تدوين- أسماء المغربي
شهدت الأوساط الثقافية الإسبانية مؤخراً حدثاً لافتاً تمثل في صدور عملين شعريين فلسطينيين هامين ومتتابعين عن دار نشر "أورينتي ومديترانيو" (Oriente y Mediterráneo)، وهي إحدى أبرز دور النشر المتخصصة في الأدب العربي المعاصر. وتُشكل هاتان الأنطولوجيتان، بفارق زمني بسيط بينهما، محاولة مزدوجة لتقديم الشعر الفلسطيني في زمن الإبادة، كاشفتين عن وجهين مختلفين لكن متقاطعين للشعر بوصفه فعلاً للمواجهة في زمن الفناء. بين صوت الركام المباشر وهمس المنفى العميق، تحاول القصيدة أن تعيد تعريف الهوية الوطنية والثقافية في مواجهة مشروع المحو المستمر.

"غزة: قصائد ضد الإبادة": الشعر يُكتب في الزمن الحقيقي للكارثة
في مواجهة مباشرة للإبادة، صدرت مختارات "غزة: قصائد ضد الإبادة" بإشراف إغناسيو غوتيريث دي تيران، رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة. دي تيران قرر أن يُنصت إلى الشعر "وهو يُكتب من تحت الركام"، ليجمع أصواتاً تصرخ "نحن هنا" في وجه الإبادة الجارية.
يعكس هذا العمل ضرورة ملحة، إذ يقدم دي تيران ثلاثين شاعراً وشاعرة كتبوا تحت وطأة القصف، في زمن لا يسمح بالمسودة الثانية ولا بالتأمل الطويل. وُلد كثير من هذه النصوص بشكل عاجل على صفحات فيسبوك أو في تسجيلات صوتية أُرسلت من بين الأنقاض، ما يضعها في سياق "الشعر العاجل" الذي لا يبحث عن الجماليات بقدر ما يسعى للتوثيق والشهادة اللحظية.
في مقدمة الكتاب ذات النبرة السياسية والتاريخية القوية، يشير دي تيران إلى أن جمع أنطولوجيا كهذه مؤلم، مؤكداً أن ما يحدث في فلسطين، وغزة تحديداً، هو "اعتداءٌ لا يرحم، متواصل منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً"، وأن حملة المحو الجسدية والثقافية قد بلغت مرحلة "الحل النهائي".
تتحدث القصائد في موضوعاتها عن الآني والمباشر والمُعاش: الخوف، الجوع، الحنين، البحث عن الأطفال المفقودين، والغبار الذي صار لغة. تشمل المختارات أسماء مهمة وفاعلة في المشهد الأدبي من بينها: وضاح أبو جامع، رولا سرحان، وفاتنة الغرة، بالإضافة إلى الشعراء والشاعرات الذين تتوزع أصواتهم على العملين مثل منى المصدر، هبة أبو ندى، ودارين طاطور.

"طرائق كي تكوني فلسطينيةً": أنطولوجيا الأصوات النسائية والمقاومة الهادئة
بعد شهر واحد من الإصدار الأول، صدرت أنطولوجيا "طرائق كي تكوني فلسطينيةً" (2025)، وفيها اختارت الأكاديمية والمترجمة الإسبانية البارزة لوث غوميز - التي تُعد من أبرز مترجمي أعمال محمود درويش إلى الإسبانية - أن تُصغي إلى الهمس العميق للمنفى. اختارت غوميز أن تركز على الأصوات النسائية الفلسطينية الشابة، ممن ولدن بين عامي 1977 و2005، ليقدم ما تسميه "تاريخاً خفياً للمقاومة اليومية".
تعول غوميز على "الكتابة النسوية الفلسطينية الجديدة"، التي تراها فضاءً جديداً للتعبير عن الواقع الفلسطيني يتجاوز حدود الجسد والمنفى ليتحول إلى مكان إقامة بديل، إلى "منزل في الكلمات"، كما تصفه. هذه القصائد هي كتابة من جغرافية متنوعة، من رام الله وغزة والشتات، ومن مخيمات اللجوء في لبنان، وصولاً إلى العواصم الأوروبية البعيدة.
تضم الأنطولوجيا قصائد لخمس عشرة شاعرة، كُتبت بعضها خصيصاً للمختارات، وظهر فيها تفاوت واضح في المستويات، كونها أقرب إلى "الشعر الذي يُكتب من أجل مناسبة ما" في محاولة لإعادة تعريف الهوية عبر تفاصيل الحياة اليومية بين فنجان القهوة الصباحية، وذاكرة الجدات، والمخاوف الصغيرة. أبرز الشاعرات المشاركات هن: غادة الشافعي، منى المصدر، هلا شروف، دارين طاطور، داليا طه، رزان بنورة، أسماء عزايزة، هبة أبو ندى، وبتول أبو عقلين، بالإضافة إلى شاعرات أخريات.

تقاطع المقاصد: الشعر بوصفه سجلاً أخلاقياً للعالم
وعلى الرغم من اختلاف المقاصد وتباين الجماليات بين الأنطولوجيتين - حيث تُواجه الأولى صوت الإبادة والثانية تبحث في همس المنفى - يظل القاسم المشترك يجمعهما في السؤال المحوري: كيف يمكن للشعر أن يواجه الفناء؟
لا تمثّل هاتان الأنطولوجيتان، بطبيعة الحال، المشهد الشعري الفلسطيني بكل اتساعه وعمقه، فقد غابت عنهما أصوات راسخة وفاعلة داخل فلسطين والشتات. لكن الحدث الآني والقصف والإبادة، فرض ضرورة ملحة للتوثيق، مما دفع لجمع قصائد وُلدت في فضاء التواصل الاجتماعي، بين منشور وصورة ومقطع صوتي، ولم تُنشر في دواوين ورقية بعد. وهذا لا يقلل من قيمتها، بل يضعها في سياق الشعر الذي يتحول إلى فعل مقاومة لحظة وقوع الكارثة. إن هذه النصوص، رغم تشتتها ومباشرتها أحياناً، هي أقرب إلى نبض اللحظة منها إلى تاريخها، وتتحول بصدقها الخام إلى سجل أخلاقي للكارثة العالمية.