الإثنين  23 حزيران 2025

حين يصير الركام وطنًا: عن إبادة لا تُحكى إلا بلغة الحطام

2025-06-23 12:49:48 AM
حين يصير الركام وطنًا: عن إبادة لا تُحكى إلا بلغة الحطام

تدوين- مريم محمد الخطيب

كلما نظرتُ إلى صور بيتي المهدَّم، شعرت أنني أنظر إلى شاهد قبر لا يحمل اسمًا.

ليس لأن البيت مات — بل لأن العالم قرر أن يحتفظ بجثته دون دفنه.

منذ أن سقط السقف فوق رأسي، لم أعد أملك غرفة، بل ذاكرة. ولم أعد أستيقظ على ضوء، بل على طنين يشبه الصوت الأخير قبل أن يصير الصمت لغة المكان.

كل صورة لركام في غزة ليست مجرد وثيقة، بل وثيقة مسروقة. تُقتطع من سياقها، تُنشر بلا إذن، وتُعرض أحيانًا كأعمال فنية “تحرك المشاعر”، بينما من سكنوا الجدران ما زالوا عالقين تحتها: حرفيًا أو رمزيًا.

الإبادة، حين تتكرّر، لا تعود حدثًا بل تصبح حالة. حالة نعيشها، ننام فيها، نكتب من قلبها — لا عنها، بل داخلها. وهنا تحديدًا يبدأ التحوّل الأخطر: أن يصبح الدمار الفلسطيني تراثًا.

الركام كأرشيف إجباري

لم نختر أن نوثّق كل هذه الخسارات.

نحن لا نعيش في متحف لذاكرة الحرب، بل في الفراغ، في الصدوع، في الأغراض المتبقية لأجساد غادرت فجأة.

الركام ليس أثرًا، لأنه لم يمت بعد. إنه نبض بطيء لمدينة تُباد وهي تُجبر على أن تتذكّر موتها كل صباح.

في مدن كـ هيروشيما أو سراييفو، تحوّلت المواقع المنكوبة إلى معالم تراثية بعد عقود من إعادة البناء. أما نحن، فلم نخرج أصلًا من لحظة الانفجار. فكيف نُرمّم ما لم يُدفن؟ كيف نحفظ ذاكرة ما زالت تنزف؟

البيت المهدّم في غزة لا يتحول إلى متحف، بل إلى شاهد حي، وغالبًا إلى قبر مغلق على أهله.

من يملك السرد؟ ومن يملك الوجع؟

حين تُنشر صورة بيتك كـ “محتوى”، من دون سياق، من دون اسم، من دون صرخة، فهل تبقى ملكك؟

حين تُصبح معاناتك مادة لخطاب إنساني رقيق، لا يطالب بعدالة، بل فقط بـ “التعاطف”، هل تبقى إنسانيتك كاملة؟

لقد تحوّل الخراب إلى رأسمال رمزي.

كل صورة للدمار تُستخدم لتأكيد مأساويتنا، دون أن تسمح لنا أن نحلم بشيء أبعد من البقاء.

صرنا نُكتب من الخارج — يكتبنا الآخر بلغة الشفقة، ويطلب منا أن نقرأ أنفسنا بأدواته.

فهل نملك رفاهية الحديث؟

هل نكتب ليُسمع صوتنا، أم لنُظهر صالحين للعرض فقط؟

الإبادة البطيئة والذاكرة الحيّة

في غزة، لا تحدث الإبادة دفعة واحدة. ليست قنبلة ضخمة في ليل طويل، بل إنها تأتي على دفعات صغيرة ومتكررة:

صوت طائرة دون طيار لا يغادر سماءك.

رائحة الموت التي تسبق الأخبار.

الحصار الذي يجرّدك من الخبز، ومن الكتب، ومن المواعيد.

الشتاء الذي لا يرحم لأن النوافذ بلا زجاج،

والليل الذي لا يُنام لأن طفلًا في الزاوية يحلم بالقصف.

هذه الإبادة لا تحتاج إلى صور كي تُثبت.

إنها موجودة في نبض القلب، في صوت الأم التي تحفظ أسماء الجيران المفقودين، في نظرة الأب الذي ينهار أمام جدار منهار لأنه لا يستطيع إعادة بنائه.

الإبادة البطيئة لا تقتل الجسد دفعة واحدة، بل تسرق أجزاء صغيرة منه كل يوم — ثم تقول لك: اصمد.

وهنا تأتي الذاكرة الحيّة لا كخيار بل كعبء. أنت لا تختار أن تتذكّر، بل تُجبر على العيش في التكرار، لأن النسيان في غزة خيانة.

ذاكرتك ليست أداة استرجاع، بل وسيلة نجاة.

وكل صباح، تبدأ من جديد في بناء سردك وسط أنقاضك، لا لتقنع العالم أنك على قيد الحياة — بل لتقنع نفسك أنك ما زلت تملك شيئًا يستحق أن يُروى.

سؤال مكسور في فم مدينة

لا أريد أن أُعرَّف بالخراب.

ولا أن أُرث بيتًا مهدَّمًا، ولا أن يُحوَّل جسدي إلى وثيقة حزن.

لكنني، في الوقت ذاته، لا أملك أن أنسى.

لذلك أكتب.

أكتب لأن الركام لا يجب أن يتحوّل إلى تراث صامت يُعرض في متحف الرحمة الدولية.

أكتب لأننا لسنا بقايا معمار، بل شعب يريد أن يحيا.

لكن إن لم نستطع أن نبني بعد، ولم يُسمح لنا أن ننسى بعد، وإن كنا نُجرّ كل يوم إلى هوامش التاريخ لنُعرض لا كأحياء بل كأمثلة على “المأساة” —

فهل نملك فعلاً مستقبلًا؟

أم أن التراث الوحيد الذي سيسمح لنا بتركه،

هو طريقة موتنا؟