تدوين- إصدارات
صدر عن مؤسسة هنداوي كتاب للمفكر والفيلسوف التونسي فتحي المسكيني بعنوان "الجندر الحزين".
وبحسب المسكيني فإن: «ما يهمُّنا في هذا المبحث هو مدى إمكانية مراجعة الفرق بين المرأة والنساء في ضوء الدراسات الجندرية. لا يتعلَّق الأمر بالدفاع النسوي التنويري عن حقوق المرأة، بقدر ما يتعلق بالعمل النقدي على بَلورةِ سياقٍ مناسب لفهم تجرِبة هُوِية الأنوثة في ثقافتنا العميقة. وهو أمرٌ يستوجب إرساءَ تقاليدِ بحثٍ جندرية طويلة النفَس تحفر في تاريخ تقنيات الذات وأشكال الذاتية منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم.»
ويتساءل المسكيني: "متى صارت الإناث نساء؟ ما دام الرجال يزعمون أنهم رجالٌ بالطبع. ينطلق «فتحي المسكيني» في كتابه من هذا السؤال ليبحث في قضية النوع وأسطورة النظام الأبوي التي نُسجَت في الأزمنة الغابرة، وبُني عليها نظامٌ اجتماعي ظلَّ راسخًا ردَحًا طويلًا من الزمن، ولم يهتزَّ إلا مع الأزمنة الجديدة؛ حيث بدأ اختزال البشر في ذواتٍ مجرَّدة وتأسيسية انتهت إلى تجريد الرجال من أبَويَّتهم القديمة، وإفساح المجال أمام موجاتٍ غيرِ مسبوقة من الذات التي كان النظام الأبوي قد جرَّدها من ذاتيتها؛ هي موجاتٌ نسوية. لكن الفرق بين المرأة والنساء قد عمَّق المشكلة؛ فتحريرُ النساء معركةٌ لا تزال مذكَّرة في سريرتها، ولم تبدأ معركة المرأة بعد، ولا تزال الأنثى صامتة." وهنا يسأل «المسكيني»: إلى أي مدًى يُمكِن الاحتماء بما تقوله الجينات؟ قبل آلاف السنين كانت الأنثى حيوانًا مثل الذكر، وفي هذا لا فضل لجسدٍ على آخر.
وفيما يلي توطئة الكتاب
الذات والنحو في أسئلة الجندر
هل يمكن التفكير في ثلاثية الأب/ الملك/ الإله (في التراث التوحيدي الذي ننتمي إليه) من دون «مذكّر» نحوي؟ إنّ مقولة «الذكر» (الحيوانية) تبدو وكأنّها الخلفية الأنطولوجية التي توجّه كلّ استعاراتنا النحوية بوصفها في أوّل أمرها مجرّد استعارات حيوانية تحوّلت مع الوقت (بعد موتها) إلى مصادر أنفسنا العميقة عبر أجهزة تأسيسية للمعنى في العالم، قد يمكن إحصاؤها في ثلاثيّة ليست كغيرها، ألا وهي ثلاثية «الأب» و«الملك» و«الإله»- كأنّ «النحو» (أي قواعد توزيع استعارات الذكورة والأنوثة على الموجودات بوصفها مصنوعات لغوية) هو الذي يؤسّس بشكل غير مرئي كل مفهوماتنا عن الأبوّة والمُلك والألوهة. ومن ثمّ فإنّ كلّ نزاعاتنا واختلافاتها وهوياتنا وعقولنا وانفعالاتنا ثم مؤسساتنا وأجهزتنا التشريعية وأشكال حياتنا ودلالات موتنا... بل وأنماط صمتنا ومعاني سكوتنا، هي مقرّرات نحوية غير مرئية ومن ثمّ على الأغلب غير مفكَّر فيها بما هي كذلك.
وإذا أخذنا النحو بوصفه استعارة حيوانية ميّتة تحوّلت مع الوقت إلى أجهزة معيارية، فإنّه يبدو أنّ مفهوم «المذكّر» النحوي هو أصل كلّ أقوالنا حول أنفسنا القديمة. ويبدو أنّ الإنسانية الحالية تدعونا إلى مراجعة هذا المعطى الأنطولوجي المبكّر، نعني إعادة وصفه من الداخل بوصفه مجرّد استعارة لغوية ليس أكثر. وذلك يعني أنّه مجرّد هوية عرضية لم يعد يجب على أحد تكريسها بلا شروط: كل استعارة نحوية هي استعارة حيوانية ميّتة تحوّلت مع الوقت إلى جهاز معنى. – ومن ثمّ علينا أن نفترض دون مواربة أنّ «الأب» هو مجرد استعارة نحوية لا أكثر. وأنّ «الملك» هو إشارة نحوية (مذكّر لغوي يشير) إلى ذَكَر بيولوجي تحوّل إلى نموذج معياري للسلطة غير قابل للتأنيث إلاّ عرضًا. وأخيرا أنّ «الإله» كما تمثّله التوحيديون خاصة هو في أصله «البشري» مذكّر نحوي، أي مجرد استعارة نحوية تحوّلت مع الاستعمال إلى «جوهر» مستقل عن المتكلّمين يتأسس وجوده على معنى «التعالي». الأبوّة والمُلك والألوهة استعارات نحوية قامت على نسيان الحيوان. وفي كل مرة يتعلق الأمر برسم مسافة عن هذه الاستعارة الحيوانية الأصلية باستعارة نحوية: إنّ «حرمة» الأب و«هيبة» الملك و«قداسة» الإله هي أشكال متضافرة من «التعالي» على نموذج «الحيوان» (محتكرا في ماهية الذكر) الذي يختفي وراء كل استعاراتنا النحوية عن «المذكّر». والسؤال البدائي هو: كيف يمكن لنا اليوم أن نؤرّخ للمسافة المقطوعة من «الذكر» (الحيواني) إلى «المذكّر» (النحوي) إلى «الأب» (العائلي) إلى «الملك» (السياسي) إلى «الإله» (الديني)؟
وعلينا أن نشرع في ورشات نقاش حول النتائج «العرضية» المزعجة التي تنجم عن إعادة تنصيب المذكّر النحوي في مكانه التأسيسي الذي تعوّدنا من دهرنا أن نغفل عنه بل أن نقصيه من أيّ اعتبار أخلاقي حول «الأب»، وأيّ اعتبار سياسي حول «الملك»، وأي اعتبار ديني حول «الإله». ولذلك فالسؤال الذي يسبق إلى البحث لا بدّ أن يكون من هذا القبيل: بأيّ وجه انزلق استعمال الموجودات بعامة، بما في ذلك البشر أنفسهم، ولكن أيضا العوالم والأدوات والمعاني.. من النحو إلى الأخلاق أو السياسة أو الدين؟ وذلك انطلاقا من افتراض أوّلي ينصّ على أنّ «النحو» لا يملك أيّ حقيقة معطاة أو قبلية بل هو مجرّد «قواعد» عرضية أو تكوّنت بشكل عرضي من استعارات حيوانية منسية، أخذت تتحكّم شيئا فشيئا في طريقة البشر في الإشارة إلى الأشياء أو إلى أنفسهم بوصفها كيانات اصطناعية قابلة للاستعمال.
ربما علينا قبل ذلك أي نتساءل عن الماضي الأنطولوجي الصامت للمذكّر النحوي، ونعني بذلك على الأرجح الماضي البيولوجي لكل ذكر بعامة. وهذا يعني أنّ أوّل وثيقة أنطولوجية للمتكلّم البشري بعامة هو جسمه البيولوجي، أي الجسم من حيث هو قابل للتوزيع النحوي إلى ذكر وأنثى أو غير ذلك بواسطة «الأعضاء». وهكذا كانت الخارطة الأولى لتوزيع البشر إلى ذكور وإناث تتمثّل في توزيع «الأعضاء» إلى حروف نحوية. ومن ثمّ ليس الذكر أو الأنثى سوى استعارة حيوانية استولى عليها النحو وحوّلها إلى استعارة نحوية تهدف إلى ردّ جسم بشري إلى عضو بعينه. كأنّ النحو هو مجرّد جهاز «تعضية» ما بعد-حيوانية تمكّن من استعمال الأجسام بوصفها مواد قابلة للتصنيف. طبعا، لا بد من التساؤل لماذا تمّ تنصيب الذكر (وليس الأنثى) نموذجا لدوائر العائلة والجماعة والملة التي سوف تنجرّ عن ذلك التنصيب تحت مقولات «الأب» و«الملك» و«الإله». لكنّ عدم استحالة العثور على «أمّ» نموذجية مؤسّسة للجماعة أو الألوهة سوف يحدّ من أيّ حصر للمشكلة في معركة بين الجنسين. كل «تجنيس» للمشكلة يحصرها في نسويّة انفصالية تحارب الرجولة بوصفها خطأ معياريّا في العلاقة مع الأنثى هو اختيار نضالي يحيد بنا عن المشكل الذي يهمّنا. إنّ بيت القصيد عندنا هنا هو: من هو المذكّر؟ نعني: من هو المذكّر الذي أسّسنا عليه مفهوم «الأب» و«الملك» و«الإله» في حركة ميتافيزيقية واحدة؟ وهل هو مجرد استعارة نحوية؟ ثمّ كيف يمكننا مراقبة الانزياح من الجسم البيولوجي إلى النحو في جميع اللغات؟ هل يمكن ردّ كل مشاكلنا الأخلاقية (النظام الأبوي) والسياسية (النظام الملكي) والدينية (الملة التوحيدية) إلى مجرّد انزياحات نحوية عرضية من استعارة حيوانية متردّمة ربما آن الأوان إلى مراجعتها (الوراثية)؟
تفترض الفلسفة التي نعتمدها هنا أنّ كلّ ما يقع في أفق البشر هو عرضي ولا يمكنه أن يعوّل في فهم نفسه على أيّ نقطة «متعالية»، نعي توجد خارج ذلك الأفق. ولا يعني «النحو» غير طريقة عرضية في استعمال الألفاظ التي هي في أوّل أمرها أصوات عرضية استعملها نوع عرضي من الحيوانات. ولا تتميّز لغة عن لغة إلاّ بقدر تعقّد ذلك النحو واستقرار قواعده وتحوّله شيئا فشيئا إلى نموذج غير مرئي لكل استعمالات البشر لأنفسهم أو للأشياء من حولهم أو لجملة وجودهم في العالم أو لجملة العالم نفسه. نحن في الأصل أجسام محضة ملقى بها في أرض تكون قد هيّأت لنا كل الأسباب العرضية لظهورنا. قال المتنبي: «فهذه الأرواح من جوّه... وهذه الأجسام من تربه». وليس النحو غير طريقة تنظيم هذه الواقعة العرضية التي نسمّيه «البشر» وتحويلها إلى جهاز معنى قابل للاستعمال. وإذا ما نجحنا في توضيح نمط الانزياح من «البيولوجيا» إلى «النحو» صار كل شيء ممكنا، نعني صار من الممكن عندئذ أن نفهم طريقة الانزياح من النحو إلى الأخلاق (نعني سبر المسافة من الذكر إلى الأب) أو من النحو إلى السياسة (كشف الانقلاب من الأب إلى الملك) أو من النحو إلى الدين (رصد التعالي من الملك إلى الإله). قد يبدو لنا أنّ «الأب» هو التحقيق الوحيد لاستعارة «الذكر» وبالتالي التجسيد الوحيد المناسب لتنصيب المذكّر النحوي بوصفه نموذجا للنظام الأبوي. لكنّ ذلك ليس سوى الوجه المباشر من المسألة التي تعنينا. إنّ النحو يخترق كل دوائر المعنى التي لئن كانت تندلع مع الأب إلاّ أنّها لا تقف عنده، إذْ سرعان ما تحوّل الأب إلى استعارة خلفيّة لكلّ مقولاتنا اللاحقة حول الملك (نعني حول كل من ينصّب نفسه سلطة عمودية على الآخرين في أيّ نشاط كان) أو حول الإله (نعني حول كل نوع من المعبودات أو من المقدّسات التي تنجح في الانتصاب في أفق البشر باعتبارها أفقا متعاليا عليهم لإنتاج المعنى). ولذلك لا يخلو تاريخ أنفسنا القديمة والجديدة من تبادل أساسي للاستعارات بين الأب والملك والإله في لعبة لغوية تقوم على تبادل الاستعارة بين النحو والحيوان. وهو تبادل نحوي في أصله، وإن كنّا ننتظر منه أن يكون خطأ عرضيّا في وصف أنفسنا كحيوانات. - في حلم كل أب هناك ملك أو إله غير مرئي. وفي خطّة كل ملك هناك أب أو إله تأسيسي. وفي وحي كل إله هناك أب أو ملك لا يمكن الاستغناء عنه.
