الأربعاء  10 كانون الأول 2025

سعد الله ونوس ووثائقي "هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء"

2025-12-10 08:57:30 AM
سعد الله ونوس ووثائقي
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

تدوين- أسماء المغربي

في صالة مستشفى تغصّ بالمرضى والزوار، حيث صوت مصعد الحزن لا يكفّ عن الرنين وسط ممرات أشبه بنفق معتم، تبدأ اللقطات المؤلمة. الكاميرا تتوغل لتكشف عن وجه كاتب مسرحي كبير، هو سعد الله ونوس، بينما هو على سرير المرض. شاحبا، متعبا، هزيلا، وقد خارت قواه بسبب السرطان. يتناول الدواء، والممرضة تثبت إبرة المصل في ذراعه. هذه هي اللحظات الافتتاحية المزلزلة لـ "هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء"، الوثائقي الذي صوّره المخرج السوري الكبير عمر أميرالاي مع صديقه ونوس قبل فترة وجيزة من رحيله في 15 مايو (أيار) 1997.

الفيلم، الذي عُرض مؤخراً في سينما متروبوليس ببيروت، ليس مجرد سيرة ذاتية مرضية، بل هو شهادة مكتنزة، وكلمة أخيرة، ووصية ونداء من جيل حُكم عليه باليأس بسبب ثقل القضية الفلسطينية.

عمر أميرالاي

صراع جسدي وصراع وطني: شاهد على "الخفقة السوداء"

"الوثائقي"، الذي يكتسب أهمية بالغة كونه اختزالاً لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة، هو حوار وجودي بين أميرالاي وونوس الواقف "على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت". يصرح أميرالاي لصديقه بأنه جاء ليستنطقه كشاهد على مرحلة، "لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع". الصراع الذي يتحدث عنه ليس فقط صراع ونوس مع سرطان البلعوم، الذي قاومه بخمس سنوات من الكتابة والإبداع، متجاوزاً توقعات الأطباء، بل هو صراعه الوجودي مع "الخفقة السوداء في الرأس" التي ترمز إلى علامة الخيبة المزمنة: القضية الفلسطينية.

ونوس، الذي افتتح عينيه على نكبة 1948، يصف هذه النكبة بكلمات ثقيلة: "أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات". لقد كبر الكاتب وكبرت القضية معه، محملاً همومها على "كاهله النحيل، المتعب". صوت نقاط المصل وهي تتدحرج ببطء في عروقه يصبح موسيقى تصويرية لحياة مُثخنة بالجراح والهموم الوطنية التي نهشت جسده، حتى ليظن هو نفسه أن المآسي هي من أودت به.

من النكبة إلى أوسلو: تشريح الهزيمة

الفيلم يسجل في فترة ما بعد اتفاق أوسلو، ويأتي ونوس بمزاج جنائزي لا يعود سببه للمرض فحسب، بل للحالة العربية العامة أيضاً. الكاتب المسرحي، الذي لقّب برائد "المسرح السياسي"، يرى أن شروط السلام الحقيقي لم تتحقق. السلام، في نظره، يتطلب تغييراً جوهرياً وجذرياً في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل، وفي الوقت ذاته، تغييراً مماثلاً في البلاد العربية.

نكبة 1948 وهزيمة 1967

لقد زرعت الأنظمة العربية في الأذهان، عبر سنوات من "الكذب والتدجيل"، أن هزيمة إسرائيل مسألة ممكنة في أي لحظة، وأن نكبة 48 كانت مجرد نتيجة لخيانة وأسلحة فاسدة، وليس لضعف عربي. لذلك جاءت هزيمة 1967 مدويّة. ونوس يعترف بالصدمة العنيفة: "لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة".

مشاهد استسلام الجنود وتشريد الأطفال في الخيام تتخلل المقابلة، وهي مرارة يشعر ونوس وكأنه يستعيدها حية. لحظة التأكد من الهزيمة كانت لحظة موت شخصي: "شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق... بكيت وبكيت، وشعرت أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى".

حرب 1973 وصرخة الأمل

وعلى الرغم من الانكسارات، يرى ونوس أهمية في حرب 1973، لا لنتائجها النهائية، بل لكونها كشفت أن إسرائيل ليست "حصناً منيعاً لا يمكن مسّه". مجرد الشعور بأن الجنود العرب يستطيعون أن يقاتلوا "أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات". 

