الأحد  22 كانون الأول 2024

إرث محمود درويش الشعري.. تمثيله وتأويله في الماضي والحاضر

2022-12-06 01:23:26 PM
إرث محمود درويش الشعري..  تمثيله وتأويله في الماضي والحاضر

الحدث- سوار عبد ربه

اختتمت مؤسسة "عبد المحسن القطّان"، السبت الماضي، فعاليات مؤتمر "محمود درويش: سردية الماضي والحاضر"، الذي أقامته بالتعاون مع "كرسي محمود درويش الثقافي والجامعي" - مؤسسة "بوزار" (BOZAR) من بلجيكا، ومؤسستي "موسيم" (MUCEM) و"كمارجو" (CAMARGO) من فرنسا، و"مؤسسة محمود درويش"، واحتفت خلاله بالشاعر الراحل (1941-2008) على مدى 3 أيام.

وشكلت الأوراق المقدمة للمؤتمر احتفاءً بأعمال درويش وتفاعلها مع راهنها الأدبي والفكري والسياسي الحديث، كما استكشفت أثرها الأدبي العالمي، والتوترات التي صاغت لغة درويش، وظلت تتأرجح في أذن سامعها، كما تأرجحت من قبل في حنجرة شاعرها، بين المعنى والهباء، وبين المأساة والغنائية، وبين الفرد والجماعة، وبين الخاص الفلسطيني والإنساني العام. كذلك، تطرق المؤتمر إلى إبداع درويش بوصفه شخصية ثورية رمزية، ووطنية، وعربية وقومية، ومرجعا أساسيا للشعر الحداثي بشكل عام، والملتزم منه بشكل خاص.

وبحث المؤتمر في كيفية توظيف إرث محمود درويش، وتمثيله، وتأويله في الماضي وفي الحاضر، والتفت إلى نقد التوظيف المنهجي لدرويش ونتاجاته، وإلى تأطيره الأبوي، وهو الأمر الذي أدّى إلى تهميش وإسكات الأنواع الشِّعرية والأجناس الأدبية الأخرى التي يُدّعى ابتعادها عن الالتزام بالفعل السياسي.

كلمات افتتاحية- اليوم الأول

افتتحت الإعلامية نضال رافع المؤتمر بكلمة قالت فيها: "إن عقد مؤتمر يتسيده شاعر القرون درويش يعني أن الشعر ينتصر به، ومعه ويعلو بكل قيمة إنسانية أو نضالية بشر بها شعره أو حملها، وأحسبني في هذا المقام أنادي لكي يكون للشعر وأسمائه ورموزه فضاءات لكي تصبح لغتنا شعرا، لكي نصرخ بعدها بأننا وضعنا قدمنا على طريق الخلاص والانتصار والجمال".

وتلت افتتاحية رافع، كلمة قدمتها مدير عام مؤسسة عبد المحسن قطان فداء توما قالت فيها إن محمود درويش كتب في افتتاحية العدد الأول للكرمل شتاء  1981: "هذا الانهيار الشامل ليس انهيارنا، ليس انهيار الإبداع والأمل، ولا هو انهيار فلسطين، الصراع والمعنى والمستقبل"، مموضعا الثقافة كفعل ينحت حجرا في حجر الطريق إلى الجبل، الآن وبعد 40 عاما وانهيارات متوالية نتوقف لنسأل ونتساءل عن ماهية الثقافة ودورها، وفيما يركز درويش وإرثه الذي أنتجه وأُنتج عنه وله، فإن الحديث عن أيقونة مثله يتخطى بالتأكيد شخصه، ليحلل الفعل الثقافي ودور المثقف بشتى تعريفاته خلال الأزمنة، وربما الانهيارات المتعددة".

بدوره، قال مدير عام مؤسسة محمود درويش فتحي البس، في كلمته الافتتاحية عن الراحل محمود درويش: "روحه ترفرف في سمائنا فقد عاش فينا ولا نزال نعيش معه نتذكره ومعنا كل أحرار هذا العالم رسولا للإنسانية حاملا للقيم العظيمة مبدعا شعرا ونثرا عابرا للحدود متجاوزا الجغرافيا الضيقة إلى فضاء العالم الواسع، صوته يرتفع ألحانا تعبر عن هموم شعبه الفلسطيني وهموم الإنسان حيثما كان، مستلهما التاريخ وتجارب الشعوب وأساطيرها ورموزها ومراحل حضارتها موظفا كل ذلك لإدانة الاحتلال مبشرا بعودة الحق لأصحابه مهما طال الطريق وعظمت الصعاب".

محمود درويش الإنسان

وفي ختام الكلمات الافتتاحية قدمت المؤسس والرئيس الفخري لكرسي محمود درويش في بلجيكا، ليلى شهيد، مداخلة عن الجوانب التي نجهلها في حياة الراحل، مركزة على الجانب الإنساني عنده.

واختارت شهيد أن تبدأ مداخلتها بقصيدة "لاعب النرد" التي حدد فيها درويش الصفات الأساسية بحياته الخاصة، في سنواته الأخيرة.

وتطرقت شهيد صديقة درويش الحميمة إلى بعض صفات الراحل من خلال سردها لبعض القصص الحقيقية التي عاشتها وإياه، والتي كشفت عن شخص خجول، ماهر في الطبخ، محب للحياة، كسول، لا يهتم للعالم الاجتماعي، يفضل الوحدة، عدد أصدقائه قليل، ولا يغادر منزله قبل الظهر.

"رثى نفسه بنفسه"

وبدأ المؤتمر بمحاضرة افتتاحية قدمها الكاتب إلياس خوري، تطرق فيها إلى موضوع الرثاء، وخلصت إلى أن درويش كان قد رثى نفسه بنفسه وكان أكثر دهاء من أن يترك لنا هذه المهمة، فبحسب خوري، من يريد أن يرثي درويش، يستخدم كلماته، وبذلك يعتبر الشاعر العربي الثاني الذي يرثي نفسه بنفسه بعد مالك بن الريب.

واعتبر خوري أننا لم نرثِ محمود درويش مثلما يليق به وبنا، وإنما حولناه إلى أيقونة وضريح، وتناسينا موته وألم المعاناة وعذابات المستشفى الذي استعاد عبرها عذابات السجن، كما نسينا الموت لحظة حدوثه فالمهرجان استولى على طقوس التشييع ولم يسمح لنا بالبكاء.

وبحسب الكاتب، فإن محمود درويش كان وحيدا كشاعر المرثية الأولى لكن وحدته كانت مكتظة بالآخرين، شاعر القبيلة الذي كأنه كان في صراع مع شاعر الرؤيا الذي صار عليه، وفي هذا الصراع صار النثر شعرا، والشعر نثرا، فالشاعر هو الحائر بين الشعر والنثر، مثلما كتب في مرثيته، لذا صار شعره كالنثر ونثره كالشعر.

بدأت الجلسة الأولى بمداخلة قدمها الناقد والمترجم صبحي حديدي بعنوان "الإفصاح الغنائي والمسند الملحمي" بين فيها 5 أنماط للإفصاح الغنائي عند محمود درويش، و5 أنماط أخرى أطلق عليها اسم المسند الملحمي.

فكان النمط الأول لقصيدة درويش الغنائية وفقا لحديدي أنها قصيرة نسبيا أو قصيرة أحيانا كما في مجموعة "ورد أقل" معتبرا أن درويش كان يغالب كثيرا إذا كان النص قصيرا لأنه شاعر مدى فسيح ويجد راحة في القصيدة الطويلة التي تفرش أكثر من مهات واحدة، وبالتالي مغالبة الذات في القصيدة الغنائية عند محمود درويش كانت واحدة من العتبات الحداثية التي برز فيها، وفي الآن ذاته كان يحاول التملص من واجباته تجاه الألقاب التي أطلقت عليه في أنه شاعر سياسي أو شاعر المقاومة.

أما النمط الثاني فكان طغيان ضمير المتكلم، حيث أوضح حديدي أن غالبية القصائد الغنائية عند كبار شعراء العالم حينما يذهبون إلى الغناء لا بد أن يطغى فيها ضمير المتكلم، ولكن البراعة عند هذا الشاعر أو ذاك هي أن يطغى ضمير المتكلم على الحوار مع الآخر، فالعلاقة بين ضمير المتكلم في القصيدة الغنائية عند درويش والعالم الخارجي، كانت معادلة حوارية برع فيها.

أما النمط الثالث فهو اتكاء القصيدة الغنائية عند محمود درويش على الفعل، موضحا أنه يعطيه مرونة في تركيب المعمار الإيقاعي للقصيدة، وكان يتيح له إقامة ما يشبه التعاقد مع القارئ حول بؤرة شعورية مكثفة تجعل القارئ جزءا مما يقوله الشاعر وتورط القارئ في الدخول إلى هذه البؤرة الشعورية الكثيفة بما يجعل القارئ نفسه يغني داخل القصيدة مع الشاعر، وأحيانا يتجاوز الشاعر في الغناء وهو يقرأ ويعيد كتابة القصيدة كما يحلو للقارئ أن يقرأها.

أما النمط الرابع فكان أن درويش يجمل حكاية التركيز العالي وهذه البرهة الكثيفة مع فارق أنها هذه المرة لا تتوجه إلى قارئ مفرد أو ضمير مخاطب  ولكن تتوجه إلى آخر عابر لمفهوم الضمير المتكلم، إلى آخر أقرب إلى الجموع، وبالتالي أقرب إلى الشعوب.

وفي الجزء الثاني من ورقته تحدث الناقد عن المسند الملحمي الذي عرفه على أنه "تحميل ركن على آخر بما يفيد الاكتمال".

وقسم حديدي المسند الملحمي إلى 5 أنماط متطرقا إلى ثلاثة منها فكان المسند الأول هو الديناميكية التعايشية ما بين المتكلم وما بين مخاطبة الجموع، أما المسند الثاني؛ فمحمود درويش من جانب أول لديه هذا الإلحاح الشديد في داخله كي يغني وكي يستعرض مهارات الإيقاع لديه، ومن جهة ثانية هو شاعر حاول كثيرا أن يروض خضوعه للمصير الآخر (القضية العامة) فهو كان أقرب إلى مداواة الجرح النرجسي العربي، وهذا كان هاجسا أساسيا جعل الحوار بين الضمائر وجعل المسند الثاني يتخذ صفة المغالبة.

والمسند الثالث هو حكاية السعي إلى فصل المكان عن طبائعه الجغرافية، بعد إشباعه ثم الانتقال به إلى مكان آخر هو أقرب إلى حاضنة التفاعل ما بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب والجموع والحشد.

وختم حديدي مداخلته بالقول: "إذا كان مشروع درويش الشعري تراجيديا في الجوهر لأن "وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أي تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآن"، فإن الغنائية الملحمية هي السمة المركزية في هذا المشروع، وإنه في نهاية الأمر المشروع الوحيد الذي يليق بشاعر ألقيت على كاهله أثقال الوجدان الجمعي لأمة بأسرها".

وضمن ذات الجلسة قدم الكاتب والناقد حسن خضر مداخلة بعنوان: "محمود درويش: محاولة لتحليل أيقونة، وشهادة عن قرب" تطرق فيها إلى ما أسماه زمن محمود درويش، وقال في مدخل للحديث عن معنى الأيقونة: "إن زمن محمود درويش يتجاوز أن هناك إنسانا كان اسمه محمود درويش، ويتجاوز ما أنجزه، فزمانه هو زمن صعود الحركة الوطنية الفلسطينية، وزمن ركوب الفلسطينيين لقاطرة التاريخ، زمن هرب الأمريكيين من فيتنام عن سطح السفارة، وزمن حركات التحرر القومي في كل مكان من العالم".

وأضاف: "محمود درويش كان أحد التجليات لهذا الزمن، ولهذا عندما نفكر في زمن محمود درويش نفكر في أنفسنا، وفي السيرة الذاتية التي يمكن لكل شخص أن يتكلم عنها، كما أن هناك عددا لا يحصى من الفلسطينيين أنشأوا علاقة مع محمود درويش دون أن يروه، وهذا أيضا يمثل جزءا من السيرة الذاتية".

وعرف خضر الأيقونة على أنها شخص أو شيء له تأثير أو أهمية في مجال ما، معتبرا أن هذا أفضل تعريف علماني عملي لمعنى الأيقونة.

وعرج الكاتب في مداخلته على أنه يوجد اعتماد كامل من الحقل الثقافي على الحقل السياسي ولذلك فإن فكرة الأيقونة إذا تخيلنا نظريا أن اليمين الفلسطيني تمكن من الاستيلاء على الحركة الوطنية بالكامل لن يكون هناك لمحمود درويش مركزية بسردية اليمين خاصة الديني، معتبرا أن فكرة الدفاع عمن هو محمود درويش يجب ألا تنفصل عن فكرة أنه كان جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية.

أما الشاعر زكريا محمد فقدم مداخلة بعنوان "الشعر كنتاج جماعي في لحظة محددة من تاريخ الشعب الفلسطيني" عرج خلالها على طريقة كتابة الشعر بين الماضي والحاضر، مبينا أنه في الماضي أي فلسطين عام 1948، كان للجمهور وللحلقة المثقفة دور كبير في إنشاء الشعر وخلقه.

واتخذ الشاعر من قصيدة "بطاقة هوية" المعروفة باسم "سجل أنا عربي" النموذج الأساسي لتبيان دور الجمهور في صياغة الشعر، حيث قال إن درويش لم يكن مقتنعا بها كقصيدة، وتردد قبل قراءتها على الجمهور، الذي بدوره ألح عليه أن يقوم بذلك، وتفاعل معها بشكل كبير، وبهذا يكون الجمهور قد أقنع درويش بأن قصيدته قصيدة، ما يعني أن الجمهور في تلك اللحظة كان هو من يحدد ما هو شعر وما هو ليس بشعر.

وأوضح الشاعر أن هذه كانت لحظة شديدة الخطورة في مسيرة محمود درويش الشعرية وفي مسيرة الشعر الفلسطيني لأنها كبلته وحملته مهمة أن يقنع جمهوره أن له الحرية في أن يقول أعلى مما يريدون منه، وأن له الدور الحاسم في بناء الشعر وليس لجمهوره، لذلك ظلت علاقة محمود درويش بجمهوره على مدار عقود علاقة صراع.

ورغم ذلك أكد محمد أن صفقة ظلت بين درويش والجمهور، وفي كل مرة كان يعارك الجمهور ويأخذ حرية أوسع من التي قبلها، وفي هذا الصراع كان يجر الجمهور إلى مناطق أعلى وأعلى من ناحية الذوق، أي أن العراك كان ينتهي برفع ذائقة الجمهور.

وفي مثال آخر، تطرق الشاعر إلى ديوان عاشق من فلسطين، وكيف أن النخبة المثقفة التي كانت حول محمود درويش كان لها دور في تسمية الديوان، الذي أطلق عليه درويش في بداية الأمر "غيوم على المرايا"، الأمر الذي لم يرق لمن حوله، فاقترحوا تغيير الاسم، أي أن هذا الديوان كان صناعة جماعية ولم يكن محمود درويش هو المتحكم الوحيد فيه.

الجلسة الأولى- اليوم الثاني

انطلقت الجلسة الأولى من اليوم الثاني التي أدارتها الباحثة المختصة في علم الاجتماع السياسي هنيدة غانم بعنوان "قوالب صوتية درويشية" قدمت فيها المؤرخة ديانا عباني مداخلة بعنوان "في العودة إلى قصائد محمود درويش المغناة وعلاقتها بالناس: ما بين تبنيها ونبذها".

وقالت عباني إن ورقتها تبحث بدور الرمزية السياسية بالأغاني، وإنتاج هوية وطنية وجندرية، كما تجادل أن للموسيقى دورا عاطفيا وجماليا منفتحا على الحياة، ومختلفا عن البعد الذي من الممكن أن تتركه الكتب أو القصائد أو النصوص فينا، فهي ترتبط ما بين الخاص والعام وتساهم في تشكيل الثقافة العامة الاستهلاكية، كما أنها تحشد الناس.