هذا النوع من الافتراض يجبرنا على الوضع التأويلي التالي: إنّ ثلاثية الأب/ الملك/ الإله جهاز مؤسَّس على بنية نحوية أصلية واحدة، تنتج استعارات تأسيسية من جنس واحد، راجعة كلّها إلى قرار ميتافيزيقي واسع النطاق حول ماهية «الحيوان» بعامة، - ومن ثمّ فإنّ كلّ تحرّر من تلك الثلاثية لا بدّ وأن يكون تحرّرا متضافرا وليس أحاديّا. مثلا: لا معنى لأيّ نزاع نسوي مع الأب في حين أنّنا مازلنا نعوّل على قيم الإله التوحيدي. كذلك: لا معنى لأيّ صراع سياسي ضدّ نموذج الملك أو تمرّد إلحادي على الإله التوحيدي في حين أنّنا مازلنا ندافع عن النظام الأبوي بوصفه الشكل الوحيد من الأسرة. أمّا الصعوبة غير المرئية وراء ذلك جميعا فهي هذه التي أشار إليها نيتشه في كتابه «أفول الأصنام» (فصل «العقل» في الفلسفة،§ 5) قائلا: «أخشى أنّنا لن نتخلّص من الإله لأنّنا مازلنا نعتقد في النحو..». إنّ ما يربط بين عناصر ثلاثية الأب/ الملك/ الإله ليس نموذج الذكورة البيولوجية بل بالتحديد مواصلة «الاعتقاد» في النحو. إنّ النحو هو جهاز الاعتقاد غير المرئي في كل لغة ومن ثمّ في أفق كل جماعة بشرية. لكنّ النحو (وكل الألعاب اللغوية التي انجرّت عنه في دوائر الأب/ الملك/ الإله) يظلّ هو نفسه لغزا طالما أنّ تصوّرنا عن «الحيوان»، من حيث هو تصوّر مكثّف وجامع عن معنى «الحياة» بالنسبة إلينا، لم تتمّ مراجعته أو إعادة وصفه.
بلا ريب، ثمّة صعوبات داخلية لا تزال تمنعنا من أيّ تفكير جدّي في هذه المسائل متى طُرحت بهذا الشكل. مثلا: إنّ جوّا «نسويّا» قد هيمن على أيّ نقاش حول «المذكّر» بحيث حصر أفق البحث في السؤال عن تحرّر النساء من «الهيمنة الذكورية» ومن «النظام الأبوي» بعامة؛ كذلك: إنّ تاريخ الأب لم يُكتب إلاّ عرضا؛ ولم نؤرّخ لقيمة «الأبوّة» إلاّ في حدود تاريخ العائلة؛ ولا يزال السؤال عن «الملك» سياسيّا فقط؛ ونحن لا نزال بعيدين عن قبول إمكانية كتابة تاريخ معنى الألوهة، أكانت توحيدية أم غير توحيدية، بوصفها «حدثا» أخلاقيا وقع في تاريخ نوع من الشعوب وفي فترة يمكن وصفها أو إعادة وصفها...وبعامة نحن لا نطرح أسئلة مناسبة عن العلاقة بين النحو والحيوان، أو بين النحو والسياسة أو بين الحيوان والدين.