تدوين-ذاكرات
نشرت جريدة الإتحاد الصادرة في حيفا بتاريخ 29 تموز من العام 1966 مقالة بعنوان "أين بلادي.. كلمة حول كراسة بلادي" للشاعر محمود درويش ينقد فيها قصيدة للشاعر جورج نجيب خليل.
وفيما يلي نص المقالة:
أراد الأستاذ جورج نجيب خليل، عن نية طاهرة، أن يردع شبابنا عن الرحيل بحثا عن وطن آخر. ولعله أدرك أن الشعر كالحب من أول نظرة أفضل وسيلة لتقصير المسافة وتوفير الوقت، فجلس يوم ٤-٧، كما يقول ليكتب قصيدة أراد لها أن تفعل مفعول خطبة طارق بن زياد في جنوده. بعد أسبوعين وصلتنا القصيدة وقرأناها مرتين، فكانت قيمتها الفنية تساوي الجهد الطفيف المبذول عليها، وأثبتت لنا أن قيمة الشعر لا تقاس بالسرعة التي يكتب بها وأكثر من ذلك لا تقاس بالنوايا الطيبة وهذه هي محنة الأستاذ جورج نجيب خليل اسم القصيدة "بلادي". يطالعنا في ذيل كل صفحة من صفحاتها هذا القرار.
بلادي جنة الفردوس ما أبهى مغانيها كفاكم بإدعاء الهجر تضليلا وتمويها: والقصيدة، من أولها إلى آخرها، عبارة عن وصف لجمال بلادنا الخارجي.. واستعراض لأسماء بعض مدنها وقراها المنعوتة بأوصاف متشابهة غير خالية من المبالغات بالطبع.
ورغم بعض الصور الجميلة المنثورة هنا وهناك، إلا أنها أغلبها صور عادية من النوع الجاهز الذي هلك من كثرة الاستعمال..
وكلها صور ترفرف فوق السطح لا ترمي بظل أو إيحاء، ولم تخرج عن تقليدية جورج المعروفة وافتعاله الواضح، وليست هذه الميزة الصارخة في شعره هي التي تدفعني إلى تناول هذه القصيدة، بصراحة أرجو أن يفتح المؤلف صدره الرحب لها. إن تمسك الإنسان بالوطن ليس مسألة جمالية كما يفهمها جورج في هذه القصيدة. واستعراض جغرافية بلادنا وجمالها الخارجي ليس بقادر على تعميق الشعور الوطني في نفس المواطن. وإذا كانت المسألة مسألة جمال فإن هنالك بلاداً كثيرة ذات طبيعة أجمل من طبيعة بلادنا. إن الاكتفاء بالضرب على هذا الوتر لا يبرر بقاء الشاب العربي في وطنه ومن الغرابة أن تبلغ السذاجة بأحد إلى حد الاعتقاد بأن سبب هجرة الشباب يعود إلى جمال الطبيعة أو قبحها.
إن الرحيل هو هروب من قسوة الطبيعة السياسية التي يفرضها الحكم القائم على شعبنا، والتي أصابت بعض النجاح الخطير في قطع الرابطة بين بعض شبابنا وبين وطنهم وخلقت بينهما بعض الجفاء وبقطع هذه الرابطة تبدلت مدلولات
الأشياء في نفسية هؤلاء الشباب فأصبحوا يرون أن الوطن أو حب الوطن يعود إلى عبء على ظهورهم وسكين في قلوبهم.
ولعل محاولات الحكم القائم، بأساليب عديدة، إيجاد هذا الحوار المصبوغ بلون الشك بين الشاب ووطنه، هو من أخطر الأسلحة النفسية التي يحاربنا بها، متجمعة بالطبع مع الأسلحة المادية. ولذلك، لا تستطيع القصيدة أو القصة أو المقالة التي تختار معالجة هذه القضية، أن تتحرر من تحليل الأسباب مكتفية بالنتائج. ومن البديهي أن الطبيب لا يستطيع تقديم الدواء بدون تشخيص الداء. فهل عرف في قصيدة جورج ما هو الداء؟ كلا: وهذا أيضا هو ما "حرر" جورج من إقناع المهاجر، بعدم الهجرة. وأستطيع أن أدعي أن القصيدة خالية من الإنسان. وشعر الطبيعة هو من أسخف الشعر إذا ما خلا من الإنسان.