وفي ورقتها عالجت المؤرخة قصائد محمود درويش المغناة كجزء لا يتجزأ من صنع هوية للعديد من اللبنانيين خلال فترة السبعينات والثمانينات، مركزة على الثنائية التي جمعت بين محمود درويش ومارسيل خليفة، بالإضافة إلى التغييرات التي طرأت لاحقا على الثقافة اللبنانية والتي أدت إلى نبذ هذه الأغاني عند البعض بيومنا الحاضر.

وأوضحت عباني أن بيروت التي أصبحت في لحظة ما عاصمة لمنظمة التحرير الفلسطينية ومكان انطلاق لمحاربة النظام الدولي الإمبريالي، وما كانت عليه من أهمية كونها كانت حلقة وصل بين الشرق والغرب، صارت في قصيدة محمود درويش نجمة، وخيمة المناضلين الفلسطينيين.

كما تطرقت عباني في مداخلتها إلى التعاون بين الموسيقيين والشعراء آنذاك كون بيروت استقبلت العديد من المثقفين العرب الذي ساهموا في تشكيل وعي ثوري ضمن نضال التحرير الفلسطيني، معتبرة أن محمود درويش كان من أكثر الشعراء الذين اعتمد شعرهم في الأغاني السياسية اليسارية بسبب المواضيع وجمالية الشعر ومركزه كشاعر.

وبينت عباني أن هذه الأغاني أسهمت في توسيع شعبية محمود درويش ومركزيته لأنها تمكنت من إيصال شعره لشرائح مختلفة من الناس، لكن من جهة أخرى، اختزلت بعض قصائده المعاني المركبة التي كانت تحملها بشعارات صغيرة بقيت في الذاكرة الجماعية والثقافية.

وعرجت على قصيدة تل الزعتر التي كانت نموذجا للموسيقى الملتزمة ونجاحها في لبنان بتلك الفترة كما تحدثت عن أول ألبوم لمارسيل خليفة عام 1967 الذي شمل 4 أغاني من أصل 5 معتمدة على محمود درويش، وشددت هذه الأغاني على أن النضال عابر للحدود، ويتحدى مفاهيم الخطاب اليميني والدولة اللبنانية الرسمية، حيث استعملت هذه الأفكار للتأكيد على عروبة لبنان، وفي الوقت نفسه للتأكيد على البعد الإنساني والأممي.

وأثارت هذه الأغاني الجماهير من خلال أغانٍ محمسة تعزز رومانسية وصور الوطن والنضال وحتمية المستقبل وبطولة الفدائي والمهمشين، وتمحي ذاتية الفرد، عبر تعزيز الجماعة والهويات الجماعية.

وفي ختام مداخلتها عرجت المؤرخة على النقد الذي طال هذه الأغاني لما تحمله من خطاب قومي عربي متخيل لا يرى أي انقطاع بعد أكثر من 5 قرون على سقوط غرناطة ويحدد العروبة ويقصي الشعوب غير العربية كالأكراد والأمازيغ وغيرهم ولا يذكر مساهمتهم في بناء ماضي المنطقة.

وقالت عباني إنه بعد أكثر من ثلاثة عقود على الأغاني، البلاد انسحقت تحت الديكتاتوريات والأنظمة العربية التي استخدمت هذه الأغاني والقضية الفلسطينية لتأكيد القمع وإضفاء شرعية على أنظمتها وتاريخها، ما أحدث نقدا أكثر لهذه الأغاني وتمجيدها للعسكري والزعماء دون تقديم مشروع تربوي أو مجتمعي أو ثقافي بعيدا عن الأبوية أو الفردانية أو تشكيل وعي حقيقي حول قضايا الحريات.

وضمن ذات الجلسة قدم الكاتب روجيه عوطة مداخلة بعنوان: " تصويتات محمود درويش" قارب فيها تصويتات محمود درويش، متوقفا على ما يعنيه في التصويت والتصويت القصائدي تحديدا، وهذا بالاستناد إلى مقاربة الصلات بين الصوت والشعر، منطلقا من فكرة أن الشعر باعتباره خوضا في اللغة، هو بداية خوض لكلماتها بما هي مواد صوتية. خوض هذه الكلمات-المواد الصوتية يعادل الإنصات إليها بطريقة محددة، مفادها أن الإنصات إلى أي كلمة، وكمادة من ذلك القبيل، تحيل إلى غيرها. وبإحالتها في المحصلة تؤدي إلى ربطهما، الذي يؤدي إلى القصيدة، أو إلى ما يمكن تسميته، أوليا، المنشأة الشعرية. كلما صار الإنصات على اقتداره، وكلما أدى إلى ربط المواد الصوتية، يجعلها على إيقاع، وفي نهايته، وقعها حيال بعضها البعض، وبهذا، تغدو منشأتها قصيدة.

وخلص عوطة إلى  تحديد التصويت القصائدي بهذا الشكل: إنصات الشاعرات والشعراء إلى الأصوات في اللغة، اللقاء بها، وإلقائهاـ وبطريقة أخرى، هو حضور أصوات في القصائد، التباس هذه الأصوات مع أصوات الشاعرات والشعراء في المحل ذاته، ونهاية، تلفظهم بها لكي تخرج من لغتها إلى مكان بعيد للغاية، أي إلى لغتها.

وحول التصويت في تجربة محمود درويش، استند عوطة إلى جداريته، لا سيما أنه في أثنائها هو يبحث عن مدينة الموتى، وهذا هو خوض للغة بما هو إنصات لسكان تلك المدينة إلى أصواتهم على سبيل التقدم صوبهم وإيجادهم، كما لو أن مدينة الموتى التي يستفهم درويش عنها تقع في اللغة ذاتها، وما عليه سوى أن يجد سبيله إليها من خلال سماع الأصوات التي تجيء منها.

وتابع: "لا بد من التخيل قليلا هنا: درويش يسير ويسمع كلمات هنا وعبارات من هناك على أساس كونها مواد صوتية تحيل إلى بعضها البعض وأولها على جداريته هي "وأطير" بحيث أنه يصف ذهابه إلى مدينة الموتى بالطيران، بيد أن "وأطير" سرعان ما تغدو "وأصير"، وبهذا يتحول الطيران إلى صيرورة، ومعه يتحول إلى ذهاب لتلك المدينة، فأن يمضي درويش إليها في لغته يعني أن يصير، وبذلك تكون صيرورة درويش هي صيرورة فكرة، وبهذا السياق بالذات يسمع درويش وعلى متنها: "كون ما يصنعني هو نفسه ما يصرعني" فالصانع هو صارع".

وأردف: "اللغة التي ذهب درويش فيها وهو يسمع داخلها هي شكل له، وبالتالي خوض درويش لهذه اللغة هو خوض لذلك اللانهائي والاثنان يصنعا ويصرعا، كلما سمع صوتا فيهما فأحاله إلى غيره ورد عليهما هو ينصنع وينصرع على حد سواء، فلا يمكن لهذا الصوت أن يصنعه بلا أن يصرعه لا سيما أنه وحياله يجعله على صيرورة، فصيرورة الفكرة هي صيرورة صوت أيضا". 

وفي ختام الجلسة الأولى قرأت المديرة الفنية لمسرح عشتار إيمان عون رفقة الموسيقي خليل البطران نصا للأديب والشاعر سليم بركات كتبه في تموز 2012 ونشر في مجلة القدس العربي بتاريخ 6 حزيران 2020، بعنوان "السر- محمود درويش وأنا" وفي حينها أثار جدلا واسعا لأنه أفشى سر أبوة الشاعر الراحل لطفلة من امرأة متزوجة. 

الجلسة الثانية- اليوم الثاني

انطلقت الجلسة الثانية من اليوم الثاني التي أدارها الأكاديمي علاء العزة بعنوان "درويش في المكان: معانٍ للخواء وفصائله"، وقدم الكاتب والمترجم عبد عزام مداخلة بعنوان" فلسطين المكان: أفق الرؤية في الكناية الشعرية عند درويش" بدأها بعرض لمفاهيم فلسفية لمفهوم المكان.

وعرض عزام كيف أن الشاعر الراحل في ثلاث قصائد مختلفة يخاطب الآخر في معناه الفردي والجمعي غائبة عن المكان، ولا يعني الغياب هنا غيابا ماديا أوليا بالضرورة بقدر كونه غياب السيادة، بمعنى فقدان القدرة على التواصل المباشر مع المكان وأشيائه وذلك بحكم انتصار الآخر الغريب، على الأنا الغائبة.

وتابع: "إذن تخرج الأنا من المكان على الأرض وفي القصيدة ويدخله الآخر فاتحا فيما يظل المكان بأشيائه وبما يحويه كما هو كل شيء يظل على حاله".

وأردف: "باعتبار حالة الغياب هذه عن المكان قد يظل المكان قائما من ناحية بقائه مؤثثا بما يحويه من أشياء ولكنه يختفي حتما من ناحية غياب الأنا عنه، وهي الأنا القاصدة بصفتها صاحبة الأشياء فيه، لا وجود للمكان بدون وجود الأنا، وغيابها القسري عن المكان يجعل المكان يختفي، باختصار حضور الأنا في المكان هو الشرط لحضور الثلاثة، المكان، والأشياء والأنا المشينة".

من جانبها، قدمت الباحثة المختصة في علم الاجتماع السياسي هنيدة غانم مداخلة بعنوان "في مفهوم الظل وأطياف المكان في شعر درويش" تطرقت فيها إلى الظل مجازا وكناية ومعنى مبعثرا متعددا متناقدا لكنه يشكل معا فسيفساء سردية كاملة عن هذا الوطن، إلى جانب الخيال وتمظهراته في حواريات درويش الوجدانية.

وعرفت غانم الظل على أنه تلك المنطقة المظلمة التي تتشكل إثر اعتراض مصدر الضوء لجسم ما، فيتكون على صورة الجسم الذي حجبة بعد أن ينفض عنه تفاصيله، أي أن الظل في طوره الفيزيائي الأول قبل أن تأخذ بيده لغة الشاعر أو حكمة الفيلسوف، ولد من التعثر وتشكل في اللقاء المرتبك بين الضوء والحاجب بين النور والساتر، ولد من لقاء الاثنين وأخذ منهما صفاته، لذلك فإن الظل في صرخته الأولى تشكل كتراجيديا أصيلة ضوء مفرغ من نور أمه، وملامح أبيه، فكان كما جاء في لسان العرب لابن منظور ضوء شعاع الشمس دون شعاع.

وفي الأعمال الأدبية أوضحت الباحثة أن الظل يحمل معان متناقضة ومختلفة، والشعر يكتب في ظل الكلام التي تصيغ من أجله من جديد حدود شاعريته وتوسعها، والظل كما كتب محمود درويش:

"الظلُّ، لا ذَكَرٌ ولا أُنثى
رماديٌّ، ولو أَشْعَلْتُ فيه النارَ...
يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ
كُنت أَمشي. كان يمشي
كنت أَجلسُ. كان يجلسُ
كنت أركضُ. كان يركضُ
قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ
قلَّدني، وألقي عنده معطفَهُ الرماديَّ..."

وقالت الباحثة في شعر محمود درويش سنجد استخداما مختلفا ودقيقا بين الظل والشبح، فالأـخير كائن من خلال عدم وجوده يستمد حضوره من أنه غير موجود، منطقته ممتدة دائما وأبدا بين العالم الحقيقي وعالم الخيال، على العتبة الفاصلة بين عالم الأحياء وعالم الأموات، لا يمكننا أبدا أن نكون واثقين من وجوده لكنا لا نستطيع أبدا أن نثبت العكس، في حين أن الظل هو موجود وله وجود محسوس وغير ملموس لشيء حقيقي، لذلك فهو جزء أصيل من عالمنا ومن خبرتنا ومن حياتنا، هو خلنا الوفي الأبدي حتى لو كان خارج نطاق متناول أيدينا.

بدوره قدم الشاعر والروائي سنان أنطون مداخلة بعنوان "أشباح درويش: العودة إلى الحاضر"، قال فيها إن مداخلته ملخص لفصل "من مشروع بحث كنت قد بدأت العمل عليه قبل سنوات يتمحور حول تمثيلات التاريخ وتقاطعات الماضي والحاضر وجدلية العودة في خطاب درويش الشعري".

وعرج أنطون على المرة الأولى التي استوقفه شبح محمود درويش في قصيدة لماذا تركت الحصان وحيدا حينما قال "أطل على ما أريد، أطل على شبحي قادما من بعيد"، متسائلا كيف يمكن أن نقرأ عودة الشبح إلى صاحبه، لتنتهي القصيدة دون أن نعرف ما الذي سيحدث عند لقاء الذات بشبحها أو أن نسمع الحوار الذي قد يدور بينهم.

وتابع: "بمرور السنين واطلال درويش عبر الدواوين ازداد تردد الأشباح على القصائد أو لعله نفس الشبح يعاود الظهور وغالبا ما يكون ظهور الشبح في سياق محدد وكعنصر مهم في سردية ومعادلة شعرية ترسخت ملامحها وتفاصيلها التي تتكرر بتنويعات بسيطة".

وقال أنطون إن ظهور الشبح في القصائد التي يقاربها هذا البحث يرتبط بعودة ما أو زيارة إلى المكان، زيارة متخيلة أو واقعية أو مزيج يماهي بين الاثنين وليس الفرق مهما جدا لأن الشعر في سحره هموم، وهذه القصائد الدرويشية بالذات تمسرح وتفصح عن رغبة الشاعر في تضبيب ومحو الحدود بين الاثنين وبين دلالاتهما لتعاد صياغتها وتشكيلها لطرح أسئلة عن معانيها وربما لإبطال الخرائط المفروضة قصرا على الأرض، وسلكاتها الرمزية والفعلية

يصبح النص الشعري في هذه القصائد مسرحا وأرضا خصبة لصراع جدلي بين الاثنين أي بين المتخيل والخيال وبين الواقع والواقعية، والأمثلة كثيرة في كتابات درويش.

أما المكان الذي يعود إليه مع الشبح ويلتقي به فيه ويحاوره فهذا المكان هو دائما فلسطين.

وفي ختام هذه الجلسة قدم أستاذ فلسفة القانون رائف زريق مداخلة بعنوان " باطل الأباطيل باطل: عبث المعنى ومعنى العبث". قال فيها إن ما لفت انتباهه هو توظيف محمود درويش لعبارة باطل الأباطيل باطل كل شيء باطل، والتي استعارها من سفر الجامعة وأعاد صياغتها شعريا ونثريا في أكثر من مناسبة ليزج بها معانٍ جديدة كنوع من لعبة خطرة مع العدم.

وأوضح زريق أن المكان الأول الذي وردت فيه العبارة هو نصه ذاكرة للنسيان حيث يرسم فيه محمود ويستعيد حصار بيروت والموت العبثي والمجاني أمام صمت العالم العربي بأسره من المحيط إلى الخليج، ورغم أن النص مشبع برائحة الموت، إلى أن اللحظة التي تحضر فيه العبارة هي سياق حديثه عن ذلك الشاب الباكستاني الفقير الذي ترك بلده لاهور باحثا عن لقمة عيشه في بيروت ليصطاده الموت في عاصمة لا شأن له فيها.

يكتب درويش، استدرجه الرغيف من لاهور جعله يلهث آلاف الكليومترات كي يلامس المعجز الإنساني، رغيف الخبز الذي قد يقتله في حرب لا شأن له فيها، فلا يعود حيا أو ميتا إلى أي مكان لا يعود إلى أي قبر باطل الأباطيل باطل الكل باطل وأفكر في الطرائق المعدة لنهائية جسد كافح حتى المضج ليحترق أو ليختنق باطل الأباطيل باطل والكل باطل.

أمام هذا الموت العبثي يصبح كل شيء باطلا، شاب يبحث عن الحياة في شكل رغيف خبز ليتحول الرغيف إلى قذيفة تنفجر في وجهه، وبدل أن يجسد الرغيف الحياة أصبح الرغيف تجسيدا للموت.

وبحسب زريق فإن التوظيف المكثف والمعاد لمقولة باطل الأباطيل باطل، كل شيء باطل، تتجلى بشكلها الأوضح والمركب في جدارية هناك بعد أن ذهب محمود في زيارته للموت وعاد منه إليها، ليكتب عن تلك المنازلة وعن هذا اللقاء بينهما وجها لوجه، هذا النص كما في نصوص أخرى يأخذ درويش مسافة من نموذج النبي والنبوة من كل الذين يعتقدون بأن لديهم القدرة الفائقة على تسيير الألم وتحقيق المعجزات والتحكم في المستقبل، لذلك نراه يكتب في الجدارية لا غيمة في يدي ولا أحد عشر كوكبا على معبدي وذلك في إشارة واحدة بأنه ليس النبي إيليا الذي يستطيع استحضار المطر على شكل غيمة بحجم كف اليد، وهو ليس بيوسف الذي يسجد له 11 كوكبا، ويمضي ليؤكد ذلك تكرارا عندما يقول مثلما سار المسيح على البحرية سرت في رؤياي لكني نزلت عن الصليب لأني أخشى العلو ولا أبشر بالقيامة".

وعلق أستاذ فلسفة القانون على ما سبق بالقول: "درويش لا يبشر بالقيامة ولا بثقته في المستقبل ولا يعد بالخلاص لأنه أدرك بتجربته ومسيرته أن التاريخ لا يسير بنا إلى أي مكان ولا غاية له وأن العالم والأحداث تفتقر إلى أي معنى أو مغزى، لقد كان فهمه للتاريخ من باب السخرية كما كتب في الجدارية، التاريخ يسخر من ضحاياه، ومن أبطاله، يلقي عليهم نظرة ويمر، أو كما كتب في موضع آخر الزمن يعلمنا الحكمة بينما يعلمنا التاريخ السخرية، لذلك ليس صدفة أن يكتب في عيد ميلاد صديقة الشاعر سعدي يوسف كنا دائما نؤمن بأن الغد أجمل لكن التاريخ يفاجئنا دائما بخيبة أمل جديدة تغري الشاعر بمديح الأمس".

وأردف:"مقابل عزيمة الأنبياء الذين ينظرون إلى المستقبل بثقة، ويصنعون التاريخ تاركين أثرهم في العالم، يختار درويش إذن أن يتماثل مع حكمة الجامعة، حكمة الملك سليمان في آخر عهده عندما تقدم به العمر لينظر إلى الوراء ويكتشف أن كل شيء زائل وباطل لذلك يسأل درويش الشاعر من أنا أنشيد الأناشيد أم حكمة الجامعة، وكلانا أنا وأنا شاعر وملك".

ويجيب زريق على تساؤل درويش: "نحن نعلم أن حكمة الجامعة وهو سفر من أسفار التوراة قد كتبه الملك سليمان، كما نشيد الأنشاد المفعم بحيوية  الفتوة فهو ينسب أيضا للملك سليمان لكن في شبابه، هكذا يرى درويش نفسه مزيجا من الاثنتين من حيوية الفتوة وحكمة السنين لكنه لا يتماهى بأي شكل من الأشكال مع نموذج الأنبياء الذين يغيرون مجرى الحياة ويقدرون على صياغة المستقبل والذين يعتبرون أن التاريخ والزمن يسيران باتجاه مستقيم نحو التقدم والخلاص.

وفي جدارية يكرر درويش عدة مرات مقولة سفر الجامعة فيكتب: ضاق بي جسدي ضاق بي أبدي وغدي، جالس مثل تاج الغبار على مقعد، باطل الأباطيل باطل كل شيء على البسيطة زائل، ويكرر درويش عبارته تلك مستحضرا النص الأصلي كما رأينا في سفر الجامعة والذي يدور على فكرة الزمن الدائري، والزمن الدائري يعني أن ما كان سوف يكون وأننا لا نستطيع القول بأننا نسير إلى الأمام ولا أن المستقبل يعدنا بأي نوع  من الخلاص".

الجلسة الأولى- اليوم الثالث

انطلقت الجلسة الأولى من اليوم الثالث التي قدمها الأكاديمي والباحث كاظم جهاد بعنوان "محمود درويش أو النبع الذي لا ينضب".

وقدم فيها الكاتب والمترجم إلياس صنبر مداخلة بعنوان: " القصيدة تغنّي وتغنّي، ولا حيلة لي في ذلك" قال فيها إن درويش كان يتخذ من أصدقائه شهودا لكي يتحقق من صحة بعض الانتقادات فيقول رأيا يبدو في الظاهر عاما حول عمله الخاص ثم يترقب ردود أفعالنا. ومن هنا ملاحظته المتكررة من أجل سبر آرائنا حول موسيقاه، مبينا أنهم كانوا يكتفون بالإجابة بأننا نرى تلك الانتقادات سخيفة.

وتابع: "كنا نرد على هذه الانتقادات بالازدراء، مقتنعين بأن غياب الموهبة المقترن بغيرة لا حدود لها هو ما يفسر ما تعرض له درويش في حياته من مشاكسات عدوانية ما زالت تتجلى حتى اليوم كلما حلت ذكرى وفاته".

وكان صنبر صديقا حميما لدرويش، كما كان مترجما لكثير من قصائده إلى الفرنسية، الأمر الذي خلق عند صنبر سؤالا مفاده: "كيف تغني لغة ما لغة أخرى؟"، ليتوصل إلى ثلاث محطات متتالية كشفت كل واحدة منها عن سابقتها في ترتيب متسلسل على نحو ما: صوت الشاعر، تنفسه، وموسيقاه.

وقدمت الكاتبة الفرنسية تيفين لو غال، قراءة نقدية وسردية وشعرية لعالم محمود درويش في آن معا باللغة الفرنسية. للعبارة التي وردت في مجموعة سرير الغريبة لدرويش "ولا حدّ لي بك" إذ قالت إن الأنا في هذه العبارة تقابل الأنت، أي أن الضميران متلاصقان بطريقة يحتضن بها أحدهما الآخر في الجملة، رغم أن القصيدة ليست قصيدة حب، إلا أن الحب هو دين الشعراء،

من جانبه، قدم الباحث كاظم جهاد مداخلة بعنوان: " درويش المتعدّد: وثبة عالميّة في قراءة محمود درويش"، بدأها بتأملات شخصية لعالم محمود درويش الشعري أو الأدبي، ثم انعطف على التجربة الجماعية في قراءة محمود درويش، وعرج على بعض التعريفات لمختلف الدراسات والمقالات التي وردت في كتابه وكتاب آخر".

وحول التأملات قال جهاد إنها محاولة لفهرسة تجربة الشاعر أو لتقديم جرد لمسيرته الأدبية، كما أنها محاولة للرد على سؤال كيف نرتب زمانيا مراحل التجربة الشعرية لمحمود درويش في مختلف أطوارها وتحولاتها.

ومما جاء في مداخلته: "لم يكن من المبالغة التأكيد على أن محمود درويش في عمله الهائل والمتنوع كما في حياته نفسه يجسد ويلخص التاريخ الفلسطيني الحديث بأكمله، فما من فصل من فصول المنفى الطويل والكفاح الطويل للفلسطينيين لم يمر هو به في حياته وكتاباته.

عرض درويش في شعره ونثره مأساة شعبه وآثام الاحتلال الإسرائيلي ومآزق السياسات العربية وعرف كيف يبني في الوقت نفسه عملا شعريا لم تعد أهميته تخفى على أحد".

واختتمت الجلسة الأولى بمداخلة باللغة الإنجليزية بعنوان "كرسي محمود درويش الثقافيّ والجامعيّ في بروكسيل، نشأته وأنشطته" لكاتبة المسرح الجزائرية نجمة حاج بن شلبي.

ووفقا لما جاء بالمداخلة أنشئ هذا الكرسي عام 2016، بهدف تخليد الأثر الشعري والفكري لأكبر شعراء القرن العشرين، في خطوة تؤكد على العلاقات الوطيدة مع فلسطين، بمبادرة من الوزير البلجيكي رودي ديموت، رئيس فيدرالية والونيا وبروكسل، المعروف بمناصرته للقضية الفلسطينية.

ويحظى هذا الكرسي بمساهمة دائمة ومساعدة عمليّة من جامعة بروكسل الحرّة وجامعة لوفان الكاثوليكية وأكاديمية الفنون الجميلة "بوزار" في بروكسل.

الجلسة الثانية- اليوم الثالث

انطلقت آخر جلسات المؤتمر التي قدمها المؤرخ والمترجم فاروق مردم بك بعنوان "محمود درويش في ضوء الأدب المقارن".

وقدمت الأستاذة في الأدب المقارن كارول بوادان مداخلة باللغة الفرنسية بعنوان "التأثير عن بُعد: في بعض نواحي الترسل في أعمال محمود درويش" تطرقت فيها إلى فن الترسل عند درويش، وإلى دلالات رسالة المنفى الشعرية عند درويش بالمقارنة مع الشاعر اللاتيني أوفيديوس الذي عاش هو الآخر تجربة المنفى.

كما قدمت الأستاذة في الأدب المقارن إيميلي بيشرو مداخلة باللغة الفرنسية أيضا بعنوان "الأندلس بوصفها استعارة: توظيف الأنموذج الأندلسيّ عند لوركا ودرويش".

وقدمت الأستاذة في الأدب المقارن أيف دو دامبيير نواريه مداخلة باللغة الفرنسية بعنوان "فادْخلوا، أيُّها الفاتِحونَ، مَنازِلَنا": القدرة السّجاليّة لقصيدة محمود درويش".

وأخيرا قدم المؤرخ والمترجم فاروق مردم بك مداخلة بعنوان: "البحر في شعر محمود درويش"، قال فيها إن كلمة بحر الأكثر حضورا في شعره في أي كلمة أخرى، والبحر في شعر محمود درويش يرمز إلى الرحيل عن الوطن حيث أهله وشعبه إلى المجهول البعيد، فالبحر لم يكن يعني عند درويش إلا المنفى، وشيئا فشيئا أصبح يتخذ دلالات أسطورية وتاريخية وسياسية مختلفة، إلى أن استقر للتعبير عن قدر فلسطيني في نزوحهم القصري بعد إجلاء المقاتلين من لبنان عام 1982، وترددت أكثر من 60 مرة في قصيدته التسجيلية مديح الظل العالي، وفي قصائد أخرى".