تدوين- رولا سرحان
في العرض الأخير لفرقة الفنون الشعبية الذي حمل عنوان "يا صاحب الطير"، كانت مقولة الذاكرة والتذكر حاضرة بقوة، ملهمة تركيز التساؤل حولها، معناها وزمنها، وبصيغة مختلفة كليا عما عهدناه عن الذاكرة أو كما نعرفه عنها أنها ماضوية منتهية، بل جاءت بصيغة انفتاحها على ثلاثية الزمن: ماضيه، وحاضره، ومستقبله. وهي حاضرة ليس في فكرة العمل وحده، بل وأيضا على مستوى الأداء الذي جمع بين عارضي الفرقة الرئيسيين وما بين براعمها، أي نقل الأداء الجسدي من جيل سابق إلى جيل لاحق. وهو ما يصب عموما في كيفية حفاظ الذاكرة على اشتغالها فلسطينيا، إذ تُنقل ذاكرة الفلسطيني بين الأجيال ليس على صعيد الصيغة التشافهية، وحدها، وإنما جسديا أيضا. وليس ذلك بقصدية فنية فلسطينية واعية على وجه التحديد بأهمية التناقل الذاكراتي، وإنما بنتيجة أيضا من فعل الواقع العنفي الذي يعيشه الفلسطيني ضمن منظومة استعمارية تفرض عليه استدامة التذكر، وبما يبقى ذاكرة الفلسطيني قيد الاشتغال المستمر.
أشكلة فرقة الفنون في عرضها ما نفهمه عن عمل الذاكرة، فإذا ما كنا دوما ما نربطها باستحضارها فلكلوريا في مشهدية ثقافية استنزفت الفلكلور الفلسطيني عموما، وجعلته غير قادر على التعبير عن حال الفلسطيني اليوم، إلا أن نظرة ملمة بأداء فرقة الفنون الشعبية منذ تأسيسها، وتطور عروضها، وأدائها الفني، يمكنه أن يحدثنا الشيء الكثير عن معنى العلاقة الجدلية بين الفن، والهوية، وفعل التذكر في سياق مشحون فلسطينيا بآليات عنف استعمارية تحاول محو الثلاثة معا.

وعند الوعي بهذه الإشكالية، يُطرح ذلك السؤال الأهم في بداية العرض من موال فلسطيني قديم: "يا صاحب الطير قوم اسهر على طيرك، عجل عليه بالعلف لا يوخذوا غيرك"، وليظل السؤال لوابا من أول العرض إلى آخره: من هو صاحب الطير؟ ومن هو الطير؟ ومن الذي يهدد الاثنين معا؟ وهو سؤال، بحد ذاته مركب ونقدي للذات وما يهددها، تفرضه انتفاضة ووثبة الأجساد الشابة، التي تحاول إرسال توتر هوياتي، وفلسفي في الآن معا، عن كيف يحمي الفلسطيني وجوده، وحضوره، وما له بينهما، في وجه ما يُحيق به من تهديد، و في الوقت نفسه تنضح فنا تحريضيا في وجه التقصير الذاتي تجاه أدوات حماية الذات وشكلها، الذي تم التعبير عنه صراحة في أواخر رقصات العرض.
غير أن التركيب الفني المبهر في عرض "يا صاحب الطير"، كان إلمامه الواعي بتلك الحركة العَرْضية للزمن الفلسطيني، أي زمن يتحرك بالعرض وليس بطريقة خطية إلى الأمام، وبما يعنيه ذلك من تلاق للأزمنة في تراكب الماضي والحاضر والمستقبل. فقد افتتح العرض بالحدث التأسيسي الفلسطيني الأبرز للنكبة الذي كانت الحقيبة بمثابة شاهدة القبر على ما فُقد، والشاهدة عليه إلى الآن، لتتحول تلك الحقيبة إلى عبء زمني مزمن محمول على ظهر الفلسطيني إلى اليوم، فحضر مرات عدة خلال العرض محمولا على شكل بلوك اسمنتي حمله الراقصون على ظهورهم، وفي سياق رمزي يحيل إلى لوحة الفنان الفلسطيني الكبير سليمان منصور، "جمل المحامل".

