تدوين-فراس حج محمد
المقدّمة
يشغل الكاتب والأكاديمي الجزائري واسيني الأعرج منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، ويعدّ أحد أهمّ الأصوات الروائية في الوطن العربي، له العديد من الروايات، منها: طوق الياسمين، وأنثى السراب، وأصابع لوليتا. فازت روايته هذه "مملكة الفراشة" بجائزة "كتارا" للرواية العربية عن فئة الرواية المنشورة، عام 2015.
كتب د. واسيني في القصة القصيرة والنقد الأدبي والأدب الشخصي، وقدمت حول رواياته العديد من الدراسات والأبحاث والرسائل الجامعية، كما أنه حاز على عدة جوائز، وترجمت أعماله إلى عدة لغات.
جاءت رواية مملكة الفراشة محملة بعقود من الخيبات على الصعيدين الفردي والجماعي، ورسمت وبفنية عالية ذلك الخراب الحادث في النفس البشرية عندما تعيش أوضاعا صعبة، وأهم تلك الأوضاع ما تخلفه الحروب من ويلات وصراعات واصطفافات، ليكون الموت المجاني سيد المواقف كلها، فيلجأ الناس إلى الهروب، إما الغربة، وإما الاغتراب، فيهيمون على وجوههم في المنافي، أو يصابون بلوثات العقل والجنون، فيرتدون إلى ممارسة أوهامهم والتعلق بما ينسيهم تلك الآلام، وهكذا جاءت "مملكة الفراشة" معبرا عن انكسار الشخصية الإنسانية وضياعها وقد فقدت الأمان، ولترصد تحول الناس وهم في ظل هروبهم الكبير المتسع إلى العالم الافتراضي، عالم الفيس بوك، فيدخلون في تجارب إنسانية، وأهمها الحب، فهل سينجح حبّ كان منشؤه الفيس بوك، وشخصياته هاربة من وجع وجودي قاسٍ، ويبحث عن مخدر يقيهم شر الحياة الواقعية؟ هذا ما حدث للشخصية الرئيسية (ياما) التي أحبت شخصية شبحية في الفيس بوك وتعلقت بتلك الشخصية، لتكتشف في النهاية أنها كانت تطارد خيط دخان.
صدرت الرواية في عدة طبعات، ومن هذه الطبعات الطبعة التي وزعت مجانا مع مجلة دبي الثقافية في عددها الصادر في شهر حزيران/ 2013، وكانت الرواية تحمل الرقم (85) من كتاب دبي الثقافية، وجاءت هذه الطبعة بـ (503) صفحات من القطع المتوسط، موزعة على سبعة فصول ترويها ياما بطلة هذه الرواية، وهذه هي الطبعة المعتمدة في هذه القراءة، وقبل الخوض في الرواية أودّ الإشارة إلى
معضلة موت المؤلف وحياته
ردّ الدكتور واسيني الأعرج على رأيي الذي قدمته فيما يتعلق بارتباط الرواية بالفيس بوك وملاحظاتي على ما ورد من نشاط فيس بوكي بشخصياته، وبلا أدنى شك فإنني أفرح جدا عندما يتعاطى المبدع مع ما يكتب الناقد ويحتفي به، ولعل مشاركة المنشور على صفحته هي أدنى درجات احترام المبدع للناقد وما كتبه. فما بالك إذا كان تعليق المبدع بهذه الصورة:
كتب الدكتور والروائي الجزائري واسيني الأعرج معقبّاً على ما كتبته استخدام الفيس بوك: "شكرا حبيبي فراس، مقال مفيد جدا. فقد نقلته على الحائط. سلمت ودمت صديقا غاليا".
ثم يوضح الأعرج رأيه فيما كتبته بقوله: "عزيزي فراس أشكرك على اهتمامك بالرواية. ممتن لطيبة قلبك. بالنسبة للفيس بوك يا عزيزي أنا مورط فيه منذ سنوات، وهناك صفحات يديرها غيري من المحبين، ولي حساب أديره بنفسي تجاوز الخمس آلاف صديق، ولكن الرسائل التي تصلني يا عزيزي عن طريق الإينبوكس وتطلب الإضافة لا تعد، فأطلبها أنا من جهتي مما يجعل عدد الأصدقاء يرتفع أكثر مما تتصور يا غالي.
