تدوين- ثقافات
اخترنا في تدوين، أن نحتفي بيوم الشعر العالمي على طريقة محمود درويش، بأن نتساءل معه عبر إعادة نشر نصه الذي يتساءل فيه "ماذا جرى للشعر؟" ويطلق فيه نداء استغاثة "أنقذونا من هذا الشعر". والذي هو نداء كما النص المعبر عنه ما زال راهنياً بامتياز، يُحاكي واقع الشعر العربي عموماً ويصف مواضع الخلل، والإرباكات، كما الضعف. النص نُشر في مجلة الكرمل في عددها السادس من ربيع عام 1982.
وفيما يلي النص:
إنّ غصات مالحة كثيرة تتجمع في حلوقنا لنطلق صرخة لا ندري كيف نسميها، لأن الشعر، الذي كان أحد أفراحنا القليلة، يُفلت من حياتنا الآن بلا وداع، أو بلا انتباه، ونحن، شعب الشعر كما ندّعي، نشاهد سقوط أحد قلاعنا الأخيرة، دون أن نبدي رغبة في المقاومة.
كم من مرة ذهبت الروح إلى صوتها، في ساعات كانت تحتاج فيها إلى الغناء، فارتطمت بخيانتها على ورق يزداد بياضاً.
وكم من يوم عطلة هادئ، خالٍ من المذابح وزحام المرور، عكّره عدوان قصائد هذه الأيام.
وكم من كسل في الجسد، أو بطالة جميلة اشتقنا فيها إلى ما يأخذنا إلى عيد غامض، أو يأتي بالبحر إلينا، في قصيدة أو أغنية، فتحوّل الكسل إلى مرض.
وكم من حماسة عظيمة صبَّها فينا حجر قادم من الأرض التي جعلها الأولاد مقدسة، فنهضنا في حصار العملاق العاجز الذي هو الأمة، لنندرج في النشيد، فإذا به يتلعثم ليقول لنا إن الأشياء كما هي على أرضها، وفي تجلياتها الخام أكثر شاعرية من شعر هذه الأيام، التي عجزت فيها الروح عن صياغة شكواها، كأن الحلم، الحلم ذاته، قد انحطّ مرة واحدة إلى نشأته الفظة، تائبا عن حرية لم تقدم له غير تشويه نفسه.
ولماذا نقدّم للشعر هذا الاعتذار؟
إنني لا أعرف ما هو الشعر. ولكنني بقدر ما أجهل هذه الماهية أعرف تمام المعرفة ما ليس شعراً.
ألأنّ الغناء الرديء أشد رداءة من واقع رديء؟ ألأن بشاعة القصيدة أشد إيلاما للنفس من تكدّس القمامة في الشوارع، ألأن قافية ثقيلة الظل أكثر صفاقة من سجّان؟ ألأن نشاز الإيقاع يجرح النفس أكثر مما تجرحها صفارات الإنذار بأصواتها المبحوحة؟
ربما، وربما لأن الشعر يتمتع بهشاشة تجعل تعرضه للخلل أكثر أنواع الكلام بشاعة، فهل نريد الادعاء بأن الشعر لا يتحقق، فلا يُعشق إلا في كماله النسبي، المتحقق في كمال نسبي آخر، يتلوه بحث عن كمال نسبي أرقى لا يتحقق إلا في اللحظة الغامضة التي تضيء القلب، والتي تجعلني بعد قراءة القصيدة شخصا آخر، يختلف عمن كانه قبل قراءتها؟
تلك مسألة نسبية أيضا، ولكل امرئ علاقة تتميز عن علاقة الآخر بالشعر، ولكل علاقة سرها أو نارها. من هنا صعوبة تعريف الشعر، ويبدو لي أنه سيبقى مستحيلا على المرء، الشاعر بقراءته والشاعر بكتابته، أن يهيمن على تعريف محدد للشعر، ولكن هناك ما يشبه المقياس، على القصيدة أن تغيّرني.
كل كلام غامض، مشوش، ركيك، نثري، عدمي، قادرة على تغطية تطفله على الشعر
إنني لا أعرف ما هو الشعر. ولكنني بقدر ما أجهل هذه الماهية أعرف تمام المعرفة ما ليس شعراً. ما ليس شعراً بالنسبة لي، هو ما لا يغيّرني، ما لا يأخذ مني شيئا ولا يعطيني لوعة أو فرحاً، هو ما يقدّم لي أحد مبررات وجودي وإقامتي على هذه الأرض، هو ما يبرهن لي جدواي وقدراتي على الخلق، هو ما لا يقدم لي الوجود في كأس ماء ينكسر، في اختصار، إن إدراكي لما ليس شعراً هو طريقتي في الاقتراب من إدراك الشعر، لأننا بالواضح نفسر الغامض، وليس بالعكس.
من هنا نصرخ: ماذا جرى للشعر.. ماذا؟
إن ما نقرؤه، منذ سنين، بتدفقه الكمي المنهور ليس شعراً، ليس شعراً إلى حد يجعل واحداً مثلي، متورطاً في الشعر، منذ ربع قرن مضطراً لإعلان ضيقه بالشعر، وأكثر من ذلك يمقته، يزدريه، ولا يفهمه. إن العقاب الذي نتعرض له يوميا، من جراء هذا اللعب الطائش بالشعر، يدفعنا -أحيانا- إلى قبول التهمة الموجهة إلى الشعر العربي الحديث، ولكن هل يكفي أن يتبرأ كل شاعر، بطريقته الخاصة، لينجو من الاتهام العام؟ ماذا يفيد التبرؤ مما ليس يشبهك إلى درجة تشبهك، وهل جرّب أحد أن يرى أعضاءه في أجساد الآخرين، دون أن يتحمل المسؤولية عن سهولة تفكيك جسده؟
على الشعراء والنقاد إذا وُجدوا، أن يدخلوا في عملية حساب النفس العسير، فهذه هي فترة النقد الذاتي
على الشعراء والنقاد إذا وُجدوا، أن يدخلوا في عملية حساب النفس العسير، فهذه هي فترة النقد الذاتي، إذ كيف تسنّى لهذا اللعب العدمي أن يوصل إلى إعادة النظر والتشيك بكامل حركة الشعر العربي الحديث، ويغرّ بها وجدان الناس إلى درجة تحولت فيها إلى سخرية؟ إن تجريبية هذا الشعر قد اتسعت بشكل فضفاض، حتى سادت ظاهرة ما ليس شعراً على الشعر، واستولت الطفيليات على الجوهر لتعطي الظاهرة الشعرية الحديثة سمات اللعب، والركاكة والغموض، وقتل الأحلام، والتشابه الذي يشوّش رؤية الفارق بين ما هو شعر وما ليس شعراً.
قد نهدّئ من روع الناس بالإشارة إلى أن تاريخ الشعر حافل بالتطاول والإدعاء، لولا أن تراكم الركاكة، واللا شيء وضياع المفاهيم الخاصة بالشعر الحديث قد أضاعت من الناس مفاتيح القراءة والتمييز، وبخاصة أن الشعر العربي الحديث لم يحقق بعد شرعيته الشعبية، إذا جاز التعبير، ورسوخه في الوجدان العام، وثباته في تاريخ التذوق، مما يجعل هيمنة نماذجه الرديئة مدخلا لإعادة النظر في التجربة كلها.
كل كلام غامض، مشوش، ركيك، نثري، عدمي، قادرة على تغطية تطفله على الشعر، في هذه الفوضى العامة، بالادعاء أنه شعر حديث مكتوب للمستقبل، ويجد في عطش الورق الذي أغدقه على حياتنا الثقافية فائض البترودولار أي حبر يملأ البياض، وفي "ثقافة" موظفي الأقسام الثقافية في مؤسسات النشر، الترحيب والتهافت.
لقد صار الجميع خائفاً أو عاجزاً عن البوح: أنا لا أفهم. هل تفهم أنت؟ لا بد أن نالك من يفهم، سيولد قارئ يفهم، ولا يجد أحد أداة لكيفية الدخول في القصيدة، ولا قارب نجاة للخروج منها. شيء من إرهاب الشكل البصري الجديد، وثنائية السمكة والقرنفلة، والسخرية من الوطن المندرج في "الخطاب السياسي" وتسمية الثرثرة "نصاً" يستولي على عقول الناس، ويقمعهم في الفن كما تقمعهم السياسة، فيتهمون أنفسهم بالجهل ولا يجرؤون على التساؤل والاحتجاج، لأن هناك سوطاً جاهزاً دائماً اسمه "الشعر الحديث" بطبيعته الغامضة، يهدد إبداء الحيرة، ويدفع الناس إلى الاستسلام.
قلت لناقد كبير: لماذا لا تتدخل، لماذا لا تكرّس طاقتك النقدية الكبيرة لدراسة الشعر الحديث في محاولة لاستنباط بعض القواعد والضوابط، فتساهم في وضع حد لهذه الفوضى؟ قال: لا أفهم. ولا أستطيع القول إن معظم هذا الشعر، منذ الرواد إلى النقباء إلى الأنفار، ليس شعراً، وأخشى التعرض لتهمة المحافظة من النقاد الجدد، الذين يدرسون القصيدة الغامضة بمقال أشد غموضاً، لأني لا أؤمن بالبنيوية بخاصة، ولا أتقن تخطيط أسهمها وأقواسها وخرائطها!
ماذا جرى للشعر، إذا، ماذا جرى؟
إن سيلا جارفا من الصبيانية يجتاح حياتنا ولا أحد يجرؤ على التساؤل: هل هذا شعر؟ نحن في حاجة للدفاع ليس فقط عن قيمنا الشعرية، بل عن "سمعة" الشعر الحديث الذي انبثق من تلك القيم ليطورها لا ليكسرها، حتى شمل التكسير، بدافع الادراك أو الجهل، اللغة ذاتها، فكيف تطور الحداثة الشعر بلا لغة، وهي حقل عمل الشاعر وأدواته؟ هل شرح الذين لا يعرفون لغتهم ماذا يعنون بالمصطلح الدارج "تفجير اللغة" وهل أوضحوا لنا مفهوم "الموسيقى الداخلية" في إصرارهم على احتقار الإيقاع؟ لماذا لا تأتي الموسيقى الداخلية إلا من النثر؟ لماذا تعجز ثروة الشعر العربي الايقاعية عن إنتاج موسيقى داخلية؟ وقبل ذلك ما هي بالضبط، الموسيقى الداخلية، وما هي الموسيقى الخارجية؟
مسألة الشعر قد انحطت إلى مستوى الأدوات الأولية والبديهيات اللغوية
سيقولون إن الإيقاع يخلق نمطا متشابها ورتيبا، إذن، ماذا نقول عن هذه القصيدة الواحدة التي نقرؤها، كل صباح منذ عشر سنين، بمئات الأسماء؟ أليست هي نموذج النمط، نعم. إن ما نقرؤه من هذا الشعر الحديث، هو قصيدة واحدة تتألب عليها مئات الأسماء في تنقلها من جريدة إلى مجلة إلى منبر إلى ديوان، ألم يقع "الشعر الحديث" في نمطية أشد انحطاطا من نمطية القصيدة الكلاسيكية، التي كانت تحميها عناصر تقيها صعوبتها، على الأقل، من سهولة اللعب الشائعة في هذه الأيام؟
صحيح أن الشعر ليس هو "الكلام الموزون، المقفى، المعبر عن أفكار، ومشاعر كما تقول الكتب المدرسية. كلنا يأنف من هذا التعريف الضيق، ولكن هل يعني رفضنا هذا التعريف أن يكون عكسه هو الصحيح، لنقول إن "الشعر هو ما ليس كلاما موزونا مقفى، ولا يعبر عن شيء"!
وصحيح أنني أُبسط، وأسخر، لأعبر عن ضرورة الدفاع عن أدوات الشعر الأولية، الأولية جداً، لنختلف فيما بعد حول مسائل الشعر الأرقى، ولكن مسألة الشعر قد انحطت إلى مستوى الأدوات الأولية والبديهيات اللغوية، كأن يعرف الشاعر، العامل في حقل اللغة، أبسط قواعد لغته، فلا نرجوه، ولا نتوسل إليه بأن يبقى الفاعل مرفوعا إذا أمكن، وأن يحرص بقليل من الجهد، على وضع الهمزة على الكرسي، أو الألف أو الواو، بدلا من وضعها على رصيف الشارع.
نعم. إني أسخر بمرارة في محاولة لتبرئة الشعر الحديث من تهمة الانحلال العام، ولأن الشعر، وهو أحد تجليات روح الأمة، يعنيني كما يعنيني كياني ومصيري، ويعنيني بطريقة تفسر انحلاله، إذا انحل، بانحلال الأمة ذاتها، ويعنيني كما تعنيني هويتي، لذلك يأخذ شكر تحطيم لغتي معنى إبادتي الحضارية، وهكذا امتلك جرأة الصراخ بأن الدفاع عن قيم الشعر العربي، وفاعليته، ووضوح رسالته، هو شكل من أشكال الدفاع عن روح الأمة ووجودها الثقافي.
من هنا، لم يعد في وسعنا أن نكبح جماح الإحساس بلا براءة المثابرة المنهجية على تدمير الشعر العربي، وهو عملية تجري أمام عيوننا كل يوم، برعاية منابر بالغة الأهمية في صياغة الوجدان العام، لأن حسن النية في مراقبة هذا التدمير يلغيه طابع المؤسساتية الذي يميز سير هذه العملية، وإلا كيف نفسّر عجز هذه المنابر عن العثور على قصيدة عربية سوية واحدة منذ سنين طويلة، وترويجها لكل صنوف الشطط، والعدمية، والعلاقة العدائية بين القصيدة والواقع، والتهامها مستوى البراءة لدى الشباب الناشئين، الذين يبحثون عن وعيهم ولغتهم الشعرية الجديدة. لا، لم يعد في وسعنا أن نكبح جماح الإحساس بلا براءة المثابرة المنهجية على تدمير الشعر العربي، والتي تتغذى من اجتهادات التنظير لما ليس شعراً كنموذج للحداثة الشعرية.
على الشعر ألا يقول شيئا، أو الشعر هو الكلام الذي لا قول فيه، هذه النغمة السائدة في شعر هذه الأيام، وإذا قال – وهو دائما يقول عكس ما يدّعي، لأنه يقول الفراغ على الأقل، يقول فراغ الارتباط بأي شيء، واقع، حياة، مصير، حب، ويحول الثورة، مثلا، إلى سخرية.. إلى نقيض للقصيدة، فالشرط الشعري هو البياض، والواقع طرف نقيض في القصيدة، عبء عليها لا يحقق حريته إلا بالتحرر منه. ولذلك تجد الوطن ساقطاً أو خائناً، أو قليل الوفاء، أو جَحوداً في شعر هذه الأيام، ألا ترون، إذاً، أن هذا الشعر يحمل قولا كثيراً، وأن ترويجه للا قول هو مجرد احتيال لقول القول المضاد؟
لم يعد في وسعنا أن نكبح جماح الإحساس بلا براءة المثابرة المنهجية على تدمير الشعر العربي، وهو عملية تجري أمام عيوننا كل يوم، برعاية منابر بالغة الأهمية في صياغة الوجدان العام
لا يسعنا إلا أن نعترف بأن الكثيرين من الشعراء الذين يستمدون وهم شرعيتهم الشعرية من مواطنيتهم الصالحة، ومن تضامنهم مع الثورات، قد تحول الوطن، في أفواههم، إلى حشف، وتحولت الثورات في أفواههم، إلى قمع لغوي، ولكن، علينا أن نعترف، أيضا، بأن تجاوزهم الفني لا يتم بتجاوز الموضوع الشعري، الذي ارتزقوا منه، ولا يتم هذا التجاوز بالتحول إلى الثورة المضادة، وتوبيخ الوطن الذي تريده الثورة المضادة أيضا، إن استيائي من قصيدة رديئة عن الوطن ليس سبباً كافياً لخيانتي، فاذا كان الشاعر الوطني الرديء قد أساء إلى الشعر وأخلص للوطن، فإن نقيضه الفني ليس هو نقيضه الأيديولوجي الذي يخون الشعر والوطن معا.
هل نتحاور من خندق واحد؟ ما أصعب هذا السؤال حين يحمل بعض الشعراء والنقاد تناحرهم الداخلي مطمئنين، فهذا البعض ثوري في المقهى والحي، رجعي في الكتابة، هل نتحاور من موقع واحد؟ تلك هي المفارقة/ المأساة، أو المأساة/المفارقة، كأن أختلف مع رفيق الخندق الواحد، وعلى منبر الخصم الأيديولوجي أحيانا، على أي مصير يعني أكثر في القصيدة: مصير السمكة التي تقفز من بقعة حبر على الجدار، كما يقول الشعر الحديث، أم مصير ولد يدخل في قطرة الدم على الشارع، كما يقول الشعر الحديث أيضا؟
لا. ليس الخلاف محتدماً بين مجددين وسلفيين، بين أزهريين ودادائيين، إنه اختلاط أي شيء في كل شيء، إنه سطوة الرمادي كأن تعني الحداثة الثورة حتى لو حملت أشد الأفكار السلفية ظلامية، شرط أن تعمق في غربتها في صدفتها، أو كأن الحداثة السلفية إذا عبّرت عن حركة الواقع، وفتحت بابها على الآخرين وصارت نشيد الجميع.
وعندما لا يجد هذا الشعر ما لا يقوله يجد "المرأة المخاطبة في القصيدة، المرأة المخاطبة هي عكازة القصيدة في هذه الأيام"
إن ما يرهقنا في هذه الفوضى هو أن التجدد والحداثة يراد لهما أن يتحولا إلى مرادفين للعدمية، وللثورة المضادة أحيانا، حيث لا يصبح هنالك معنى للأشياء، واللغة، والتضحية، والعمل، ولا معنى للمعنى في الشعر. معنى الشعر هو اللا معنى، لأن المعاني – كما تقول هذه الحداثة- مفاهيم قديمة بالية، كالفصاحة ذاتها التي استبدلت بالركاكة.
أهذا كل ما يقوله شعر اللا قول، الذي نجح إلى حد ما في خلع الشعر من صلب حياتنا اليومية، وجعل الشعر نكتة الناس الصباحية؟ لا. إنه يقول الضجر التشابه، تحول البطولة إلى فأر. تحول القصيدة إلى لقطة إخباريةـ أو لغز، أو الكترون، إنه يقول التقنية والإتقان أحيانا: السطر حسن التوزيع، الفجاجة مدرّبة، نقاط التعجب يقظة، الموسيقى الداخلية رمل. العبارة الصوفية في محلها الصحيح. الفراغ شديد الإيحاء بين مقطعين. وبعيداً عن أية محاكة خارجيةـ إذ لا يحق لنا أن نقرأ القصيدة من خارجها، نجد أن القصيدة متقنة وفق فهمها هي للشعر، ولكنها لا تعنينا، لا تثير فينا الدّهش ولا الرعشة، على الرغم من اتقانها المحكم، وتمتعها بكل شروط كتابة القصيدة كما تدرّس في كتاب قد يكون قيد التأليف الآن، "كيف نتعلم كتابة الشعر في سبعة أيام دون معلم".
وعندما لا يجد هذا الشعر ما لا يقوله يجد "المرأة المخاطبة في القصيدة، المرأة المخاطبة هي عكازة القصيدة في هذه الأيام" فمن المرأة يمكن النفاذ إلى فراغ القول، أو قول الفراغ، سلسلة تداعيات لا متناهية، أكداس من الصور الجميلة أو القبيحة المجانية، كلام يقول كلاما، وإذا تساءلت عن كيان هذه المرأة التي لا تنزل عن الضمير المخاطب، ولا تصاب بضجر اللا قول الذي يقول كل شيء عدا الشعر أو المرأة، يصرح نقّاد الشاعر، وهم دائما أصدقاؤه، إنها الوطن والأرض، المرأة المخاطبة، في شعر هذه الأيام هي الوجه الآخر لشعر اللاقول، وإن كانت توحي بأنها نقيضه الشكلي، هي اللاقول الثرثار، هي السجال الذي لا ينتهي بين الشاعر ومعرفته السائلة، هي استحلاب الكلام الي لا غاية له الا الكلام.
لا. لم نعد نطيق سماجة الشعر وتراكمه، لأن هذا الشبه بين كل شيء وشيء آخر، هذه السهولة المائعة، جعل الشعر أرخص البضائع. لم تعد القصيدة إضافة، صارت تراكماً، لم تعد حدثاً، صارت نبأ أو تعليق هذيان على نبأ، ولم يعد البحث عن الشعر، في الشعر، الا شكلا من أشكال الفاجعة التي يتركها فينا الشعر الحديث، صارت عزلتنا هي مقياس ابداعنا، وبلغ بنا الدفاع عن الغموض وتحويله إلى مستوى إبداعي، لأن قدرتنا على الكتابة الشعرية صارت أهم من حاجتنا إلى الكتابة، وكيفية القول صارت في الغاية النهائية، كيفية لا تقول شيئا.
وكأن الابداع قد تحول من جوهر إلى صدف مطلق، وذلك ما يشرح، وعلى مستوى آخر من مستويات الفاجعة، الميل المرئي لدى شعراء الحداثة الجادين إلى التخصص الشعري في الشعر لا إلى التعبير، كل الأسئلة هي أسئلة الشعر في مواجهة أسئلة الحياة، وفي مثل هذه التخصص الشعري المحض لا يجد الشعر شعره، أعني لا يجد انسانيته.
لم تعد القصيدة إضافة، صارت تراكماً، لم تعد حدثاً، صارت نبأ أو تعليق هذيان على نبأ
يحلو لي أن أشعر، ولا أقول أعرف، أن الشعر يبدأ مما ليس شعريا، لأن الاهتمام بتحويل الشعري إلى شعر قد يتحول إلى تقنية تفتقر إلى العناصر الإنسانية، وقد تتحول العملية الشعرية إلى مختبر يحول القصيدة إلى معادلة كيميائية وفي هذه العملية تحلّ القصيدة التي صارت كلاما عن الشعر، محل الشعر ذاته.
ماذا جرى للشعر.. ماذا؟ إني أعلن خوفي من الاستباحة والفوضى من ناحية، وأعلن تخوفي من التقنية المحضة اللاإنسانية من ناحية أخرى، فهل يحق لنا أن نصرح: آن لنا أن نعبّر بدلا من أن نكتب، وآن لنا أن ننفجر بدلا من أن نقطّر؟
وماذا جرى للشعر؟ سيقال كما قيل من قبل إن سؤال الشعر هو جزء من سؤال المسألة الثقافية العربية الراهنة، التي هي جزء من سؤال الوضع العربي برمته، وسيقال إن الإنهيارات التي تصيب بُنى المجتمعات العربية تشمل مستوى الشعر أيضا، ربما.. ربما.. ولكن تاريخ الشعر يقدم لنا الكثير من الأدلة على أن ازدهار الشعر، أو انحطاطه، ليس مشروطا دائما، بمستوى تطور المجتمعات، وأن في وسع القصيدة العظيمة أن تنهض من الخراب، إذا كان يحركها أمل عظيم، أو يأس عظيم.
فهل فقد الشعر العربي الحديث الأمل العظيم واليأس العظيم معاً؟
إنه سؤال مفتوح على سؤال آخر:
ماذا جرى للشعر... ماذا؟