السبت  09 آب 2025

الطاهر لبيب يكتب: ثقافة اللامعنى

2025-08-09 08:14:59 AM
الطاهر لبيب يكتب: ثقافة اللامعنى

تدوين- ثقافات

في "لسان العرب" تعريفٌ جميل: "معنى كلّ شيءٍ محنتُه وحاله التي يصير إليها أمره". في المحنة امتحانٌ، والامتحان، هنا، ليس لسانيًّا وإنّما هو في علاقة الدّال بمدلوله، خارجَ اللغة. قد تقول قولًا سليم اللغة، مستحسَن التركيب، ولكن لا معني له. وإذا كنتَ، متلقّيا (والمعنى لا يتحدّد من دون تلقّيه) فقد يغيب عنك مدلولٌ قصده القائلُ (كما يحدث حين تستمع إلى خطابٍ لا تفهمه) وقد تستحضر مدلولًا لم يقصده (كما يحدث حين تستمع إلى من يهذي أو من فقد وعيه). امتحان المعنى، نهايةَ الأمر، هو في حقيقة مدلوله، فلا معنى لما خرج عن الحقيقة أو عليها. الخلاصة أنه لا يكفي أن تقول لتكون قلتَ شيئًا ذا معنى: قد لا تكون قلتَ شيئًا، وقد تكون قلتَ اللّاشيء.

اللامعنى، من وجهةٍ كهذه، هو ما فقدَ العلاقة الدالّة بالحقيقة أو بالأشياء أو بالواقع، كما يقال. هو "الكلام لغير شيءٍ"، كما قال قدامى العرب، أو هو الكلام الفارغ، كما قد نقول، اليوم. اللامعنى فسادُ معنى، ولهذا الفساد أوجهٌ كثيرة: اللغو والحشو والثرثرة والبربرة والترديد، أو "الإكثار في تخليطٍ"، كما في الأكل -وهذه نعوتٌ قديمة- يضاف إليها، في لغة اليوم، التكرار وتوكيد المفروغ منه وكليشيهات الحسّ المشترك والكلّيات (فكلّ زعيمٍ أوحد وكلّ جمهورٍ غفير!) والينْبغيّات (بلا سندٍ في الواقع) وأفعل التّفضيل (امتدادًا لقديم المدح والهجاء)، الخ... كلّ هذا ومثيله لا ينتج المعنى، مهما أوْهم به وتطاول فيه وعليه.

لا يكفي أن تقول لتكون قلتَ شيئًا ذا معنى: قد لا تكون قلتَ شيئًا، وقد تكون قلتَ اللّاشيء

إنتاج المعنى هو أن تأتي بجديدٍ فيه، مع تركه مفتوحًا. هذا ما تفعله النّصوص المؤسِّسة، كما تفعله عجائب الإبداع في جملةٍ واحدة أو في بيت شعرٍ أو في قطعةٍ موسيقيّة أو في لوحة رسّام. وإذا كان هذا فكلّ ما لا ينتج معنى هو من اللامعنى. ما قد يبدو مفارقة هو أن يكون المعنى، بصورةٍ ما، ناتجًا عن اللامعنى، باعتباره مواجهًا له أو ردَّ فعلٍ ضدّه. يقول البعض بوجود المعنى في اللاّمعنى، والمؤكّد أنّ ما لا معنى له قابلٌ للتأويل، تأويلًا يكسبه معنىً ما: قد يلغو شخصٌ ولكنّ السّامع يظنّ أنّ في اللغو معنىً لم يدركه. في فيلم "فورست غامب" يركض البطل ثلاث سنوات، من دون أن يعرف لماذا هو يركض، ولكنّ الناس ركضوا وراءه، ظنّا منهم بأنّ لركضه مغزىً. قريبٌ من هذا ما نفعله، في حياتنا اليوميّة، حين نسند لقولٍ أو فعل أو ظاهرة معنىً لا تعنيه. لو كان إدراكنا للمعاني على مقاس الحقائق لتغيّرت علاقاتنا بالناس والكون.

تفشّي ثقافة اللامعنى، بتعريفيْها الفكري والانتروبولوجي، ظاهرةٌ كونيّة متفاقمة، ولها نعوتٌ متنوّعة. الفيلسوف كاستورياديس رآها في ما سماه "صعود اللاّدلالة"، وهو صعود أو تفشٍّ حوّل اللاشيءَ إلى شيءٍ وأسند إليه معنى. هكذا أصبحنا نبحث عن معنى ما لا معنى له بعد أن كنا نبحث عن معنى ما له معنى. لا يُستبعد، والحال هذه، أن ينتشر، يومًا، تخصّصٌ في علم اللاّمعنى أو في ما أُجازف بتسميته اللاّمعنالوجيا! وراء التسمية استحضارٌ لسياق الظاهرة: نشرُ التفاهة وتنويع وسائل استهلاكها وفسح المجال للمتخصّصين في تسطيح الفكر وتفتيته، خصوصًا في وسائل الإعلام، هو من آليات نظام رأسمالي نيولبرالي استهلاكي معوْلم، وهو من أعراضه أيضا. هذا هو السبب الأصلي في انتشاره.

إنتاج المعنى هو أن تأتي بجديدٍ فيه، مع تركه مفتوحًا. هذا ما تفعله النّصوص المؤسِّسة، كما تفعله عجائب الإبداع في جملةٍ واحدة

وكما يكون في مجالات عدّة، هناك تفاهةٌ تابعة: المجتمعات التابعة لا تكتفي بتفاهاتها الذاتية وإنما تستورد أو تتلقّى تفاهات المجتمعات التي تصنعها. هكذا يصبح ما لا معنى له في أمريكا موضوعَ نقاشٍ وتداول في بنغلادش، مثلًا. على أن المشكلة ليست في التافه، في حدّ ذاته، فلكل ّمجتمع منه نصيب، وإنما هي في أن تحقّق التفاهة هدفها المضمر الذي هو انشغال الناس بها، على حساب الأهمّ في حياتهم ومصيرهم. الانشغال بها، وإن أمتع الكثيرين، هو نوع من استبطان الخضوع. معنى اللامعنى، خارجَ اللغة، هو هذا: الإخضاع. لم يخطئ من تحدّث عن "التّفاهَلوجيا".

ثقافتنا العربية الراهنة تنتج اللامعنى أكثر مما تنتج المعنى. هذه معاينة وليست رأيًا. يكفي، في المعاينة، أن ننظر في خليط ما يُقال ويُكتب، يوميًا، وفي أصناف التعليق عليه، في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. من قال إنّ "الكلام على الكلام صعبٌ"! ما أيسره! هو، اليومَ، كلامٌ "يُعلّقه" من أراد، بأيّة صيغةٍ أراد، على ما فهم وما لم يفهم من الكلام. الأمثلة لا تنتهي. وأما السؤال فهو كيف أمكن لهذه الثقافة الكبيرة التي قامت، أيّامَ مدّها، على إنتاج المعنى المتوالد المفتوح أن يكون أغلب ما تنتجه فاسدَ المعنى أو فاقدًا له؟ لا يتصل الأمر بالكفاءة وإنما بتعطيلها، فمن لهم، من العرب، أن ينتجوا المعنى، لولا تعطيل كفاءتهم، كثيرون.

ثقافتنا العربية الراهنة تنتج اللامعنى أكثر مما تنتج المعنى

من الصّعب حصر المعطّلات وترتيبها، فهي متنوّعة متداخلة. إذا اكتفينا برُباعيّ السياسي والدين والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، باعتباره الأكثرَ إنتاجًا للاّمعنى (وكان بالإمكان إضافة المعرفي واللغوي ولكنّ عرضهما يطول) أمكن أن نرصد بعض آليات تعطيل المعنى في السائد من ثقافتنا، اليوم:

الأولى التملّك: تملّك المعنى موضوع صراعٍ، ومردود هذا الصّراع لا يتوقّف عند معرفة الخطأ من الصواب وإنما يمتدّ، عمليًّا أو رمزيًّا، إلى سلطةٍ أو وجاهة. تملّك المعنى ليس هدفًا، في حدّ ذاته، وإنما هو لفرض الاعتراف بملكيّته ولإكسابه شرعيّة السيادة في مجموعةٍ أو مجتمع، وهذا ما يقوم عليه "الخطاب الرسمي" حين يدّعي ملكية المعنى ولا يقبل المنازعة فيه.

الثانية الاختزال: ليكون المعنى على مقاس السلطة يتمّ اختزال معنى الظواهر والأشياء في معنى أوحد، يجُبُّ ما قبله مما أنتج الفكر البشري. من يقوم بهذا الاختزال وترويجه يعوّل، في التسليم به، على افتراض جهل الأغلبيّة بمسار المعاني. مثالٌ واحد: من لا يعرف مسار مفهوم المجتمع المدني، خلال بعض قرون، لا يتعجّب من قولهم، في الإعلام، إنّ اجتماعًا تمّ "بحضور المجتمع المدني" أو "بحضور أطيافه"، وهذا أغرب! لا يتعجّب من الإيحاء، في السياسة، بأنّ المجتمع المدني هو " من هم معنا"، والباقون خارجَه. لكأنّ المجتمع المدني نادٍ من النوادي.

الثالثة الغلقُ: لا يكفي اختزال المعنى في وحدانيّته لضمان استمرار تملّكه. لا بدّ من تحصينه حتى لا يتسيّب في تعدّديّةٍ تُفقده الثبات. وأقوى تحصينٍ لوحدانية المعنى غلقُه في وجه التأويل: على هذا المعنى المنغلق أن يبدو مكتملًا، متشبّعًا، غيرَ محتاجٍ إلى روافد. ما يحتاج إليه هو تكراره، لا أكثر. التكرار لا ينتج المعنى ولكنّه يُتيح للمعنى المنغلق أن يستمرّ، قرونًا، وهذا نعرفه!

الرابعة الشَّعْبنة: وراء ما قد يبدو من تلقائية وتسيّب أو فوضى في إنتاج اللامعنى وتداوله ونشره سلطٌ تعتمد اللامعنى، قولًا وفعلًا، لتواجه به المعنى الذي يواجه لامعناها. أوضح مثالٍ دُعاةُ القنوات: لا يكتفون باستحضار الأساطير ولا بالحكم في معاشرة الجنّ وإنما يواجهون المعرفة بما ليس معرفةً، جهلًا ويقينًا، أيضًا، بأنّ عامة الناس يسلّمون بما يقول الدعاة لهم. لنتصوّر عامة الناس يسلّمون بما قال أحدهم، هذه الأيام من القرن الواحد والعشرين، مستعينًا بالفايسبوك: "علم المنطق حرامٌ، شرعًا، ولا تجوز دراسته ولا معرفته... هو مقدمة لعلم الفلسفة، وما كان مقدّمةً لشرٍّ فهو شرٌّ". المتوقّع، كما أصبح مألوفًا، أن قولًا كهذا يجد من التبريكات واللايكات، في ثقافة اللامعنى، ما لا يجد مفكر عقلانيٌّ لامع.

الشَّعْبنة تُدرج اللامعنى ضمن ثقافةٍ "شعبيّة" وتحوّله إلى نسقٍ سائد يستوعب لا معاني السلطِ ويجعلها مقبولةً أو، في الأقلّ، مألوفة. وراء هذه الشَّعْبنة شعبويّةٌ فقيرة الفكرِ في الغالب، تعادي النخب الفكرية القادرة على إنتاج المعنى.

لم يعد صادمًا، والحال هذه، هذا الأملُ: ليت الأغلبيّةَ تكفُّ عن الكلام ليتّسع للمعنى مجال!


* نُشر هذا النص "مقدّمةً" لكتاب الموسم الثقافي الثالث والعشرين 2023-2024 "إشراقات"-مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث- البحرين.