تدوين- سوار عبد ربه
لم يكن المفكر اللبناني إلياس خوري يوما بعيدا عن السياق العربي المليء بالأحداث التاريخية والسياسية المتلاحقة التي شكلت وعيه وثقافته. في مقابلة مصورة معه، اختار خوري أن يقدم تلخيصا لحياته وتجاربه الشخصية من خلال عدسة الأحداث الكبرى التي عاشها في المنطقة العربية، قائلا: "ولدت عام 1948، وتشكّل وعيي السياسي والثقافي إثر هزيمة عام 1967، وبدأت أنضج خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وأدخل الآن مرحلة الكهولة في ظل الحرب السورية وتفكك المجتمعات العربية". وتبع ذلك بسؤال وجودي: "شو هالحياة؟"
يشير خوري إلى عام ولادته، 1948، بوصفه بداية لوجوده، حيث ارتبطت هذه السنة بحدث تاريخي بالغ الأهمية؛ النكبة الفلسطينية التي ستصير هاجسه فيما بعد، وسيصير ابنها البار وحامل لوائها أدبا وفكرا وثقافة، فارتباط خوري بالعام 1948 لا يقتصر على كونه ارتباطا زمنيا، بل سيبرز كلحظة تاريخية فارقة سيكون لها تأثيرها على تكوينه ووعيه. ثم يشير خوري إلى الهزيمة العربية الكبرى في عام 1967، التي لا بد وأنها كانت نقطة تحول فارقة أثرت بشكل عميق على رؤيته، وارتباطه بفلسطين، كأي عربي عايش الهزيمة واستشعر مرارتها.
وعند حديثه عن فترة النضج خلال الحرب الأهلية اللبنانية، يشير خوري إلى التجارب المؤلمة والعنيفة التي ساهمت في تشكيل شخصيته وعمقت فهمه للأزمات السياسية والاجتماعية. الحرب الأهلية اللبنانية كانت تجسيدًا للتفكك الداخلي والاقتتال الطائفي، مما زاد من تعقيد مسألة الهوية الوطنية اللبنانية. وهو ما سيعالجه خوري لاحقا معالجة أدبية، في رواية الجبل الصغير الاسم الشعبي الذي كان يطلق على حي الأشرفية في بيروت.
وفي تعبيره عن الحياة في ظل الحرب السورية وتفكك المجتمعات العربية، يعكس خوري المعنى الحقيقي للألم العربي المستمر، والنسيج الاجتماعي والسياسي دائم التفكك للعالم العربي، ربما يريد خوري أن يقول إن الألم العربي يعيد إنتاج ذاته في سياقات زمنية مختلفة.
أما سؤال "شو هالحياة؟" الذي يطرحه إلياس خوري بعد استعراض محطات حياته، جاء محملا بتأمل عميق في هشاشة الحياة وقصرها. ربط خوري هذا التساؤل بالبحث عن معنى الحياة بوجه عام، وخصوصا معنى حياة الإنسان العربي، غير المعزولة عن سياقاتها السياسية والاجتماعية، بهم فردي وهو تجربة الفقدان، التي تتداخل مع الألم الجماعي، فتصير الحياة أكثر هشاشة ويصير الموت فعلا مستمرا، ينتهي بفناء الجسد. حيث يقول: "كبرنا بالعمر وأصبحنا نحس بهشاشة الحياة التي هي رحلة قصيرة، خاصة مع موت الكثير من الأصدقاء. فمع كل موت أشعر وكأن قطعة مني ماتت، وفي النهاية يأتي الموت الأبدي بعد أن ماتت أجزاء كبيرة منا."
مات خوري للمرة الأخيرة أمس، إذ غادر عالمنا بعد معاناة صحية استمرت لأكثر من عام، مفارقا الحياة في بيروت عن عمر 76 عامًا، قضاها في الكتابة الأدبية والصحفية ومناصرة القضايا العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
الحياة المبكرة والخلفية الأكاديمية
وُلد إلياس خوري في بيروت عام 1948، خلال فترة شهدت اضطرابات سياسية واجتماعية عميقة أثرت بشكل ملحوظ على حياته وأعماله. بعد إتمام دراسته الثانوية في "ثانوية الراعي الصالح" في بيروت عام 1966، انتقل إلى الأردن حيث انخرط في العمل مع "منظمة التحرير الفلسطينية"، وهو ما شكل لاحقًا رؤيته السياسية والأدبية. عاد خوري إلى لبنان لدراسة التاريخ في "الجامعة اللبنانية"، حيث حصل على درجة البكالوريوس في عام 1971. ثم انتقل إلى "جامعة باريس" لنيل درجة الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي، مما ساهم في إثراء أعماله الأدبية بفهم عميق للتاريخ والذاكرة الفلسطينية.
المسيرة الصحفية
بدأ خوري مسيرته الصحفية بالانضمام إلى مجلة "المواقف" عام 1972، حيث أصبح عضوًا في هيئة التحرير. بين عامي 1975 و1979، ترأس تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" بالتعاون مع محمود درويش، وعمل محررًا لسلسلة "ذكريات الشعب" الصادرة عن مؤسسة البحوث العربية في بيروت بين عامي 1980 و1985. تولى أيضا إدارة تحرير مجلة "الكرمل" من 1981 إلى 1982، ومن ثم مدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة "السفير" من 1983 إلى 1990. عمل خوري أيضًا مديرًا لمسرح بيروت من 1992 إلى 1998، وكان مديرا مشاركا في مهرجان أيلول للفنون المعاصرة. كما شغل منصب رئيس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية".
أعماله الأدبية مزيج من الألم
نشر روايته الأولى في 1975 بعنوان "لقاء الدائرة"، وكتب سيناريو فيلم "الجبل الصغير" في 1977، الذي تدور أحداثه خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ومن أعماله الأخرى "رحلة غاندي الصغير" التي تدور حول مهاجر ريفي يعيش في بيروت خلال أحداث الحرب الأهلية.
كتب رواية باب الشمس التي تضمّنت إعادة سرد ملحمية لحياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ نزوح الفلسطينيين عام 1948، وتناولت أيضاً أفكار الذاكرة والحقيقة ورواية القصص، وقد أُنتجت كفيلم سينمائي يحمل نفس الاسم للمخرج المصري يسري نصر الله في 2002.
نشر إلياس رواية "يالو" عام 2002، وترجمها بيتر ثيروكس إلى الإنكليزية في 2008، وصوّر فيها الراوي أحد أفراد الميليشيات السابق المتهم بارتكاب جرائم أثناء الحرب الأهلية في لبنان، وتحدّث عن التعذيب في النظام القضائي اللبناني، وأشار في عنوانها إلى اسم قرية عربية فلسطينية هجر الاحتلال سكانها واحتلها في حرب 1967، ونزح مُعظم سكانها إلى الأردن.
تُرجمت أعماله ونُشرت دولياً باللغات الكتالانية والهولندية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والعبرية والإيطالية والبرتغالية والنرويجية والإسبانية.
خوري قدم أيضا أعمالا نقدية مثل "النكبة المستمرة" (2023)، الذي اعتبر فيها أن النكبة الفلسطينية حالة دائمة تتجاوز كونها حدثا تاريخيا، وإنما هي مسار بدأ عام 1948، ولا يزال مستمرا حتى الآن.
وفي "زمن الاحتلال" (1985)، قدم شهادة على مرحلة بالغة الصعوبة، عاشها الشعب اللبناني بعد الغزو الإسرائيلي، وبعد أن خيم شبح الاحتلال على كل شيء.
بجانب تجربته الإبداعية، كان خوري أكاديميا، فعمل أستاذا في الجامعة اللبنانية، والجامعة اللبنانية الأميركية، والجامعة الأميركية في بيروت، وعمل أيضا أستاذا زائرا في جامعة نيويورك. وكتب أيضا ثلاث مسرحيات، كما عمل مديرا فنيا في المسرح.
رؤى سياسية
فلسطين وقضيتها
نظر الياس خوري إلى القضية الفلسطينية، على أنها حالة مستمرة من القهر والتشرد، تتجاوز السياق التاريخي لتصبح جزءا من المعاناة الإنسانية العالمية، ففي مقابلة مع قناة "الجزيرة" عام 2018، قال: "فلسطين ليست مجرد بقعة جغرافية، بل هي تجسيد للمأساة الإنسانية المستمرة، والبحث عن العدالة والحرية.
لبنان
فيما يتعلق بلبنان، ركز خوري على ضرورة إعادة تقييم الهوية الوطنية ومعالجة الانقسامات الطائفية التي تعوق الاستقرار السياسي والاجتماعي. في كتابه "الجبل الصغير"، شدد على أهمية بناء لبنان من جديد بعيدًا عن الصراعات الطائفية، موضحًا: "لبنان يحتاج إلى إعادة التفكير في هويته الوطنية بعيدًا عن الصراعات الطائفية، ويجب أن يكون لدينا رؤية جديدة لمستقبل مشترك." بالإضافة إلى ذلك، في مقال بعنوان "الوجود اللبناني في سياق النزاعات الإقليمية" الذي نُشر في مجلة "شؤون فلسطينية" (2002)، ناقش خوري التحديات التي يواجهها لبنان في ظل النزاعات الإقليمية، حيث كتب: "لبنان، في قلب منطقة ملتهبة بالصراعات، يمثل اختبارًا حقيقيًا لصمود الهوية الوطنية في مواجهة الضغوط الإقليمية." عكس هذا المقال التعقيدات التي تواجه الوضع اللبناني وأهمية الحفاظ على الهوية الوطنية في سياق النزاعات المحيطة.
العالم العربي
أما على صعيد العالم العربي، فقد دعا خوري إلى إصلاحات سياسية واجتماعية جذرية، مشددًا على الدور المحوري للفكر النقدي والتعليم في إحداث التغيير الإيجابي. في كتابه "تأملات في شقاء العرب" (2005)، أبرز كيف يمكن أن يكون التعليم والثقافة أدوات قوية لتعزيز التطور الاجتماعي وإصلاح المجتمعات العربية، معتبرًا أن الفكر النقدي هو الأساس لإحداث التغيير الإيجابي والنهوض بالمجتمعات العربية.
الصراع مع الألم
في مقال نشره في موقع "القدس العربي"، فتح خوري بابا إلى معاناته الشخصية مع المرض والألم، وصف خوري صراعه مع مرضه، معبرا عن كيف أن الألم الجسدي قد يكون ملهما في بعض الأحيان ولكنه أيضا يُحبط الروح. كتب: "الألم ليس مجرد تجربة حسية، بل هو رحلة داخل الذات، حيث يختلط الخوف بالأمل، ويصبح جزءًا من البحث عن معنى الحياة." أشار إلى أن الألم قد يكون دافعًا للكتابة، حيث يتيح له التعمق في التجربة الإنسانية ومعاناتها، ولكنه في ذات الوقت يظل عائقًا يؤثر على قدرته على الإبداع.