الحدث- سوار عبد ربه
"أنا الحي الميت، وأنا الحر السجين، وأنا الشاب في منتصف الأربعين وأنا الشهيد في جنتي لا خمر ولا حور عين، آمنت أن مؤبدي لم يبدأ بعد، وسمائي برق ورعد، وأنا أمي توقفت عن العد، وأن أبي مات مقهورا لا صلاة ولا عزاء ولا مشيعين، آمنت بخضرة العشب ولذة الشرب، ودهشة الحب، وروعة الرب، وأن وعودي ماء وظلي فضاء، وأن تغريبتي ترنيمة الأسرى وصلاة اللاجئين، آمنت أن فقري غنى وعزوبتي اشتياق ويتمي شظية وأن الذي يأخذني إلى أبي ليلا براق، وأنك يا أمي إذا متي قبلي تخونيني"، بهذه المقدمة المقتبسة من رواية الأسير ناصر أبو سرور، بدأ وزير الأسرى السابق عيسى قراقع مداخلته في ندوة لمناقشة رواية حكاية جدار، والتي جرت بالأمس في متحف محمود درويش برام الله.
يقول قراقع إن أبو سرور عرف نفسه في روايته الصادرة عن دار الآداب والتي رشحتها لجائزة البوكر للرواية العربية عن قائمة إصداراتها للعام 2022-2023، بهذه الطريقة.
ويردف: هذه الرواية تجمع بين السيرة الذاتية والتوثيق التاريخي والمشاعر الإنسانية الكونية، وبإيقاع جمالي أدبي وهي في النهاية قصة حب فيها من الفلسفة والتأمل والوجدانيات والفكر والتساؤل ما يجعلك لا تصدق أن الذي كتبها أسير فلسطيني محتجز منذ ثلاثين عاما خلف القضبان.
ويرى رئيس المكتبة الوطنية أن الجدار الذي هو أصل الرواية، ليس في السجن فقط بل في كل مكان، ماديا وثقافيا، فالجدار في الوعي والعقل، إنه سياسة الاستسلام والعجز الذي تجعل هذا الوطن يتسرب من بين أيدينا شيئا فشيئا لنصبح كلنا سجناء.
وتأخذك الرواية من الخاص إلى العام، الأسير الفلسطيني يصارع الجدار، الاحتلال، الظلم والقهر، الجدار يتقرب شيئا فشيئا، يرفض الأسير ناصر أن يمتصه الجدار، أو يصبح قطعة منه، ويرفض أن يكون متكاسلا أو متبلدا بلا تاريخ وذكريات، بلا صوت ومكان وزمان وأحلام، يرفض أن يصبح مجرد شيء، وفقا لقراقع.
والأسير ناصر أبو سرور، مولود في 16 تشرين الثاني 1969، وهو من عائلة مكونة من خمس شقيقات وثلاثة أشقاء.
واعتقل في الرابع من كانون الثاني عام 1993، وحكم عليه الاحتلال بالسجن مدى الحياة، وخلال سنوات اعتقاله فقد والده، وتمكن من استكمال دراسته داخل الأسر، حيث حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية، ويقبع اليوم في سجن "هداريم".
وشارك في حفل إطلاق الرواية كل من الأكاديميين في جامعة بيرزيت أميرة سلمي وعبد الرحيم الشيخ، وأداره وزير الأسرى السابق عيسى قراقع.
من جانبها، قالت سلمي في مداخلتها إن ناصر لا يطرح الرواية باعتبارها روايته، بل هي رواية الجدار الذي هو أسره هو مكانه وزمانه بعد الاعتقال، وجوده وحياته، وهو مجرد شاهد بين مجموعة من الشهود، على حكاية الأسر التي لا يمكنها أن تكون حكاية واحدة، بل عدة حكايات وعدة روايات ولكنها تبقى جميعا حكايات الجدار ذلك الحد الذي عنده تنفصل حياة الأسير عما قبلها وما بعدها، ولكن في الوقت نفسه حكاية الأسير عندما يعيد الجدار روايتها.
وتتابع: ناصر يروي قصة ذات رفضت أن تعيش حياة مغتربة عن ذاتها، هي قصة ذات تمردت وعملت على استغلال كل ما هو متاح أو يمكن أن يصبح متاحا من الحريات، والتي تتمثل بالأساس في إمكانية التمرد على الحدود، على رفضها والقفز عنها كحدود، وكذات رفضت أن تتحول إلى ذات مغتربة قاوم ناصر الخذلان واليأس والتشاؤم، وتمسك بالأمل والإمكانيات اللانهائية بتجاوز حدود المعرفة والحقيقة ناصر يصف الروايات بما فيها تلك الوطنية والمقاومة كأكاذيب، لكنها بمقاييس الحقيقة المعرفية أو المدركة وليست أكاذيب بمقاييس الإيمان بما هو لا نهائي.
يسلم ناصر بضرورة الإيمان باللامعقول واللامنطقي حتى يبقى الفلسطيني موجودا ومقاوما، ويكتب عن ضياع قضية الأسرى، ودفن أصواتهم تحت صوت ضجيج هؤلاء الذين بحثوا عن رواية صغيرة ومجزوءة في كذبهم، وفقا لسلمي.
وبحسب الأكاديمية في جامعة بيرزيت "الانتفاضة كما يقول ناصر حولت المهمشين إلى آلهة، ولكن ألوهيتهم لم تكن وهما بل هي ألوهية تنزف وتموت ولكن في موتها استمرار وحياة وحرية، كانت مكذبا لكنها كانت أيضا إيمانا بإمكانية فلسطين ولا نهائية النضال من أجلها، إيمانا بضرورة النضال وعدم كفايته بأن في توقفه موت وفي استمراره حياة".
وتطرقت سلمي في مداخلتها إلى انتقاد ناصر لاتفاقية أوسلو التي رأى فيها كذبة صغيرة ورواية مجزوءة على عكس روايات النضال، لأن ما جاءت به لا يشبهنا، ولا يشبه مشروعنا فهي ليست مشروع الفلاح أو العامل، أخلاقها وقيمها غريبة لا تتوافق مع ما يلزم لبناء رواية يؤمن بها الفلسطيني ويكتبها بنضاله.
وترى الأكاديمية أن أوسلو أغنية لا بحر فيها حدودها ضيقة ولا تتسع لأحلام وآمال بالنسبة لأسير المؤبد، ولمن يستمر بروايات تقوم على إيمان لا نهائي ولا معقول، لا يمكن لشبه رواية كرواية أوسلو أن تكون رواية قابلة للتصديق، فأوسلو لم تجزئ فلسطين فقط، بل جزأت ناسها ومناضليها وناصر من هؤلاء الذين كانت روايتهم عميقة في سردها.
بدوره، اعتبر الأكاديمي في جامعة بيرزيت عبد الرحيم الشيخ أن كتاب ناصر هو سيرة ذاتية في رواية، تنقلنا من أمل الثورة إلى خذلان السلطة، أما الجدار فيبدو اسما حركيا لناصر أبو سرور، بعد أن لم يعد للأسماء الحركية جدوى، حيث يقول في سجني جداري أنا وأنا الجدار، وهذه أشيائي وتلك أسماؤها، هذا موجز الرواية الأول، رواية ناصر عن نفسه، أما السيرة تتكون من جزئين الأول: أنا ربي وضيق المكان، والجزء الثاني أنا قلبي وضيق المكان.
ويرى الشيخ أن هذه الموازاة بين الرب والقلب لها دلالاتها ولها ثاراتها، حيث يبدأ الثأر الأول من المخيم، وهو خطيئة إسرائيل الكبرى، في حين أن الثأر الثاني يبدأ من السجن، ويكتمل الثأران بالخوف الدائري الذي يواسي به ناصر أبو سرور نفسه حين يعود إلى نفسه، وفي آخر الفصل يتحدث ناصر أبو سرور عن تصالح ما بين هذين التناقضين من خلال الحديث عن الولادة مرتين، مرة في المخيم ومرة في السجن.
ووفقا للشيخ فإن ناصر أبو سرور نشر سيرتين في سيرة واحدة، الجزء الأول هو سيرته الذاتية والثاني هو مجموعة من الرسائل الغرامية مع محامية وقع بحبها، وانتهت بالفراق.
وتطرق د. عبد الرحيم الشيخ إلى محطات الخذلان التي كتب عنها ناصر وهي: خذلان الثورة لأبنائها، خذلان المخيم للاجئين، السجن والمرأة، معتبرا أنه في بداية السيرة ونهاياتها يتقمص ناصر أبو سرور دور الفيلسوف، وينهل من معرفة بوذية وصوفية وهي التخلي والتجلي.
كما يشير الشيخ إلى التهم التي يوجهها ناصر في روايته، والتي قسمها إلى المخيم، السجن، المرأة، فالمخيم بالنسبة لأبو سرور هو جغرافيا الألم، باستثناء لحظة واحدة هي انتفاضة الحجارة، حين تحول أطفال الخذلان من مؤمنين بالثورة إلى أنبياء، الذين يتحول نسلهم إلى آلهة، فالمخيم الذي أخذ حياة الفلسطينيين استعاد عافيته وأخذ بثأره في إنتاج جيل كان المخيم والقرية والمدينة وكافة فلسطين بحاجة إليها.
ووفقا للشيخ كانت التهمة الثانية هي السجن، الذي قسمه أبو سرور إلى مراحل تدرج في الحديث عنها، ابتداء من اعتقاله عندما لاقى حديد البنادق، ووحوش الحديد جبينه في لحظة الاعتقال إلى تفاصيل السجن، والاعتراف والانشغال بالجدار، وصولا إلى الشهيد الأسير فارس بارود المحتجز جثمانه في ثلاجات الاحتلال إلى حين انتهاء محكوميته فبارود كان قد التقى أبو سرور في "البوسطة" ولأجله أكمل الأخير الكتابة.
التهمة الكبرى التي يقولها ناصر أبو سرور والتي يذكرنا بها دوما بحسب الشيخ: هي عدم إدراكنا لمعنى الجدار، الذي يلجأ إليه الإنسان ويتحول إليه ويؤنسه، حينما يفقد كل مرجعية للثبات.
وفي مقطع من الرواية كتب أبو سرور: سأكمل الحكاية من أجل فارس بارود وكل الذين سبقوه من فرسان، وآخرين لم يترجلوا بعد، وغيرهم لم يتقنوا فنون الجدار، مهارات التعلق ونجاة الانتصار، لم يتعلموا منها أو يستقوا منها عبرا ودروسا، فلكل جدا حكايته وصاحب يرويها، ولكل صاحب عالم وفضاء ضيق له أبجدية وأشباه أشياء وأشياء أخرى اكتملت، وله وجع وانتظار، وله حق الرواية.