الثلاثاء  24 كانون الأول 2024

في بيت حجري صغير دائماً ما تصبح "جراحة" قلب آلة كمنجة عملية مُلهمة!

شحادة شلالدة... من أصغر صانعي الكمنجات في العالم

2015-05-05 11:13:04 AM
في بيت حجري صغير دائماً ما تصبح
صورة ارشيفية
 
 
الحدث - ثائر ثابت
 
فوق طاولة تزدحم بالأدوات والمعدات الدقيقة، كطبيب جراح يستل مبضعه المعدني لا ليستأصل ورماً خبيثاً أو ليعالج وجعاً مزمناً، بل ليكتشف قلب آلة الكمنجة، تلك الآلة التي يتقن صناعتها بحرفية عالية، حافراً على جسدها باللغة الإنجليزية جملة (صنع في فلسطين).
الشاب شحادة شلالدة (24) عاماً، من سكان بلدة رام الله القديمة، يعد واحداً من أصغر صانعي الآلات الموسيقية الوترية في العالم، وتحديداً آلة الكمنجة، التي يصفها بطفلته التي يربيها بحنو، وبصبر ينتظر نضجها حتى تبدو ساحرة بصوتها وشكلها.
 
متلصصاً على الألحان
في حديثه لـ "الحدث" يشير شلالدة إلى أن بداياته مع صناعة الآلات الموسيقية وترميمها، تعود إلى حوالي عشر سنوات حيث يقول: "في العام 2005 عندما شُيد مركز الكمنجاتي للموسيقى بالقرب من منزلنا في رام الله التحتا، كنت أتلصص على الأصوات والألحان المنبعثة من هذا المركز لم أكن وقتها مدركاً لماهية الموسيقى بل كل ما كنت أتمناه أن أتعلم العزف على آلة تأخذني بعيداً عن ذاكرة محشوة بدوي الانفجارات والقصف الإسرائيلي الذي ما زال يزن في آذاننا منذ أحداث الانتفاضة الثانية...".
ويستطرد: "تعلمت العزف على آلتي العود والكمنجة لكن الأخيرة أخذت تسحرني وقررت أن أكتشف "قلبها"، وأتقن صناعتها بشكل كامل، فهي آلة مدهشة وتستأهل أن تبذل جهداً مضنياً في التعرف على أجزائها والتمتع بالنظر إليها بعد أن تصبح جاهزة".
 
17  آلة موسيقية
في بيت حجري قديم، يقضي الشاب شلالدة يومه في تصنيع آلة الكمنجة وبعض الآلات الموسيقية الوترية التي تصنف من ضمن عائلة الكمنجة، هذا البيت الصغير، التابع لمركز الكمنجاتي، يعد بمثابة ورشة فنية استطاع من خلالها أن ينتج فيه ما يقارب 17 آلة موسيقية.
ويتحدث عن دراسته لصناعة آلة الكمان: "أمضيت3  شهور في مقاطعة تيسكانا الإيطالية وهناك تتلمذت على يد أستاذ متخصص في هذا المجال، أعطتني هذه الفرصة إمكانية كبيرة للتعرف أكثر على واقع هذه الحرفة التي طالما أحببتها ورغبت باكتشاف أسرارها".
 
ما بين إيطاليا وبريطانيا
لكن هذه الفرصة التي كانت بمثابة نافذة صغيرة يستشرف من خلالها عالماً واسعاً، لم تكن كافية، وربما سنحت له الظروف وإرادته القوية للالتحاق بمعهد بريطاني وفيه أمضى3  سنوات بدلاً من الثلاثة شهور التي قضاها في إيطاليا.
وعن هذه المقارنة يبتسم شلالدة معقباً: "بطبيعة الحال المقارنة مجحفة بين ما أمضيته في إيطاليا خلال ثلاثة شهور والفترة التي أمضيتها في بريطانيا، ففي الأخيرة لا يمكنك أن تصف دهشتي وسروري عندما قمت بترميم آلة، يعود عمرها لما يزيد عن قرنين من الزمن...".
ونظراً لتمكنه وخبرته في صناعة الكمنجات استطاع أن يحصل على شهادة دراسية من المعهد البريطاني المعروف بــ (Newark College) خلال ثلاث سنوات بدلاً من أربع سنوات دراسية.
 
الكمنجة الأولى.. هدية
وفي سؤال عن أول آلة صنعها في العام 2008  أجاب: "الكمنجة الأولى مكثت شهراً كاملاً في صناعتها وكنت متلهفاً جداً لرؤيتها وقدمتها هدية لشقيقتي الصغيرة التي ما تزال تعزف وتعلم في مركز الكمنجاتي، وكم شعرت حينها بالسعادة وهي تحدث المتدربين بكل فخر في المركز عن هذه الآلة التي صُنعت لها...".
ويوضح شلالدة أنه يعتمد على مراجع وكتب يرجع إليها ويسترشد بها في تصنيع الآلات الموسيقية، لافتاً في هذا السياق إلى أن الخبرة التي اكتسبها من خلال دراسته في الخارج جعلته يدرك معنى الاحتراف والتفنن في إتقان صنع الكمنجات.
داخل ورشته الصغيرة، هنالك العديد من المعدات والأدوات التي يستخدمها في متجره والتي يبتاعها أو يحصل عليها من بلدان أوروبية، خلال جولاته التدريبية، كذلك بالنسبة للخشب والأوتار والمواد التي تعد من أساسيات التصنيع فهي أيضاً مستوردة، لا سيما خشب القيقب الذي تفتقر إليه بلادنا.
وفيما يتعلق بأسعار الكمنجات يقول: "تتباين أسعار الكمنجات حسب الزبائن، والبيع يتم عبر مركز الكمنجاتي، فهناك زبائن من الطلبة أو المعاهد الموسيقية أو العازفين الأجانب، وبشكل عام أستطيع القول إن آلة الكمنجة بالعادة لا يقل ثمنها عن5  آلاف دولار أمريكي..".
 
لست نجاراً!
ويستطرد شلالدة مبتسماً :"بعض الناس يخالونني نجاراً فمنهم من يأتيني لتصليح كرسي مكسور أو طاولة بحاجة لإضافات ما، وأفسر لهم أن صناعتي للكمنجات تختلف عن صناعة الأثاث، حتى أن المعدات التي أستخدمها في حرفتي تختلف تماماً عن تلك التي تراها عند النجارين، بالإضافة إلى أنني لا أستخدم أي معدات ثقيلة أو ميكانيكية، فصناعتي يدوية ودقيقة للغاية...".
ويتواصل شلالدة مع صانعي الآلات الموسيقية الوترية المحليين والأجانب، على الرغم من قلة أعداد المختصين والصانعين الوطنيين في هذا الميدان، ويقول: "قبل تأسيس مركز الكمنجاتي وتشييد هذه الورشة كانت معظم الآلات الموسيقية يتم إرسالها إلى متاجر إسرائيلية لتصليحها أو ترميمها وبالمقابل يتم دفع مبالغ باهظة، أما الآن، الحال اختلف، وكثيراً ما يؤم متجري مواطنون من فلسطين التاريخية أو من الضفة أو حتى أجانب، لإصلاح آلاتهم، وهذا يشعرني بأنني أقدم شيئاً عظيماً...".
 
عرفات على صدر المتجر
على صدر حائط المتجر الصغير، تعتلي صورة للرئيس الراحل ياسر عرفات خُط عليها "اسم بحجم وطن" وفي استفسار عن هذا البوستر أجاب: "في الحقيقة أبو عمار شخصية أحترمها وأحبها منذ كنت صغيراً وما زلت. حتى الزوار الأجانب يسألونني السؤال ذاته مثلاً لماذا عرفات وليس محمود درويش أو عازف كمان مشهور؟! وكم أتمنى لو أن القائد عرفات ما زال على قيد الحياة كنت بلا تردد أهديته واحدة من أجود كمنجاتي".
ومن ياسر عرفات الذي يحتل باسمه وصورته جدار متجره، يتحدث شلالدة عن العلامة التجارية التي يضعها داخل جوف الكمنجة متمثلة بعبارة (صنع في فلسطين): "هي أعمق من علامة تجارية، فهي تعني أن هذه الصناعة فلسطينية 100% وعندما يشتري الزبائن من مختلف دول العالم هذه الآلة فيعني لي كثيراً أن اسم بلدي فلسطين يكون حاضراً خاصة في ظل محاولات طمسنا وتغييبنا..".
ويطمح الشباب شلالدة لتأسيس أكاديمية أو ورشة كبيرة لتصليح وتصنيع آلات الموسيقى بمختلف أنواعها، هذا الحلم الذي يراوده دوماً ربما سيتحقق يوماً بإصراره وديمومة التمرن والتعلم، واكتساب مهارات ومعارف في هذا المجال الذي اختاره دون تردد.
 
اختبار الصبر وحقيقة العلاقة
وحول اختبار الصبر في هذه الحرفة المتقنة، قال: "في البدايات لم أكن مكترثاً بهذا الاختبار كما أسميته.. لكن فيما بعد بات يعني لي كثيراً، فصنعتي تحتاج إلى الإبداع والتأمل والتأني والجَلد، فصناعة آلة كمنجة واحدة تحتاج إلى شهرين كاملين..".
أما عن العلاقة والتآلف مع المكان، تابع: "ربما أعجز عن تفسير هذه العلاقة، ربما هي صداقة متينة وعميقة، حتى الدهان الذي أقوم بإعداد خلطته، أعتبره مكوناً قوياً في هذه العلاقة، ورائحة الخشب من أعمق الأشياء التي تعني لي الكثير الكثير..".
بعيداً عن شكل العلاقة ورائحة خشب القيقب، كثيراً ما يأتي على بال الزائر لمتجر  شحادة الشلالدة، وهو يتأمل أجساد الكمنجات، المنصوبات على جدران ورشته، أن يردد بقصد أو دون قصد حروف الشاعر الراحل محمود درويش: الكَمَنجاتُ تَبْكى على زَمَنٍ ضائعٍ لا يَعودْ... الكَمَنجاتُ تَبْكى على وَطَنٍ ضائعٍ قَدْ يَعود".