بالنسبة للرسائل أتحدث عما يصل في الإينبوكس وسحبتها ياما فيما بعد لتحولها إلى كتاب كانت تريد منحه لصديقها قبل حرقه. ولو تتبعت جيدا قبل الأحكام لعرفت تاريخ انضمامي إلى الفيس بوك وأني أتحدث عن شيء كبير أعرفه جيدا، أصبح جزءا من حياتنا اليومية.
الجيل الذي تتحدث عنه موجود، ولكن أغلب الناس يتعاملون مع هذا العالم بذكاء وفق الحاجة الثقافية. ولا موقف سلبي لي في النهاية من الفيس بوك. هو مثل بقية الوسائط يجب أن نعرف ماذا نريد منه. فقط كسرت ياما عزلتها بواسطته ولكن أيضا وهمها. حقيقة أصبحت أشتاق رائحة الورق ومع ذلك كل عملي يتم أيضا عن طريق الوسائط الحديثة. أحييك على محبتك وجهودك. تحياتي لك ولفلسطين الحبيبة. كل الشكر لجهودك.
لعلّ فيما كتبه الروائي واسيني الأعرج كسر لنظرية رولان بارت "موت المؤلف"، كما يقدم صورة من صور "النقد التفاعلي"؛ هذا النقد الذي اعتنيت به وتتبعت صوره المتعددة ووثقتها في مقدمة كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية (روافد، 2020)، وعملت على تلك المقدمة فيما بعد لتكون كتابة مستقلة أرصد فيها أوجه التفاعل النقدي مع الكتّاب تحت عنوان "مظاهر النقد التفاعلي" وضمنتها كتابي المخطوط "نظرات في الكتابة النقدية".
وكنت قبل هذا التأصيل النقدي، قد ضمنت كتبي النقدية بعضا من صوره، وخاصة كتاب "قراءات نقدية في القصة القصيرة جدا"، ثم في كتاب "شهرزاد ما زالت تروي"، بل إن كل كتبي النقدية أتحت مجالا فيها للسجال مع القراء والكتاب الآخرين الذين قد يدعمونني في وجهة النظر أو يخالفونني فيها، فاشتملت على كثير من التعليقات والآراء، وكان آخرها ما رصدته من تفاعل في كتاب "في النقد والنقد المضاد" (كتاب إلكتروني، 2025) الذي تناولت فيه التفاعل مع منشور للكاتب محمود شقير، يبيّن فيه وجهة نظره فيما كتبته من نقد لكتابه "المشهد الروائي الفلسطيني".
واسيني الأعرج وعالم الفيس بوك
يبدو أن واسيني الأعرج لم يكن من عشاق أو رواد الفيس بوك على الرغم من أنه يدافع عن ذلك وسأورد ردّه على هذا الرأي لاحقاً، وذلك لعدة مواقف وقعت فيها الرواية، لا تعبر عن حقيقة الواقع في الفيس بوك، ومنها ما جاء في الصفحة (36): "ألا يمكنك أن تتحرر من فيض الأصدقاء دفعة واحدة؟ مائة ألف يا إلهي؟ وكل واحد يظن أنه صديقه الأوحد؟".
فهل كانت الرواية تتحدث عن صفحة الشخصيات المشهورة؟ ربما، وهؤلاء لا يعدون من الأصدقاء فهم يقدمون إعجابا بصفحة الكاتب دون أن يكون صديقا، فلماذا أطلقت الرواية عليهم صفة الأصدقاء وهم ليسوا كذلك؟
وجاء في الصفحة (346): "كيف يعمل مع (15000) صديق وربما أكثر"، وهذا غير الواقع، فأقصى أصدقاء الشخص على الفيس بوك لا يتعدى (5000) شخص، ومن بلغ هذا الحد يضطر إلى فتح حساب جديد، ولا يسمح له بإضافة أصدقاء آخرين على هذا الحساب المكتمل، أو يكتفي الآخرون بمتابعته، وهذه بلا شك مفتوحة العدد، ولكنهم- كالصفحات الشخصية أو المجموعات- لا يعدون من الأصدقاء بمفهوم (مارك زوكربيرغ).
وكيف يمكن أن يفهم هذا النص الذي يصف بعض النشاط على الفيس بوك؟ فقد ورد في صفحة (338): "لأني عندما رجعت إلى بريد ماسة القديم المنشور على الفيس بوك وفليته نصا نصاً تأكدت من الفداحة التي كنت أنا بطلتها"، فكيف يكون بريدا ومنشورا؟ ومعروف أن البريد في الفيس بوك و(التشات) خاص جدا، لا يمكن لأحد أن يطلع عليه، إلا إذا قصد الكاتب أن يصف تلك المنشورات (Posts) التي يكتبها الشخص على حائطه، هنا يبدو الأمر فيه بعض الالتباس. فهل نشرت الرسائل على شكل (Posts)؟ أشكّ في ذلك، فلا أحد يعيد نشر رسائله التي في (Inbox) كما هي. ولعلّ التعبير قد خانه، فالعودة إلى الرسائل وقراءتها حيث هي في (التشات) لا يعبّر عنه بأنه "بريد منشور".
أغلب الظن أن الكاتب واسيني الأعرج يتخفى وراء شخصية ذلك المسرحي (فادي) العائد إلى الوطن بعد شتات ومنفى، فعندما تأتيه ياما، وتعرّفه بنفسها وهي تظن أنه هو صديقها وحبيبها، تذكره بالفيس بوك وبمملكة الفراشة، فيجيبها: "لا حساب لي على الفيس بوك. لا أعرفه أصلا ولا أحبه أيضا"، لكل ذلك جاءت هذه المعلومات غير دقيقة عن كيفية استخدام الفيس بوك.
مع كل ذلك تبدو الرواية معبرة عن قضايا كبيرة، ولكن على ما يبدو أن واسيني الأعرج- حتى ذلك التاريخ- لم يندمج في عالم الفيس بوك كما ينبغي وكما هو عليه الحال هذه الأيام، فنشاطه على الفيس بوك مستمر وحيوي، ويتجدد باستمرار بمنشوراته التي تحمل آرائه السياسية والإبداعية، وكثيرا ما كتب حول ما يجري في غزة من مقتلة، منحازاً إلى الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، معبّرا عن إدانته لأفعال الإجرام الصهيوني التي تحدث في غزة منذ أكثر من عشرين شهراً،
لقد اندمج الكاتب مع هذه التقنية الجديدة ولم يبقَ على أبهة الكاتب التقليدي الذي يعيش بين أوراقه وكتبه مع طقوس الكتابة القديمة، ولذلك عندما تحدث عن الفيس بوك تحدث عن شيء يسمع عنه ولم يجرب تفاصيله، فأتت هذه المحطات غير مقنعة، وربما أثرت في مسار الرواية الفني، ولنتجاوز عن هذه القضية إلى ما هو أهم في الوقفة الآتية.
مملكة الفراشة وجنون الشخصيات المأزومة:
تبدو رواية"مملكة الفراشة" غاصّة بأبجدية مصوغة بدم الشخصيات المأزومة والهاربة من واقعها، والباحثة عن شيء من أمان في العالم الافتراضي، هذا الأمان الذي حرمته في أرض الواقع، فقد بدا كل شيء في الحياة مشرذما ومفتتا ومفتوحا على الفراغ والمجهول.
تتولى السرد- كما سبق وذكرت- في الرواية شخصية "ياما"، وهي فتاة مثقفة وقارئة نهمة للكثير من الأعمال الأدبية المهمة التي تتحدث عن القلق الوجودي الذي يعاني منه الإنسان في أزمنة هي الأخرى تعاني من جنون التفتت والتلاشي، وتمتلك معرفة لا بأس بها لأغلب ما كتب حول تحليل الشخصية الإنسانية، ولا سيما فرويد، وغيره ممن كتبوا في علم النفس.
وتسرد ياما حكاية الجزائر، فتصور ذلك الخراب الذي أحدثته الحرب، ولم يكن خرابا ماديا فقط، بل إنه خراب يمتد إلى النفس الإنسانية، فتجعلها تعاني من ويلات الحرب سنين طويلة، "صحيح أن اليوم لم يبق الشيء الكثير من تلك الحرب المجنونة، إلا بعض جنونها، ولكن تصليح الداخل يحتاج إلى زمن كاف ولأجيال تمسح كل الخراب الذي تسببت فيه سواء كانت ضحية منتقمة أم جلادة قاتلة" (ص 375).
على وقع المقتبس السابق تتكامل الرواية عبر مجموعة من الشخصيات التي عانت من ويلات الحرب، فكانت كل من فريجة أم ياما وأبوها زبير، وأخوها رايان، وأختها ماريا، وصديقها أو حبيبها الأول دوف والطفلة الحمامة وحبيبها الافتراضي فاوست (رحيم) من ضحاياها على المستويين المادي والنفسي، فقد تم تصفية أبيها ذلك الصيدلاني الذي وقف في وجه من يتاجر بأرواح الناس، وقتل بدم بارد، وتم التخلص من دوف عضو الفرقة الموسيقية كذلك، حتى الطفلة (حمامة) لم تسلم من القتل، وهي الطفلة البريئة التي لم يكن لها ذنب سوى أنها تعشق الحمام، وتحب الحياة، ولم يكن الاسم اعتباطياً بل إنه يحمل دلالة كبيرة في أنها "حمامة" وما ترمز إليه من الوداعة والسلام وتمثيل الطفولة، ومع كل ذلك تُقتل، بمعنى أن الحرب قادرة على تهشيم كل هذه المعاني المختزن في هذا الاسم وفي الشخص نفسه الحامل لهذا الاسم.
وعلى الصعيد النفسي كانت أم ياما ضحية المرض النفسي (الانفصام) قد أوقعها بحب كاتب شبع موتا (بوريس فيان الذي توفي في 23/ يونيو/ 1959)، فتقتني كتبه ولوحاته، وتُسْكن نفسها في لوحاته، وتضع نفسها محل نسائه، فتستأجر رساما ليقوم له بهذه المهمة، وتموت جراء عشقها المأزوم بحثا عن أمان مفقود، ورايان الذي أدخل مستشفى الأمراض العقلية بتهمة القتل، ليصبح من عداد المفقودين بعد حرق السجن والمستشفى، ليهيم في المدينة مثل شبح أو فأر هارب ليس له أي قيمة، وتتسلح ماريا بأنانيتها، وترفض أن تحضر مأتم أمها ولا تزور قبرها حتى، وجاءت فقط لتستولي على نصيبها من التركة، وتذهب من حيث أتت لتغوص في وحل الغربة وتتابع حياتها بعيدا عن وطنٍ يأكل أبناءه قتلا أو مرضا أو نفيا، لتضمهم المنافي المفتوحة على الخواء.
تتجمع كل تلك الأزمات لـ "ياما" فتحاول الهروب من آلامها نحو الكتب لتعيش فيها، ولتدخل في علاقات فكرية مع الكتّاب، وتحفظ ما كتبوه، فقد أوصلتها الكتب إلى حالة من القناعة بأفكار هؤلاء الكتاب، وبعد الكتب تلجأ لمملكتها الخاصة مملكة الفراشة، مملكة الفيس بوك أو كما يحلو لها أن تسميها المملكة الزرقاء، وفي هذا الفضاء الإلكتروني وبمحاذاة الحياة الواقعية تتبلور الأحداث لتعبر عن تلك الأزمات النفسية التي يعاني منها الناس، وقد كانت ياما وفاوست (رحيم) جزءا منها، وكذلك تظهر صديقتها سيرين أم الخير، التي مارست وهمهما بطريقة مختلفة عن ياما.
تعبر الرواية عن تلك العلاقات الزائفة التي يصنعها الفيس بوك، وقد يتخفى الناس وراء شخصيات أو أسماء مستعارة، فيخلفون وراءهم وجعا قاسيا، لا سيما إن تعامل أحد الطرفين بواقعية وصدق مع الطرف الآخر، وهذا ما حدث لـ ياما التي دخلت بعلاقةٍ، مجموع ما أنفقته من وقت في تلك العلاقة: "ثلاث سنوات وعشرة أشهر، وتسعة وعشرون يوما، وست ساعات، وأربع وخمسون ثانية" (ص 483).
كانت علاقتها مع ذلك المستخدم الذي يدير حساب مسرحي مشهور يدعى (فادي)، ويقوم عنه بكل أعماله دون تكليف منه، فيتلبّس روحه وأعماله وكل نشاطه الأدبي، فيتحلق حوله الكثير من المعجبات، ويدخلن معه في علاقات من الحب (كما توهمت ياما وليس معها وحدها)، فتسلم نفسه له بكل ما أوتيت من قوة وإرادة، فتصبح بالنسبة له كتابا مفتوحا، وتمارس معه الجنس اللفظي، "حتى في الشهوة كانت اللغة هي جنوني الحر. مارسنا لذتنا ذهنيا عن بعد. كان خيالي هو منقذي الثاني لدرجة المرض، لأنه لولاه لاحترق كل شيء فيّ، ولذبلت كل حواسي الحيّة. الجنس الافتراضي باللغة، ربما كان ابتكارا عصريا خطيرا؟" (ص 402).
تدفعها تلك العلاقة لتمارس كل طقوس الحب، بعيدا عن الحياة الواقعية، فلا تستجيب لنصائح أمها ولا لنصائح صديقتها سيرين، التي كانت تعاني من أزمة على طريقة خاصة، فهي تدعي أن ملائكة تأتيها بأحلامها، فتروي كل عطشها الجنسي، وفي آخر الطقوس، "بعد حالات البهاء التي تعيشها المعشوقة مع ملاكها، يمرّر هذا الأخير أنامله الناعمة النورانية على الجرح فتلتئم الغشاوة" (ص 108)، وهكذا تعيش أم الخير وهما آخر، هو قرين ذلك الوهم الذي عاشته ياما وعاشته أمها، كل واحدة منهنّ تهرب من واقعها نحو شيء افتراضي يجعلها مفصولة عن الواقع.
وفي نهاية الرواية تكتشف ياما ذلك الخداع الذي عاشته في دهاليز الفيس بوك، بعد إن اكتشفت الحقيقة، فتتذكر حوارها مع أمها:
- ياما أنت أسوأ مني. تحبين صورة.
- أحب رجلا بطوله وعرضه.
- لا طول وعرض له. صورة ملصقة في ذهنك، وأنت من يعطيها كل أبعادها. مجرد وهم.
فتعقب ياما على ذلك الحوار قائلة: "ألم تكن أمي محقة يوم نصحتني بالابتعاد عن وهم فاوست أو رجل الغياب كما أسمته؟" (ص 590).
ولكن هل باستطاعة امرأة عشقت بكل جنونها أن تنسى ما حدث معها وتتجاوز محنتها، خصوصا بعدما عرفت أن فادي ذلك المسرحيّ المشهور لم يكن يعرف عنها شيئا؟
نجحت ياما بعد أن أدركت عقم التجربة أنها كانت تعيش وهما كبيرا، ولذلك فإنها تخلت عن فاوست حبيبها الافتراضي، ومحته من كل عناوينها، "وبعثت به إلى فراغ جحيم مملكة زوكيربيرغ." (ص 488)، وليس هذا وحسب بل إنها أحرقت رسائلها البالغة (777) رسالة التي كانت تكتبها لتسلمها لفاوست في لقائهما الأول، لتجدها تقول، وهي تشاهد حرقها: "شعرتُ فجأة بخفة في وزني وروحي وثقل كل ما كان يحيط بي. خرجتْ مني لعنة حارقة لم أرتب لها سلفا: "إلى الجحيم فاوست مفيستوفيليس" (ص 496)، وبذلك تتعالى ياما على كل آلام الحرب النفسية التي يعيشها الناس بعد الحروب الطويلة المدمرة، وكأن الرواية تقول إنه "لا يصيبنا إلا ما كتبناه لأنفسنا" (ص 391)، لتعطي الرواية الأمل في قدرة البشر على تجاوز ما يمر بهم من محن، لو كانت عندهم القدرة والاستعداد والقرار لذلك، ليكون باستطاعتهم ممارسة حياتهم كما هي بعيدا عن كل الأوهام التي تتلبسهم، وتكاد تقضي عليهم.