من الانتحار إلى "الاغتصاب": كسر الصمت

في مواجهة حالة الذهول التي أصابته عند زيارة أنور السادات لإسرائيل، كتب ونوس: "أنا الجنازة والمشيعون معاً". بعد هذا النص الأخير، التزم الصمت الطويل المغمس بالاكتئاب، حتى وصل به التوتر إلى محاولة انتحار "جديّة" في تلك الليلة. لقد كان الصمت وسيلة لمواجهة أسئلة التاريخ الموجعة.

لكن انتفاضة 1989 كانت النقطة التي أنعشت مشاعره وحفزته على كسر الصمت. فجأة، يخطط لكتابة مسرحيته "الاغتصاب"، وهي لم تكن غريبة على توجهه، حيث تتناول الصراع العربي الإسرائيلي وتحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

نهاية جدلية

في مسرحية "الاغتصاب" لسعد الله ونوس، والتي تُعدّ علامة فارقة في مسرحه السياسي، وقد كتبها عام 1989 بعد انقطاع طويل عن الكتابة، متأثراً بالانتفاضة الفلسطينية الأولى. تدور المسرحية حول الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها لا تكتفي بتقديم إدانة مباشرة للاحتلال، بل تسعى إلى تحليل أعمق لبنية النخبة الحاكمة في إسرائيل وتأثير عدوانيتها على الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء.

العمل يستخدم كلمة "الاغتصاب" كمجاز شامل ليشمل اغتصاب الأرض والسيادة والذاكرة الفلسطينية. لكن النقطة الأكثر جدلاً وأهمية فنياً هي تقديم ونوس لشخصية طبيب نفسي يهودي إسرائيلي، وهي شخصية إيجابية ومحتجة. هذا الطبيب يمثل الضمير الإنساني داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث يعارض ممارسات القمع والتعذيب التي يقوم بها جهاز الأمن (الشين بيت) بحق الفلسطينيين، بل ويستحضر نصوصاً من العهد القديم، تحديداً سفر إرميا، ليُنذر النخبة الحاكمة بالعواقب الأخلاقية لسياساتهم العدوانية.

هذا الحوار بين الطبيب الفلسطيني والمحتج اليهودي يفتح الباب على فكرة المصالحة المشروطة، ويشير إلى أن ونوس تجاوز اعتبار إسرائيل "حُرُم" مطلقاً، مؤكداً أن الخلاص يتطلب تغييراً جذرياً في بُنى الحكم الإسرائيلية ونهاية للقمع، بالتوازي مع ضرورة إصلاح البنى العربية المتخلفة. وبذلك، تقدم المسرحية رؤية معقدة للصراع، ترفض التبسيط، وتطالب بالتحرر من الاحتلال والاستبداد معاً.

العلاقة بين القصف والسرطان: الاستسلام الكبير

لم يفصل ونوس بين واقعه الشخصي والسياسي. إنه يعتقد بوجود علاقة مباشرة بين حرب الخليج، التي "أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب"، وبين بدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء القصف الجوي "الوحشي" الذي قامت به الولايات المتحدة ضد العراق. بعد هزيمة العراق، التي يصفها بـ "الاستسلام"، جاءت مفاوضات مدريد، التي يرى أنها "لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي"، وأن الاتفاقات ما هي إلا "فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل".

إسرائيل، برغم كونها غدت "حقيقة تاريخية"، هي بالنسبة لـ ونوس "مشروع خاسر"، لا تملك مقومات الاستمرار إلا إذا "اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت".

في المشهد الأخير، يسأل أميرالاي صديقه السؤال الموجع: "هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟" يرد ونوس بجملة لاذعة: "على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث".

الوثائقي هو شهادة جيل، جيل سعد الله ونوس وعمر أميرالاي، الذي رحل الأخير عام 2011، بأنهم سيرحلون و"في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته". هذه الكلمة الأخيرة، التي جاءت من على سرير المرض، تبقى صرخة جيل، ووصية للأجيال القادمة أن تدرك عمق الجرح الفلسطيني الذي لم يترك مجالاً للفرح أو الهدوء في حياة أعظم كتّابهم.