وإن كان هذا الاستحضار الفني مقصودا، فإنه بحد ذاته يحيل إلى كيفية اشتغال الذاكرة فلسطينيا التي يمكنها خلق التشابك على المستوى الرمزي الفني ما بين الرؤى الفنية المتشابهة وما بين الواقع بصيغه التعبيرية المختلفة التي تؤكد على ديمومة الواقع النكبوي فلسطينيا. فبينما الحاضر تُحمل فيه النكبة بماضيها التأسيسي في التاريخ الفلسطيني إلا أنه تم التعامل معه والتعبير عنه فنيا كواقع نكبوي مستمر، حاضر في خلفية الرقصات في جدار الفصل العنصري، وفي تداعيات يومية على حياة الفلسطيني، المتسمة بكل الممارسات العنفية على الصعيد الفردي والجماعي، والتي لم تنته بطرد الفلسطيني، وإنما تستمر اليوم لتخنقه سارقة أرضه وماءه وحركته وفرحه. تلك كانت ثيمات حضرت في رقصات "جبل المحامل"، و"أبو السخاء"، و"قولوا لإمي"، والتي في جزئياتها الأدائية جسدت الحاضر المأزووم فلسطينيا المشحون بكل ما يستجلب ذكريات الماضي إلى الحاضر ويعيق حركته التقدمية إلى الأمام لأنه ما زال يشكل ويُضيف لذلك الماضي ذكريات جديدة عنه.

لكن في الوقت نفسه، كانت الذاكرة بتطلعها المستقبلي جزءا مهما من عمل "يا صاحب الطير"، وهو جانب عادة ما يكون مهملا في كيفية التعاطي مع الذاكرة التي لا تشتغل لمجرد استحضار الماضي إلى الحاضر، وإنما يكون لها ذلك الاستشراف المستقبلي لما يجب أن يكون عليه المستقبل. وقد كان القائمون على العمل، على قدر كبير من الوعي بمعنى التذكر، ولسؤال لماذا نتذكر، وما شكل استثمارنا في ذكرياتنا، فقد كانت حاضرة في رقصة "انكسار/نهوض"، فالانكسار للماضي، والنهوض اليوم لأجل الغد والمستقبل. وهو ما يعني حضور ذلك الوعي العميق بكيفية تحويل الذكريات من عبء إلى طاقة بناء دون الغرق في ذلك الحنينن الموجع للماضي، بل جعله فعلا من أفعال صياغة المستقبل بكسر القيد الزمني، وتحويل الماضي إلى مرساة للنهوض بدلا من قيد انكسار.
على مستوى الرقصات، من المحق الإشادة برقصة "سفر دولة" للاتقان في الأداء على مستوى التقنية الفنية- البصرية، التي كانت متميزة بمضمونها الذي أحال ليس فقط من خلال الأغنية إلى غنى الهوية الفلسطينية ما قبل النكبة وبعدها، وإرثها، ولكن جسّد غنى الفلسطيني الحاضر بإمكاناته وطاقاته المبدعة في أداء فني مبهر، جعل من ذلك الإرث قابلا للتعبير عن الفلسطيني الذي يمكنه أن يمسك بزمام ذلك الإرث ويجعله قادرا على مواكبة هوياتية عصرية. فعلى بساط أبيض هو ضوء وموج في آن، كان الأداء الراقص مذهلا في مقدرته على الحركة الانسيابية، التي لا تعكس مقدرة القائمين على عمل "يا صاحب الطير" عموما، بل تعبر أيضا عن إنسايبية فلسطينية، بإمكانها أن تُبدع حضورها وتشق طريقها في التعبير عن الفلسطيني عموما.

ويجدر التوقف كثيرا عند براعم الفرقة، الذين كانوا في مستوى العارضين الأساسيين، فشكلوا معا لُحمة فنية لا يمكن التفريق فيها في الاحترافية. فالالتزام الجسدي والعاطفي بين الراقصين، رفع العمل من حيث القوة التقنية، ودقة التزامن، والقدرة على التعبير بالجسد إلى مستوى الحوار البصري العميق الذي يستفز الحواس والوعي معا.
عرض "يا صاحب الطير"، هو سؤال وجواب، فمن "هو صاحب الطير؟"، ليس مجرد سؤال يجد جوابه في أنه: الفلسطيني، بل هو أدق من ذلك، هو الوعي بأن تكون فلسطينيا، ومعنى أن تكون فلسطينيا، وكيف يمكنك أن تحلق كي تحقق كامل فلسطينيتك.