتن روني من سيارته، قائلا بسخرية: أما زلت تذكرني يا زيد؟
يطارد الكابتن زيد في كل مكان، دلالة على أن الشعب الفلسطيني كله تحت المراقبة من قبل الاحتلال الذي يقتل ويعتقل دون رادع رغم اتفاقيات السلام المزعومة.
في الليل يجلس سالم مع أبيه، ويحدثه عن صعوبة الحياة، وعن الموت دون مقابل، وعن الأحلام... وفي الأثناء تقتحم دورية احتلالية بقيادة روني البيت، ولكن سالم يكون قد هرب عبر الوادي.
يهدد روني زيد، ويقول له على ابنك أن يتعلم من تجاربك، ويرد زيد قائلاً:
- الحمد لله...فمن شابه أباه ما ظلم. (ص132)
وعندها يسأل روني:
- أين ابنك يا زيد.
- ابني في كل مكان يا كابتن روني، انظر حولك وسف تجده، أنت مجنون، سوف يأتي يوم تلعنوا كل من كتب حرفاً في مشروعكم". (ص 133)
يؤمن زيد أن المشروع الاحتلالي إلى زوال، وكذلك ابنه مع فارق جوهري أن الابن وإن كان يشبه أباه إلا أنه أقوى وأكثر عناداً.
لذا عندما تخاطبه أمه قائلة:
- "...أبوك، كان يهرب حين لا يجد جواباً لأسئلة حاصرته، رافضاً الاعتراف بعجزه.
- أمي، أنا لست عاجزاً، ولن أهرب من أي سؤال". (ص 140)
وتخاطبه أمه، قائلة:
- "...يا بني، تعلّم كيف ومتى تسامح، ولكن قبل أن تسامح عدوك يجب أن تؤذيه إلى الحد الذي يجبره على الاعتراف بجريمته والاعتذار عما اقترفت يداه". (ص 140)
يحاول المؤلف عبر الحوار أن ينأى بنفسه عن شخوصه، ليتركهم يعبرون عن مأساتهم الشخصية بحرية، ودون تدخل منه.
فالأسرة التي تشرد رجلها، وتم إبعاده وحرم من رؤية ابنه يكبر، ومن الاعتناء بزوجته، والعيش كما يعيش الناس، لا شك أن لديها الأفكار نفسها عمن تسبب بمأساتها وجروحها. تقترب الدورية، تطالب الأم ولدها بالهرب، فيقول:
- اطمأني يا أم زيد، ما عدت أدري من منّا يطارد الآخر، نحن أم هم؟". (ص 141)
تلفظ رباب أنفاسها الأخيرة، الكابتن روني يحاول اعتقال زيد، والدته تقف حائلاً دون ذلك، يجد زيد الفرصة سانحة للانطلاق نحو الوادي، ويتماهى مع أشجار الزيتون والبلوط والصنوبر والعليق الذي يتخلل السلاسل الحجرية ويزيدها قوة وتماسكاً.
دلالة التوحد بين الأب وابنه والأرض التي تجذب أبنائها أينما كانوا، ليعودوا ليحرروها من أياب وحش لا يعرف الرحمة.