الخميس  02 أيار 2024

الثقافة في المواجهة

2023-12-11 01:10:57 AM
الثقافة في المواجهة
للمرة الأولى منذ إصدارها الأول قبل خمس سنوات.. مجلة الليبي تظهر على غلافها في عددها 59 موضوعاً غير ليبي

تدوين-فراس حج محمد

مساحة شخصية (10)

انضمت مجلة الليبي التي تصدر عن مجلس النواب الليبي إلى مجموعة من المطبوعات الدورية والفعاليات الثقافية العربية والعالمية التي انتبهت إلى ما يحدث في فلسطين من حرب همجية، انهارت فيها كل القواعد والقيم الدولية والإنسانية، فصدر العدد (59- نوفمبر 2023) من المجلة ملتفتاً وبقوة إلى فلسطين، بدءا بالغلاف، حيث لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور، ومعرّفا به تعريفا مختصراً، وعنوان العدد "طائر الفينيق الفلسطيني".

خصص رئيس التحرير الدكتور الصديق بودوارة المغربي كلمة العدد للحديث عن فلسطين والحرب التي يشنها الاحتلال على غزة، بدأ الافتتاحية بتلك المفارقة العجيبة؛ فمن يهتمون من الغربيين بالقطط والصحة النفسية والبيولوجية للقطط، يتجاهلون أطفال غزة وأهل غزة، فكأننا لم نصل بعد إلى مرتبة قطة غربية يسعى الغربيون إلى رفاهيتها، فهم لم يروا أطفال غزة وإن كانوا رؤوا القطط والتفتوا إلى دلالها والحرص عليها.

وفي هذا السياق من المسألة اليهودية، يستعرض د. المغربي مجموعة من الأعمال التي تناقش صورة اليهود في الأدب، ويبدأ من كتاب ممدوح عدوان "تهويد المعرفة" ثم يعرج على كتب إبداعية أخرى ليرصد صورة اليهود في الأدب الغربي، وصولا إلى تغيير الصورة من السلبية جدا إلى الإيجابية جداً منذ القرن التاسع عشر والتحول في النظرة الغربية المسيحية تجاه اليهود في أوروبا عند السياسيين وعند الكتاب، وضرب لذلك مثالين، الأول نابليون الذي يمكن أن يعدّ صاحب أول وعد لليهود بحق امتلاك فلسطين والعيش فيها بأمان، والثاني الشاعر الإنجليزي جورج بايرون الذي كتب مجموعة "قصائد عبرية".

كما ينشر العدد لوحتين فنيتين واحدة للفنان الفلسطيني رائد القطناني، والأخرى للفنانة الليبية نسرين الحمر، وتجسد اللوحتان البعد الفلسطيني؛ فالمرأة في لوحة القطناني ترتدي الزي الفلسطيني التقليدي (المطرز) والشال الأبيض (اليانس)، وبين يديها مشغولة يدوية (صنية قش) تضع فيها القدس، وتنظر نحو اليمين بملامح فيها الكثير من الترقب والتوجس. أما لوحة الحمر فستوحي مأساة الأطفال في غزة، حيث يبدو مجموعة من الأطفال والطفلات يتناثرون في فضاء اللوحة بفعل ما تتعرض له غزة من حرب إبادة جماعية، اخترق فيها الكيان الغاصب كل الأعراف والمواثيق الدولية على مستويين عسكري ممنهج على مستوى الكيان، وتصرف فردي انتهجه الأفراد الداخلين إلى بيوت الغزيين، وسأذكر بعض الأمثلة في نهاية هذه الكتابة.

كما شمل العدد وقفة مع كتاب الفيلسوفة الألمانية حنة أرندنت "أيخمان في القدس- تفاهة الشر" حيث يستنتج الكاتب الأردني معاذ بني عامر  ثلاثة ملامح لتفاهة الشر في هذه القضية، يلخصها في ثلاث نقاط، وهي: تفاهة أيخمان نفسه بوصفه ممثلا لنظام عبثي، وتفاهة إسرائيل نفسها بصفتها "ضد إنسانية" في أمرين؛ في اختراقها القانون الدولي عندما اختطفت أيخمان من الأرجنتين، والأمر الثاني تفاهة النظام القضائي الذي حاكم إيخمان وإدانته بما أدين فيه، وتم إعدامه. وأما التفاهة الثالثة فكانت "تمثل الشر كقيمة أخيرة تحتكم إليها إسرائيل" وتركز في المحاكمة على أن أيخمان ارتكب جرائم ضد اليهود وتجاهل الإشارة إلى جرائمه ضد غير اليهود. وفي نهاية وقفته يشير إلى أنه قد تم "رجم حنة أرندنت كما لو كانت شيطاناً. فقد اقتبست- دون قراءة كاملة للمحتوى- فقرات من كتابها" الذي لم يترجم كاملا إلا مؤخراً.

وللتوضيح: وقعت حادثة أدولف أيخمان الموصوف بأنه "مرتكب الهولوكوست الرئيسي"- كما هي مكتوبة في الويكيبيديا- عام 1960. اختُطف أيخمان من الأرجنتين ونُقل إلى الكيان الغاصب لمحاكمته، بدأت المحاكمة في 11/4/1961، وبُثت عبر التلفزيون بهدف التثقيف حول الجرائم المرتكبة ضد اليهود، اتهم أيخمان بخمسة عشر تهمة بانتهاك القانون. بدأت محاكمته في 11/4/1961، وترأسها ثلاثة قضاة: موشيه لاندو وبنيامين هاليفي ويتسحاك رافيه. أُدين أيخمان في جميع التهم وحُكم عليه بالإعدام. أُعدم شنقاً في 31/5/1962 في سجن الرملة، ويعد هذا حكم الإعدام القضائي الوحيد الذي نفذه الصهاينة إلى الآن. ولعلهم يحضرون أنفسهم لإعادته مرة أخرى، إذ طالبت بعض الأصوات المتطرفة الصهيونية بسن قانون يتيح إعدام "المخربين" الفلسطينيين.

كما تنشر مجلة الليبي في هذا العدد بحثا للكاتب الفلسطيني محمد الحزماوي يتناول فيه "النقود العثمانية" في مدينة القدس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1850-1900)، والحلقة الثانية من "مساحة شخصية" للكاتب فراس حج محمد، وتدور حول "الأدب في ظل الحرب"، ومقالة للكاتب الليبي أحمد ناصر اقرين بعنوان "هيا نواسي الصهاينة"، مقالة ذات ملامح ساخرة، وتذكر بتاريخ نشأة الكيان الغاصب على أرض فلسطين منذ 75 عاماً.

ويؤشر دخول المجلات الأدبية والفعاليات الثقافية إلى خط المواجهة مع الاحتلال إلى دور الثقافة الفاعل في الحرب، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تدخل المجلات إلى هذه الساحة من التوثيق والمقاومة بالفكر والأدب، فعلى سبيل المثال لا الحصر، خصصت عام 1973 مجلة الآداب البيروتية لحرب السادس من أكتوبر المجيد عددا مزدوجا (11 و12) نشر في ديسمبر (كانون أول) بعد أن توقفت المجلة عن الصدور في أكتوبر بسبب الحرب، وضم العدد مواد متعددة لنخبة من كتاب ذلك العصر من مصر ولبنان والعراق وسوريا وفلسطين والجزائر والسعودية وتونس واليمن الديمقراطية والكويت والسودان والمغرب وليبيا، وجاء العدد تحت عنوان "أدباؤنا في المعركة".

لقد كان الشاعر العربي- بوصفه المنبر الثقافي الأقوى- قديما أحد أركان الحروب، فقد صارت اليوم المنابر الثقافية جزءا من هذه الحروب، لاسيما والعالم يعيش حرباً غير عادية، أرجعت غزة إلى ما قبل الغاز والكهرباء والمواصلات الحديثة، حيث غزة اليوم تعاني من كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة، بعد أن طالت الأعمال العسكرية الهمجية للاحتلال كل الوجود الفلسطيني، من البشر والحجر والشجر، والتراث الثقافي الفلسطيني، فاستهدف الاحتلال الأماكن الأثرية في غزة، فدمّر مبنى الأرشيف المركزي بمدينة غزة، وأعدم آلاف الوثائق التاريخية، وقصف المسجد العمري، أقدم مسجد في قطاع غزة، فضلا عن استهدافه النخب الثقافية من علماء وشعراء وفنانين ورؤساء جامعات.

إنها حرب مفتوحة على الكيانية الفلسطينية بكل ألوانها واتجاهاتها لتدميرها ومحوها بالكامل، مع ما يتفق ومفهوم "الإبادة الجماعية"، لتوفر القصد والنية لإنهاء هذا الوجود الفلسطيني الحضاري والعرقي على أرض فلسطين التاريخية، وما يصاحب ذلك من تحريض الاحتلال على القتل والعنف والتخلص الكامل من الفلسطينيين في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية، ليبدو أمرا ممنهجاً فكريا راسخا وليس أمرا عرضياً مؤقتاً.

ولم يكن الصهاينة وحدهم في هذه الحرب، بل أمريكا والغرب بقضه وقضيضه معها، يحاربون الشعب الفلسطيني سياسيا وعسكريا وثقافياً، ويعيدون معنا التجربة ذاتها في حربهم على روسيا، فلم يكتفوا بالحرب العسكرية والسياسية، والدعم المطلق لأكروانيا، بل توجهوا إلى تدمير الثقافة الروسية ومحاصرتها ومنع تداولها، وها هم اليوم يفعلون الشيء ذاته، إذ يحاصرون الثقافة الفلسطينية ويعملون على محاصرتها ومحوها وإزالتها، والأمثلة كثيرة، فلم تكن الكاتبة عدنية شبلي نموذجا وحيدا ولا حالة فردية عابرة، إنها منهج مدروس ومتقن من أجل أن نهزم هزيمة نكراء، سياسية وعسكرية وثقافية.

لهذه السياسة القابعة في عقل الاحتلال الصهيوني والمؤيّدة دولياً على أعلى مستوى، تجليات واضحة في هذه الحرب بدت في السلوك الثقافي للأفراد أيضاً، فقد رأيناها في مشاهد التشفي الانتقامي الهمجي من أفراد الاحتلال الداخلين إلى غزة، حيث يذكرون العالم بهمجية التتار والصليبيين، فما قام به هؤلاء لا يفعله أفراد الجيش المنظمين التي تحكمهم القواعد والأعراف، فكيف يمكن تفسير إهداء أحد هؤلاء ابنته في عيد ميلادها هدية؛ تفجير منزل في غزة، أو سرقة أحدهم حلية فلسطينية ليهديها لصديقته على الهواء مباشرة، هذا غير سرقة الأموال والمتاع؛ فالكل شاهد أحد هؤلاء المجانين العبثيين الهمجيين وهو يعزف على جيتار سرقه من أحد البيوت، وتشاء الصدف أن يتعرف عليه صاحبه الشاب حمادة نصر الله الذي قال: "إنه الآلة الموسيقية الوحيدة الباقية له من ذكرى أبيه". هذا الشاب الذي أجبر على الفرار من منزله في شمال غزة إلى جنوبها.

وهذه مجرّد أمثلة، لم أقف عند تحليلها بالكامل وما تدل عليه في سياقها الثقافي الأشمل، لكنها من المؤكد رجع لحرب شاملة، تحكمها الأيديولوجيا، وتنفذها أدق أسلحة التكنولوجيا، واتفق فيها العالم على شعب أعزل، لا شيء يدافع به عن وجوده إلا بلحمه وبثقافته، فهل سيجديانه نفعاً أمام عبقرية الموت السريع في غزة؟