السبت  21 كانون الأول 2024

المادة 34 – عن كيف أنّ الهوية أرض

2023-06-20 12:40:16 PM
المادة 34 – عن كيف أنّ الهوية أرض
عمل بعنوان "ابتلعني"

تدوين- علي حمدالله

معرض الربيع: جائزة سليمان منصور ونبيل عناني. من تنظيم مركز خليل السكاكيني الثقافي وبالشراكة مع التجمّع الفلسطيني للفنون البصريّة، يتناول المعرض العلاقة بين الهوية والمكان، ويعتبر إحياء لمعرض الربيع الذي كان يقام سنوياً في ثمانينات القرن الماضي، بتنظيم رابطة الفنانين الفلسطينيين.  

بطاقة هويّة

اسم العمل: أبتلعني – طبين طبيعي ومواد مختلفة.

أنتجته الفنانة: راما الأشقر، في بيرزيت/رام الله. طالبة فنون بصريّة في كليّة الفنون والموسيقى والتصوير – جامعة بيرزيت.

سنة الإنتاج: 2021 ومستمر.

يتكوّن العمل من 33 منحوتة من الطين الطبيعي على شكل أشباه انسان.

خيلٌ تتنفس خَيَاْل

33 شخص، وجوههم خاوية من الملامح، أجسادهم حطام، أنهكتهم رحلة بحثٍ طويلة وجبانة، رحلة لم تبرح مكانها ولم تغيّر من طبيعة اتكائها أو جلوسها، فهي رحلةُ العقل المنهك الغارق في التجرّد والانكفاء، ليس بدايتها حواسّ، فليس من سمع ولا بصر ولا شمّ ولا ذوقٍ ولا حسّ، فأدوات الحواس من عيون وآذان وأنوف وألسن وأنامل لم تخلق بعد، أو أنّها خلقت وانتهت، فهي فيما بعد الخلق، إذ اضمحلت فذابت وتوارت إلى أن تلاشت في خيلٍ واحدٍ هزيلٍ يتنفس من خياشيمٍ ماؤها الخيال المحض، الخيال الذي يأنف الواقع أو يخشاه، لا أعرف، وخيلُنا خارج خيالها المحض تموت إذ تعجز عن التنفس، وليس في محض الخيال من أرضٍ ولا جبلٍ ولا تلٍ ولا وادٍ، ولذا فخيلنا لا تسير ولا تخبب ولا تعدو ولا تهرول بل تهيم سباحةً في ماء الخيال.

  الخيّال

كما الطارق تهوي الأسئلة على رؤوس الشخوص كل شخصٍ على حدا فتعمي من وقعها الحواس، والحواس هي أوّل الوصل، وصل الأنا بالواقع، وهي إذ ذهبت تذهب بذهابها الأنا عن الواقع، وبهذا تذهب الأنا. فالأنا بدون الواقع موْت، لقد خلقت "راما" شخوصاً ميتة! إلّا أنّ هذا الموت حيّ، فأنا أبحث إذن أنا موجود، والموتُ هنا يبحث، إلّا أنّ البحث لا يُدْرِك أسئلته، والبحث الذي لا يحمل سؤاله إمّا (لا بحث) أو (بحثٌ في كل شيء)، وحيث أنّه بحث من الأساس، فهو بحث في كل شيء وليس لا بحث، والسؤال غير المحدد يسائل كل شيء، فنحن إذن أمام سؤالٍ مطلق، سؤال الوجود. إلّا أنّ الوجود موجود خارج الأنا، أي ليس فيها أو في خيالها المحض، فهو سؤالُ وجودٍ لا يبحث فيه! مسكينةٌ تلك الخيْل، فقد حرمت من أرض وجودها التي تعشق، ورمي بها في غياهب محض الخيال. إنّ السؤال المطلق خاوي التحديد هو سؤال الطفل، سؤال البدايات، وسؤال البدايات عند ما هي ليست بدايات، سؤالٌ يؤسس لبداية بعد أن أدرك أنّ ما هو الآن هو نهاية ما هو كان، فهو سؤال جذريّ مطلق، حرّكته رغبةً عميقة ألحّت عليه بسؤال.

في حالة عجائبية يتعرّض السؤال لسؤال تطرحه عليه الرغبة، بقليلٍ من دلال فتاة ترتكز إلى ظهر أبيها، وبكثيرٍ من قلق فتاة فقدت أباها، تنظر عين الرغبة في عين السؤال وتسأل: "إذا كان كلّ ما كان وكلّ ما يصير أدّى بنا إلى هذا الحال!" وتسكت دون طرح السؤال، فسؤالها ما قبل سؤال، دغدغةٌ للعقل لينفتح على سؤال لا يعرفه أحد، ولا يستطيع على نطقه أحد.

على ظهر الخيْل التي تهيم سباحةً في الخيال المحض، ليس من خيّال، بل رغبةٌ تَكِزُ الخيْل دون أن تمتطيه، رغبةٌ بخيّالٍ لم يُخلق بعد. في هذا المشهد الضبابي، وبكثير من الذهن الفارغ، نستطيع أن نشكّ بأنّ الخيّال هو هو السؤال الذي لا يعرفه أحد.

خيلٌ وخيّالٌ وخيال

33 شخصاً خُلقوا نحتاً من طين، مبعثرين على طاولة من أبيض، وجوههم لا تلتقي، وأجسادهم لا تجمعها لغة، واللغة في أساس بنيتها منطقٌ شَكْله النطق، وأجسادهم لا يجمعها منطق، إذ اتخذ كلّ جسدٍ منهم زاوية مختلفة من الآخر، والطاولة مستديرة، تغيب فيها الزوايا، إذن الشخوص وأرضهم دون زوايا ينطلق منها البصر المتبصّر أو يعود إليها، ضياع! ليس ضياعاً عن شيء بل ضياع الشخوص عن بعضهم، وما واقع الانسان إن لم يكن مجتمعه وجماعته؟ وما هي الهويّة إن لم تكن كذلك؟ وماذا يبقى من هويّة الناس بعد أن ضاعوا عن بعضهم؟ هذا العمل الفنّي ليس له هويّة! أو أنّ هوية العمل غير محددة تماماً كما سؤاله، ألا يعني هذا أنّ السؤال هنا سؤال هويّة؟ ربما.

33 شخصاً خلقوا نحتاً من طين، ليس لهم واقع خارجهم إلّا البياض المحض، وكونهم خارج بعضهم يعني أنّ كل 32 شخصاً هم واقعُ الشخص الأخير، إلّا أنّ هذا لا يغيّر من الأمر شيئاً، فهم أيضاً لا يدركون بعضهم.

فلسبب نعرفه أو لا نعرفه، أو لأسباب كثيرة نعرفها أو لا نعرفها، انكفأ كلّ منهم يبحث في ذاته، عودة ملحميّة إلّا الذات المنفردة، بعد أن كفرت بكل ما هو خارجها، عودة بطيئة ولكن مستمرة، الزحف المستمر نحو الذات، والذات هنا هي الجسد، فالزحف يسائل الجسد دون رحمة، فيبتلعه، وماذا بعد الجسد؟ لا شيء!

أتعرف قصّة الرجل الذي ركض خلف اللص ليمسكه فسبقه، إنّ اندفاع الزحف نحو الذات اخترقها، فتطل بعض الذوات وقد خرقت جوفها إلى خلفها نحو الآخر. هي تبحث في الخلف، في الماضي، تبحث عن ماضِ كان له هويّة، ولا تجد إلّا ذاتاً أخرى من ذوات الحاضر، تبحث هي أيضاً عن ماضٍ كان له هويّة، فلا تجد إلّا ذاتاً أخرى،،، وهكذا.

33 شخصاً خلقوا من طين، مبعثرين على طاولة من أبيض، لا يجمعهم شيء، وهو هذا تحديداً ما يجمعهم، أنّهم كلّهم لا يجمعهم شيء.

33 شخصاً خلقوا من طين، مبعثرين على طاولة من أبيض، لا يجمعهم شيء، إلّا أنّهم كلّهم مواضيع زحف الذات نحوها لتخترق جوفها وتطلّ من خلفها على الآخر.

فالذات المنفردة هنا هي هي الخيل والخيّال والخيال، الخيال هو الوسط الذي تهيم فيه الخيل سباحةً.

مفارقة الروح

"إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين." قرآن كريم، سورة ص، الآيات 71، 72.

33 شخصاً خلقوا من طين، ولم تُنفخ فيهم روح! خاوية صدورهم إلّا من طين، محض طين. لا نعرف هنا إذا ما كانت الروح لقمة التهمها البحث في الذات، أو أنّها لم تكن أصلاً. ولكن ما هي الروح؟ سر الحياة. وهي إذا ما فارقت الجسد فارق الجسد الحياة. وحياة الجسد لا تكون إلّا في الحياة، في العيش والسير فيها، أي أنّ حياة الذات لا تكون إلّا في انغماسها في الحياة الموضوعية، الحياة الدنيا، الدنيا نفسها، الواقع، الوجود. فهذه شخوصٌ فقدت حياتها بعد أن فارقت الحياة، وهي لم تفارق الحياة موْتاً بل هروباً وانكفاء، فهي ليست ميتة بل في حالة موْت، فهو موتٌ بقرار، أو هو موْت لغياب القرار. مفارقة!

مقاربة المفارقة

لماذا كلّ هذا الفراق مع الحياة مع الواقع؟ هل كانت هجرة جماعية ومغادرة؟ لا يوجد ما يوحي بذلك. فلماذا إذن كلّ هذا الفراق مع الحياة؟ إنّه فراق مع الحياة دون مغادرتها، فراقٌ مع الحياة فيها.

لنقارب قليلاً الجواب، جواب سؤال ما هو السؤال.

إنّ الفراق الجوهري في هذا العمل، ليس بين الشخوص بعضها عن بعض، فهي كلّها طين، يجمعها غياب اللغة ومعاناة البحث عن السؤال، إنّ الفراق الجوهري في هذا العمل، هو فراق الشخوص عن أصلها، فالشخص طين، والطين أصله أرض، أمّا الأرض هنا فهي طاولة بيضاء مصنّعة وليست طبيعة ولا تمت لطبيعة شخوص الطين بصلة.

إذن يفتح العمل على مسائلة العبث بالأرض، هناك من عبث بالأرض فغيّر من طبيعتها، إنّ العمل احتجاجٌ كاملٌ على احتلال الحداثة المصنعّة للأرض، على زحف كولونياليّة التصنيع على طبيعة الأرض، احتلال إحلالي، يحلّ ما هو ليس أرض مكان الأرض، وهذه المقولة هي الوجه الآخر لمقولة إحلال شعب مكان شعب، إنّها المقولة التي تبدو أكثر جذريّة، إنّ نكبة الشعب الفلسطيني ليست فقط في إحلال شعب مكان شعب، بل في إحلال أرض مكان أرض، فالاستعمار ليس استيطان أرض فقط، بل إعادة إنتاجها على شاكلته! وهذا أعلى أشكال استلاب الهويّة، فالهوية ليست إلّا أرضها.

خارج المشهد

خارج المشهد، هناك يقف طرفين على نقيض.

الطرف الأوّل: راما الفنانة منتجة العمل.

وهي بعد أن خلقت شخوصها نحتاً من طين، وتأملت خلقها، رأتهم وكأنهم كلّهم مجتمعين هي، ورأت أنها تبتلعها، وصرخت بصوت مخنوق، يكاد لا يكون صوت ولا صراخ: "أَبْتَلِعُنِي".

الطرف الثاني: الجمهور

والجمهور هو كلّ من شاهد العمل، وتأمّل ما يمثله العمل من عملية البحث عن السؤال، والجمهور في مركز خليل السكاكيني فلسطيني، ونحن إذا ما نظرنا للجمهور والعمل على أنّهم مشهد واحد، رأينا أنّ الفلسطيني يتأمّل فلسطينيّته المسلوبة، وهو في تأمله يتأمّل ذاته كما أنّ ذوات شخوص الطين تتأمّل ذاتها، ولكنّ الجمهور يتأمّل ذاته الجمعية، فهو ينظر لكل شخوص الطين معاً، فهي معاً تشكّل هويّة العمل، والجمهور إذ نظر لكل الشخوص معاً نفخ فيها روحاً، روح الجماعة، فتجتمع شخوص الطين بعد أن نفخت فيها الروح في وحش طين عملاق، ينهض وينتصب، ويمد يده إلى عنق الفلسطيني المتأمّل، فيخنقها، ويصيح: "ماذا بعد؟ إلى متى؟"

ثمّ يهمس وقد حاز كل حكمة الأرض: "السؤال غير مهم ولا الجواب، بل العودة إلى الأرض، استعادتها...عُد."

لمزيد من التفاصيل حول المعرض: