تدوين- سوار عبد ربه
يعتبر الفن التشكيلي الفلسطيني، أحد عناصر الهوية الثقافية وأحد أدوات الخطاب الثقافي الذي مر كغيره من القطاعات الثقافية بمراحل مختلفة أثرت وتأثرت بالأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، إلا أنه استطاع أن يتجذر عميقا في تاريخ النضال الفلسطيني التحرري، وأن يكون ركيزة أساسية في حماية الهوية من التشويه والسرقة والتزييف، ذلك للصفة التوثيقية التي اتخذها رواد هذه الحركة ممن عملوا على تأريخ الأحداث من حولهم وأرشفتها ضمن لوحاتهم وأعمالهم الفنية، إضافة لإدراكهم لأهمية الخطاب الثقافي وفعاليته حول العالم.
وانطلاقا من الدور الذي لعبه الفن التشكيلي الفلسطيني عبر محطات مختلفة رافقت القضية الفلسطينية، كان لا بد من الوقوف عند ما آل إليه هذا الفن اليوم، سواء من ناحية الموضوعات التي أصبح يتناولها أو من ناحية الدور الذي يتخذه في هذه المرحلة، وهذا بالعودة إلى نشأته والتسلسل في مراحل تطوره للوصول إلى الحاضر، واستشراف المستقبل.
ولهذا، التقت تدوين بأحد رواد الحركة التشكيلية الفلسطينية سليمان منصور الذي تمتد مسيرته الفنية لأكثر من 40 سنة، وأجرت معه حوارا شاملا وقفت فيه عند مواقع القوة والضعف في الحركة التشكيلية الفلسطينية، ونظرته إلى التشكليين الجدد، كما عادت معه إلى مرحلة النكبة وحضورها في الفن التشكيلي الفلسطيني، بالإضافة إلى محاور أخرى سيتطرق لها المقال تفصيلا.
في قراءته لوضع الحركة الفلسطينية المعاصرة، قال الفنان الفلسطيني سليمان منصور في لقاء خاص مع تدوين إن الحركة التشكيلية الفلسطينية مرت ولا تزال في مواقع قوة ومواقع ضعف وهذا ليس بجديد، وما يميزها أن فنانينها دائما لديهم أفكار مختلفة تهم الناس والعالم.
كما أن من مميزات الفن الفلسطيني وفقا لمنصور أنه ليس فن ديكور أو مقتصر على الزينة فقط، إنما فن هادف يوصل رسالة معينة.
ومن الظواهر الجديدة، الموجودة لكنها ليست متأصلة بعد، التي لاحظها الفنان سليمان منصور هو ابتعاد الفنانين عن الفن السياسي، الذي يتناول الوطن، بحجة الحرية، وهذا بسبب الفردية بالفن، أي أن الفنان أصبح غير مكترث بمجتمعه وما يحدث من حوله إنما أصبح مهتما فقط بمشاكله الخاصة.
الفن الفلسطيني ليس فن ديكور أو مقتصر على الزينة فقط، إنما فن هادف يوصل رسالة معينة
ويرى منصور أن هذه الظاهرة مرتبطة بالوضع السياسي والاقتصادي، ما انعكس على الفن لأن الفنان أصبح يهتم بمشاكله بالدرجة الأولى، مشيرا إلى أن هذا الميل بالفن تشجعه مؤسسات غربية، لابعاد الفنانين عن المجتمع ومشاكله.
كما يرتبط هذا الأمر بمسألة التمويل، لأن المؤسسات قد تطلب من الفنان التركيز على مواضيع دونا عن غيرها، كمشاكل المرأة على سبيل المثال، مشيرا إلى أنه ليس ضد أن يعالج الفن المشاكل المرتبطة بالمجتمع للمرأة أو للرجل أو للطفل أو غيرها، إنما التركيز على موضوع معين وترك المواضيع الأخرى هو المشكلة، بحسب الفنان.
لكن رغم وجود هذه الظاهرة إلا أن سليمان يرى أنها لا تشكل خطرا على الحركة التشكيلة الفلسطينية، ذلك لأن غالبية الفنانين يعون مخاطر هذه المسائل التي يروج لها الممولون الذين يعون أنها قد تكون قنبلة متفجرة يمكن أن تتسبب بمشاكل في المجتمع.
وجد الفن الفلسطيني نفسه خاصة بعد حرب النكبة عام 1948، في معركة المواجهة ضد سرقة الأرض والتراث والهوية الفلسطينية، إذ أدرك الفنانون في وقت مبكر أهمية مسألة توثيق المأساة الفلسطينية، ودروها في هذه الحرب، كما أنه لم يغفل الجوانب والمواضيع الأخرى، فكان فنا شاملا ومتنوعا.
الحركة الصهيونية منذ نشأتها عملت على انكار وجود الشعب الفلسطيني، والثقافة كانت سلاحا استخدمها روادها في تثبيت وجود الشعب الفلسطيني
وفي هذا السياق يرى منصور أن موضوعات الفن الفلسطيني شاملة، لكن أهمها موضوع الهوية، ذلك لأن الحركة الصهيونية منذ نشأتها عملت على انكار وجود الشعب الفلسطيني، والثقافة كانت سلاحا استخدمها روادها في تثبيت وجود الشعب الفلسطيني، سواء من خلال الشعر، السينما، الموسيقى، أو الرسم، كما أنها استخدمت كلغة لمخاطبة العالم، لأن الفن والثقافة هي اللغة التي يفهمها العالم ويتفاعل معها، وهي أحد عناصر تأكيد وجودنا وهويتنا.
ويرى منصور أن الموضوع السياسي ليس بالضرورة أن يكون واضحا بشكل مباشر، مثل القبضة، الدمعة، الدم، فيمكن لقطعة موسيقية جميلة أن تخدم القضية الفلسطينية وتوصلها أكثر من مئة لوحة فيها رموز واضحة، منبها أن الفنان يجب عليه أن يكون ذكيا في التعامل مع الموضوع السياسي وأن يتعامل معه باحترام وكرامة.
وفي رده على مدى نجاح الفنان الفلسطيني في مخاطبة العالم باللغة التي يفهمها كما أشار منصور، قال إن "النجاحات كانت على مستوى فردي لكنني لا أعتبرها نجاح عظيم، لأن الثقافة وبالذات الفن التشكيلي بحاجة لعدة أمور: منها دعم الدولة وقوانين لتحميه، لأن الفنان ليس محميا بموجب القوانين، ولمؤسسات فنية تقدمه للعالم، بالإضافة لنقاد فنيين يكبتون عن الفنان، لأن الفنان بلا النقاد لن يعرف عنه أحد، إلى جانب الدارسة".
مؤسساتنا الفنية غير مهتمة بالفن التشكيلي، لأن غالبيتها ذات طابع تجاري، يهمها الربح من خلال الفن
واعتبر الفنان أن "مؤسساتنا الفنية غير مهتمة بالفن التشكيلي، لأن غالبيتها ذات طابع تجاري، يهمها الربح من خلال الفن".
وعن أهمية الناقد الفني قال "إن الناقد الفني بإمكانه أن يكتب عن العمل أكثر من الفنان بكثير، وبمقدوره أن يخرج من العمل الفني أفكارا يضعها الفنان بصورة لا واعية، وهنا تكمن جمالية النقد إلا أنه غير موجود في بلادنا، وهذا لأن الناقد الفني بحاجة إلى دراسة لسنوات طويلة ثم إن كتابة المقالات النقدية تتطلب جرأة، كما أن الاهتمام الجماهيري الكبير غير موجود فمن سيقرأ للناقد، بالإضافة لعدم وجود من يمول هذه الكتابات.
وعرج منصور على النقاد الفنيين في دول العالم منها أمريكا، إذ أن سوق النقد الفني هناك واسع، ويكرس له مليارات الدولارات، بالإضافة للمؤسسات الفنية والمعارض، كما أن الفنان في تلك البلاد إذا رغب بتأليف كتاب عن مشروعه الفني يمكن أن يدفع للناقد الفني ليكتب له، بالإضافة لوجود المتاحف التي تقدم الفن الأمريكي بطريقة بحثية عميقة مرتبطة بفلسفات قديمة ومن هنا يصبح للفن قيمة، من خلال أن الناقد الفني يكون حلقة وصل بين الفنان والجمهور.
الناقد الفني بمقدوره أن يخرج من العمل الفني أفكارا يضعها الفنان بصورة لا واعية
ويرى منصور أن وجود الناقد الفني كحلقة وصل بين الفنان والجمهور يزيد من عدده لأن الفنان سيكون واعيا لأهمية مخاطبة الجمهور.
وبمعزل عن النقد الفني ودوره، يعود بنا سليمان منصور إلى حقبة السبيعينات والثمانينات، مستذكرا أن معارض الفنانين كانت تستقطب عددا واسعا من الجماهير، وتحتاج إلى تدخل من الشرطة كي تنظم دخول الزوار، ذلك لأن الأعمال الفنية كانت تعكس الواقع الفلسطيني وحياة الناس الاجتماعية، كما أن صدق الفنان في أعماله يزيد من التفاعل معه ويوصله لنطاق أوسع من الجمهور سواء المحلي أو الغربي.
استحوذت النكبة على معظم إنتاجات الفنانين الفلسطينين، وكانت حاضرة بشكل بارز في أعمالهم، ومنها أخذ الفنانون يستقون موضوعاتهم ويبتكرون رسومات تحولت فيما بعد إلى رموز حفرت في الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
وحول هذا يقول منصور الذي ركز في لوحاته على القرى المهجرة والمهدمة، في لقائه مع تدوين إن موضوع النكبة موجود عند كل فنان بطريقة أو بأخرى، وليس بالضرورة تغطيته من زاوية الهجرة فقط، معتبرا أن تأثير النكبة المباشر على الفن استمر حتى أواخر الخمسينات.
وفي تلك الفترة استحوذ موضوع الحنين للوطن السليب والحياة الجميلة التي عاشها الفلسطيني قبل النكبة على أعمال الفنانين، وأصبح جزءا أساسيا من الثقافة الفلسطينية على اختلاف أنواعها.
وهنا تحدث منصور عن أعماله التي رسم فيها امرأة فلسطينية ترتدي ثوب فلسطيني وتفلح في الأرض، معتبرا أن هذا نوع من الحنين للأرض، ويندرج تحت إطار الهوية، إذ أن الرموز في اللوحات كثيرة، كالزي الشعبي الفلسطيني، الحطة، شجرة الزيتون، البرتقال شقائق النعمان، وغيرها، قائلا إن فننا فيه الكثير من الرموز سواء النباتية أو الأشياء المصنعة كالتطريز وغيره.
وبعد عام 1965 وانطلاق الثورة دخل عنصر المقاومة ولم يعد الإنسان الفلسطيني شخصية محزنة لا حول له ولا قوة، وتحول البطل في اللوحة لشخص يحمل كلاشنكوف، وله عضلات ووقفته فيها كرامة وشجاعة وتحدٍ، وفقا للفنان.
وبحسب منصور لا تزال الأفكار والتوجهات التي أعدت بعد النكبة حتى السبعينات تتكرر بالفن الفلسطيني حتى اليوم.
ومن بين اللوحات التي تحولت إلى رمز ارتبط بالقضية الفلسطينية لسنوات طويلة على سبيل المثال لا حصر، لوحة جمل المحامل لسليمان منصور التي رسمت النسخة الأولى منها عام 1973، وتمثل عجوزا فلسطينيا يحمل القدس على ظهره.
ونظرا للانتشار الواسع الذي حققته اللوحة، والترحيب الكبير الذي لاقته محليا ثم عالميا، طبعت على شكل ملصقات سنة 1975 وعلقت في المنازل والأماكن العامة في مختلف محافظات الوطن.
كان للتطور التكنولوجي أثره على الفن التشكيلي، إذ لم يعد هذا الفن مقتصرا على الريشة واللوحة والألوان، بل أصبح بالإمكان أن ينتج عمل فنيا كاملا بمعزل عن قيام الفنان بإعداده، إلا أن منصور يرى أن الريشة واللوحة تبقى دائما لها تأثيرها ونكهتها الخاصة لأن الناس تحب أن ترى بصمة الفنان.
الريشة واللوحة تبقى دائما لها تأثيرها ونكهتها الخاصة لأن الناس تحب أن ترى بصمة الفنان
وفي هذا السياق يقول الفنان: "اليوم الأعمال الفنية أصبحت محوسبة لأن العصر الذي نعيش فيه يتطلب هذا، إذ أصبح الحديث يدور حول أن الفنان ليس بالضرورة أن يقوم بالعمل الفني بيده.
ويرى منصور أن هذا التوجه بالفن الذي يقول أن الفنان ليس بالضرورة أن يقوم بعمله بيده، يرجع إلى عشرينات القرن الماضي، مستذكرا لوحة مارسيل دوشامب المعنونة ب"المبولة".
في هذه اللوحة طرح دوشامب سؤالا عما هو فن وما ليس بفن، وساهم بذلك في إطلاق نقاشات كثيرة أدت في نهايتها إلى كسر التعريفات الضيقة للفنون والجماليات وفتحت مجالا واسعا شكل البدايات الأولى للفنون المعاصرة.
وكان العمل المؤلف من مبولة خزفية أعيد توجيهها وقلبها رأسا على عقب إلى وضع 90 درجة من وضعها الطبيعي في الاستخدام، ووقع عليها دوشامب R. Mutt.1917، مصنوعا بشكل جاهز وليس من عمل دوشامب، فكل ما فعله دوشامب كان تغيير وضعية المبولة لتكون بوضع قائم وكتب عليها تلك الأحرف التي يرجح أنها تشير لصانعها.
كما أن منصور الذي يرى في هذا التطور والفلسفات الجديدة بالفن للجيل الجديد والتقنيات الحديثة المتمثلة بالفيديو والصوت، وغيرها عناصر جميلة، وهي أحد اللغات التي يتفاعل معها العالم، كما أنه شارك في هذا العالم بوضعه لمخطط لتمثال، قام بإرساله إلى الصين ووصله جاهزا ومعدا بالكامل، ورغم هذا يصر منصور على أن العمل اليدوي يبقى الأجمل ويتفاعل معه الجمهور بشكل أكبر.
وكان منصور قد شارك مؤخرا في معرض "آرت دبي"، وهو من المعارض الفنية الدولية الرائدة في منطقة الشرق الأوسط، يقام سنويا في شهر مارس من كل عام في إمارة دبي، بمشاركة صالات عرض من جميع أنحاء العالم، ضمت العديد من الأعمال الفنية المعاصرة.
وهدف المعرض بنسخته السادسة عشر إلى نشر المعرفة وتعزيز قدرة القطاع في مجال التطوير السريع للتكليف بالفن العام.
وحول مشاركته في المعرض قال منصور إن التجمعات الفنية من هذا النوع تمكن الفنان من التعرف على آخر الموضات والفلسفات الفنية وأهم الفنانين الذين يعملون فيها، من خلال رؤية أعمالهم على الواقع إلا أن وجودنا كفلسطينيين في هذه المعارض رمزي أكثر مما هو مؤثر.