إننا لا نعثر فيها على هذا الإنسان المعذّب الذي تكالبت عليه قوىً وعجز عن مقاومتها فاختار الرحيل. وبكلمة أخرى. لماذا يهرب هذا الشاب؟ أين هي مشاعره؟ أين ملامحه؟ أين حقوقه أو أين البحث عن حقوقه؟ أنا شخصيا لم ألتق به في هذه القصيدة، بل التقيت بالجبال والشواطيء والسواقي والبحر والطيور و و و. ما عدا بطل القصيدة وهل التقيت بصورة بلادي؟ حتى بلادي الحقيقية التي يدور الحديث عنها لم ألتق بها.
إن الموشاب والكيبوتس ليسا بطاقة هوية بلادي، بلادي هي الأرض والإنسان، الأرض اغتصبت فرحل عنها مليون إنسان وبقي 300 ألف إنسان "طابوراً خامساً" يعانون من اضطهاد شرس وتنكر للكيان القومي وتجاهل لحقوقهم، وحرمان حتى من حرية التجول في وطنهم. لهؤلاء الناس حق قومي عادل يناضلون من أجله ويتمسكون بحقهم في أرضهم ووطنهم، وهنالك من يعادي هذا الحق. الأماكن تبدلت أسماء بعضها عن الخارطة. هذه هي بلادي التي أحبها وإيماني بها وبالغد وبحقي فيها وكونها بلادي هو ما يدفعني إلى البقاء فيها. فأين هي في القصيدة؟ وأين جرح بلادي؟! أين هو؟ إنه لا يرى منها إلا قشورها أما أعماقها وما يعمل في قلبها من إحزان وترقب، فلم ينجح في مجرد لمسه، عكا مثلا، في القصيدة: شمخت مآذنها، وفاح الورد والريحان منها، والسور حارسها وحاميها والناصرة بروعتها تتحدث الكتب، وفيها سادة ومواطن الهوى العذري وكذلك صور المثلث والشارون ويافا والقدس حدد لها معالم عامة قد تنطبق على كل مكان آخر لم يشهد مأساة.. وكذلك اللد والرملة.. ما قتلتني إلا اللد والرملة! ثم إني لا أفهم كيف ابتسمت ليالينا في الكيبوتس والموشاب؟ أین أنا؟ أین أهلي؟ أين شعبي؟ أين أرضي؟ هل ضاع كيانه ووجوده في بسمة الكيبوتس والموشاب؟ إن هذا خلط خطر!
إنني لا أطالب جورج نجيب خليل بالبحث عن حل لهذه القضية وإيجاد طريق للخروج من هذه الأزمة، أطالبه بإلهاب مشاعر الشباب بالحماس والنضال، فهذا فوق احتماله. ولكني أطالبه بالإخلاص والعمق في رسم الصورة.. والتحديد بين الأشياء، وعدم تذويب حقوق شعب كامل في بسمة الكيبوتس.. أنا لا أتهم جورج بأنه لا يحب وطنه ولكني أقول إنه لا يعرف كيف يحب الوطن، ولا يحسن التعبير عن هذا الحب. لقد أساء إلى نفسه كشاعر وكمواطن، وعن غير قصد.. أساء إلينا وإلى وطننا الغالي وبعد. نعود إلى مقدمة القصيدة التي تستوقفنا فيها بعض الكلمات التي تحرضنا على نقاش جانبي لا أدري أيهما يفرضه.. الغرور أم الادعاء، بين الغرور والإدعاء خيط رفيع قطعه صديقنا جورج فكان له الإثنان.
لقد نعت المؤلف قصيدته بأنها المعلقة العصرية! هنالك من يزعم أن المعلقات سبع وهنالك من يزعم أنها عشر. ولكننا لم نسمع عن أحد يزعم أنها إحدى عشرة إلا جورج نجيب خليل. وهذا أمر سيبت فيه مؤرخو الأدب في عصر غير عصرنا إذا كان في الأمر عزاء لجورج. ولكن ابناء عصرنا، كما أعتقد، كما أعتقد سيرفضون هذا الإدعاء، خاصة وأن أصحاب المعلقات ليسوا هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم.