تدوين- سوار عبد ربه
مضى شهران على رحيله، وما زلنا ننكر النبأ، لا شيء حولنا يبعث على الأمل، لكننا نرفض التصديق، نترقب الأيام والساعات بانتظار أن يطل علينا مبتسما ضاحكا حازما صارما مبشرا بالنصر الذي وعد به دوما، هو خل فلسطين الوفي، ولسانها الذي لم ينطق قط إلا بالصدق، والشخصية الوحيدة التي كنا نضبط ساعاتنا على موعد خطاباتها، وإن كانت حول شأن لبناني داخلي، أو خطبة دينية، فالمضمون ليس مهما بقدر أهمية رؤيته، كان هذا وقتنا المستقطع الذي نتحضر له بشغف وحماسة كأن كل واحد منا لديه موعد خاص ينتظره.
لقد نمت علاقتنا مع سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله كما تنمو علاقة الطفل بأبويه. كل كلمة أو إشارة منه كانت محل اهتمامنا، وكان يكفي أن نراقب انفعالاته لنستشعر ما ستؤول إليه المرحلة المقبلة. كان يصب فينا الحماسة بإيماءاته، ويثير ضحكاتنا بنكاته، ويحزننا حزنه على فقد القادة الشهداء الذين كان يخص كل واحد منهم في محفل ليعدد خصاله ويتلو مآثره، أما عندما كان يخرج علينا بعد وعكة صحية، وقد تجلى ذلك في اهتزازاته وحشرجة صوته وإكثاره من شرب الماء، كنا نستشعر خوف فقدانه.
شهران كانا كافيين لإعادة التفاعل مع الإرث الذي تركه لنا، وللوقوف مطولا أمام كلماته بتمعن أكبر، لنستقي منها دروسا وعبرا في مجالات المقاومة، والحياة والموت، والحب والعقيدة، فالسيّد لم يكن مجرد شخصية سياسية أو دينية تقليدية، بل كان يمثل منظومة معرفية متكاملة.
وللوقوف على صورة حسن نصر الله الإنسان، وهذه الحالة الفريدة التي جعلت منه شخصية استثنائية، التقت تدوين بالكاتب والصحفي رأفت حرب، الذي وثق في ثلاثة كتب جوانب من حياة سماحة الشهيد، وأجرت معه الحوار التالي:
تدوين: ما هي السمات التي استطاع السيد ترسيخها في شخصيّته، والتي جعلت نبأ رحيله محطّ إنكار بالنسبة لمحبيه؟
حرب: على مدى أكثر من 30 عامًا في قيادة حزب الله، رسّخ السيد حسن نصر الله صفات عدة أمام الجمهور اللبناني والعربي جعلت من رحيله محطّ صدمة كبيرة، وصلت إلى حد إنكار ورفض تصديق نبأ الاغتيال إلى يومنا هذا لدى جزء من الجمهور، ومن هذه الصفات:
أوّلًا: الصدق؛ لا يُسجّلُ على نصر الله أنه كذب على جمهوره أو حتى على عدوّه في خطاباته خلال عشرات السنوات، مما جعله محطّ ثقة لدى أنصاره وأعدائه، حتى أنه في مقابلات عدة كان يشدّد على أهمية الصدق، وفي إحداها قال إنه إذا أُحرج في سؤال ما في حديث إعلامي سيختار التهرّب من الإجابة وليس الكذب، كما كان يؤكد عندما يتحدث عن الحرب النفسية تجاه العدو على أنه بالتأكيد يمارس هذا النوع من الحروب لكنها حرب نفسيّة صادقة، لأنها ترتكز برأيه على قدرات حقيقية وواقع الحال وليس على أوهامٍ فقط من أجل إخافة العدو.
ثانيًا: البلاغة والبيان القوي؛ حيث كان نصر الله يصرّ في خطاباته العلنية وجلساته الخاصة مع سياسيين أن يعالج جميع الحجج والقضايا المعروضة عليه أو التي تعني حزب الله، بأسلوب بليغ وبيانٍ واضح. هذه السمة تحديدًا أكسبته احترامًا حتى من الذين لا يوافقونه الرأي السياسي.
ثالثًا: التضحية؛ ضحّى نصر الله على المستوى الشخصي بابنه الأكبر على الجبهة مع إسرائيل في تسعينيات القرن الماضي، مما أوضح لجمهوره أنه ليس من صنف القادة الذين يكتفون بالجلوس خلف المكاتب وتشجيع الناس على التضحية من دون مشاركتهم بها، وكانت آخر تضحياته تضحيته بنفسه عندما تم اغتياله في غارة جوية ربما هي أعنف ما شهده لبنان في تاريخه.
رابعًا: الزهد؛ لم تظهر على نصر الله طيلة حياته أية مظاهر رفاهٍ مادي، مما أكسبه هالة التواضع أمام الناس، وهو لم يترك لأبنائه كورث مادي شيئا يُذكر.
خامسًا: التناسب بين الحسم واللين؛ إذ كان السيّد حاسمًا مع عدوّه ويعرف كيف يُحبطُه ويشجّع الجماهير على تحدّي إسرائيل بالشعارات والسلوك، بينما كان ليّنًا في حديثه في الشؤون الداخلية اللبنانية ومع الشريحة الموالية له.
سادسًا: الهالة الدينية؛ كانت لنصر الله هالة دينية مرموقة، ففضلًا عن العمامة السوداء التي تعلو رأسه، كان يظهر في كلماته وخطاباته إلمامه الديني وحرصه على الحدود الشرعية التي يؤمن بها.
تدوين: هل أسهم الفراغ القيادي في الساحة العربية في تكوين صورة السيد كقائد استثنائي؟
حرب: الفراغ القيادي في الساحة العربية بما يتعلّق بمواجهة الاحتلال كان سببًا أساسيًا في نشأة حزب الله في لبنان، وبالتالي بروز السيد نصر الله كشخصيّة تتولى القيادة في بلد يخوض صراعًا كبيرًا في هذا المجال.
من المؤكد برأيي أنه لو قُدِّر للتاريخ العربي أن يشهد شخصيّات كالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على سبيل المثال، لكان احتمال أن يلعب لبنان دورًا مركزيًا في الصراع مع الاحتلال أقلّ، فيصبح احتمال أن يخرج من لبنان قياديون يراكمون رمزية كبيرة في هذا المجال أقلّ بطبيعة الحال.
تدوين: ما العوامل التي تفسّر الارتباط العاطفي العميق الذي نشعر به تجاه السيد؟
حرب: يمكن تلخيص العوامل التي صنعت ارتباطًا عاطفيًا عميقًا بين السيد نصر الله وجمهوره بعامل واحد، وهو أنه بذل جهدًا على مدى أكثر من 30 عامًا على صنع الصورة الكاملة للقائد. هذه الصورة شبه المكتملة لدى الجمهور جعلت روابط التعلّق العاطفي كثيرة، كما خدمت المدة الزمنية الكبيرة لتجربة السيد أيضًا في هذا الإطار.
وفي سعيه لصنع الصورة الكاملة للقائد، ركّز نصر الله على النواحي التالية:
أوّلًا: التعبير عن حبّه الشخصي لجمهوره، وإعجابه بهذا الجمهور. على سبيل المثال، في مقابلة له على قناة المنار، خاطب جمهوره بالقول: "أنا أحبّكم"، وفي خطاب له في مجمع سيّد الشهداء في الضاحية الجنوبية لبيروت، عبّر نصر الله عن حبّه ليكون حاضرًا بشكل شخصي على المنبر وليس الظهور عبر شاشة، وأضاف: "ما بتصدقوا شو باخد روح فيكم".
ثانيًا: حضوره الشخصي لإلقاء الخطابات رغم ظروفه الأمنية الحساسة جدًا، وهو ما كان دائمًا مثار جدل وتقدير من جمهوره.
ثالثًا: عدم استخدام أي مفردات غير لائقة أو أسلوب متعالٍ أمام الجمهور طيلة تجربته القيادية، مما لم يؤدِّ لخدش صورته الرصينة كشخصيّة مهنية بالشأن العام.
رابعًا: إطلالاته المبرمجة بشكل عام على المناسبات الحزبية والوطنية، حيث أصبحت الكثير من هذه المناسبات بالنسبة للجمهور تشكّل فرصة لمتابعة خطاب لنصر الله والاستمتاع بعبارات خاصة تثير مشاعر عامة.
خامسًا: عدم تجاهله لما يهتم به الجمهور وتعليقه عليه.
تدوين: كيف أسّس السيّد خلال مراحل قيادته للحزب مدرسة فكرية شاملة تجمع بين أبعاد عسكرية، اجتماعية، تربوية ودينية؟ وما الذي يجعلنا نعود إلى أقواله ونقتبس منها كما لو أنه مفكر أو فيلسوف؟
حرب: برأيي إنّ أصل تكوّن الشخصية المؤثرة للسيد حسن نصر الله والتي يُمكن اعتبارها مدرسة فكرية شاملة يعود إلى مدى كثافة تجربته الممتدة على عشرات السنين. هنا يبرز الفرق بين تجربته وتجربة قادة آخرين.
أوّلًا: نحن لا نتحدث عن تجربة قيادية لخمس سنوات أو عشر سنوات كما يحدث في الدول الغربية، بل عن تجربة تخطّت 30 عامًا.
ثانيًا: نحن لا نتحدث عن تجربة سياسية فقط، ولا عن تجربة إعلامية فقط، ولا عن تجربة عسكرية فقط. هذا يعود إلى كثافة الأحداث التي صنعت تجربة السيّد، والتي شملت صراعات سياسية داخلية، حروبًا طاحنة مع إسرائيل وفي سوريا، حملات إعلامية قاسية اضطرّ السيّد لتخصيص وقت كبير للرّد عليها، علاقات سياسية محلية وإقليميّة ودولية فرضتها الأحداث والظروف، وغيرها الكثير.
كل هذا فرض على نصر الله أن يخوض في مجالات عدة، ويتبحّر في المعرفة فيها، والاطلاع على تقارير مختصّة بشأنها على الأقل من الجهات والأجهزة المعنية في حزب الله. على سبيل المثال، كما كان السيد يخطب ويخبر الجمهور عن المعارك العسكرية مع إسرائيل والمؤامرات السياسية، كان يتحدث عن المرأة والشذوذ الجنسي وأهمية وسائل التواصل ومخاطرها.
على مدى عشرات السنين، رأى نصر الله نفسه يجلس على رأس حزب يتوسّع حضوره في لبنان على مستوى سياسي، عسكري، اجتماعي، صحّي، تربوي، أكاديمي، فنّي وثقافي. وبصفته الأمين العام، هو ليس معنيًا بمتابعة الملفّ السياسي أو العسكري فقط، بل إنّ مسؤوليّته الحزبية هي متابعة كل الملفّات التي يُعنى الحزب بها، وبالتالي الغوص في مجالات عديدة كواجب وليس كخيار. هكذا تكوّنت المدرسة الفكرية الخاصة بالسيد نصر الله.
أما عن أثر أقواله واستذكارها ونشرها بشكل مستمر على وسائل التواصل، فذلك يعود لقدرته على البيان والبلاغة في التعبير كما ذكرنا سابقًا، فضلًا عن الكاريزما التي لا ينكرها عليه حتى أعداؤه ,وخصومه، وإصراره على التصدّي لمختلف الموضوعات المستجدّة منها وغير المستجدّة.
تدوين: في ضوء أنّ فكر السيد مستمد أساسًا من منطلقات دينية، كيف يمكن تفسير بروز شخصيّته في الأوساط اليسارية وغير الإسلامية عمومًا، إلى حد التماهي في بعض الأحيان مع أيديولوجيّته؟
حرب: اقترب الفكر اليساري والفكر الديني الشيعي تاريخيًا بشكل خاص في لبنان في قضية مقاومة إسرائيل، تحديدًا في ثمانينيّات القرن الماضي، عندما كانت التيارات اليسارية لا تزال في أوجّ نشاطها العسكري والثقافي في لبنان.
حرص السيد نصر الله دائمًا على التواصل مع كل من يلتقي مع حزب الله على أولوية قتال إسرائيل، وحرص في تلك الحقبة وما بعدها على عدم إبراز أي تنافس أو خلاف أيديولوجي في خطاباته ومقارباته السياسية.
هذا السلوك جعل جزءًا كبيرًا من التيار اليساري يعتبر السيد نصر الله شخصية قريبة من أهدافه ومنطلقاته، فكان ولا يزال يُستذكر من خلاله شخصيّات يسارية رفضت الهيمنة الغربية، كتشي غيفارا وكاسترو وغيرها.
أضف إلى ذلك أنّ نصر الله كان مرّات عدة يحاول أن يخاطب شرائح من مذاهب وخلفيّات مختلفة، ويرتكز بذلك مثلًا على مقاومة المحتلّ كفكرة تحررية وليس كواجب ديني.
تدوين: في وقت تزدحم فيه وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع الفيديو التي تعزز مفاهيم مستحدثة وغريبة حول الحياة ونظرتنا إليها، كنتاج للمفاهيم الليبرالية والفردانية التي تستهدف بشكل رئيسي فئة الشباب، برزت بعد استشهاد السيد مقاطع فيديو قصيرة منتقاة من خطبه في المناسبات الدينية، والتي تحمل أفكاراً أكثر عقلانية حول الحياة والموت والخلود والصحة النفسية وغيرها. هل يمكن اعتبار هذا الطرح بديلًا موضوعيًا للخطاب السائد في وسائل التواصل الاجتماعي؟
حرب: كما ذكرت سابقًا، كان السيّد يتصدّى لمختلف الموضوعات الاجتماعية، ولا شكّ أنه كان يقصد تقديم الطروحات البديلة عن الثقافة الغربية، وهو يعلم جيّدًا كيف تراكم التأثير المعنوي لخطاباته بين الجماهير على مدى سنوات تجربته الطويلة، كما يعلم مدى خطورة المفاهيم المستحدثة التي تغزو مجتمعاتنا من الغرب أو من الشرق.
لا يُسجّل للسيد على سبيل المثال أن اختار تسمية توجهات فكرية بعينها ونقضها، لكنه من خلال تقديم رؤيته، تارةً بالاستناد إلى التجربة البشرية الجامعة، وتارةً بالاستناد إلى الآيات القرآنية ومقاطع من الأدعية الدينية، لطالما حاول أن يستعرض فهمًا للاستحقاقات المختلفة يتماشى مع أعراف المجتمعات العربية والإسلامية ولا يتعارض مع الأحكام الشرعية في الدين الإسلامي.
تدوين: رغم شخصيته القيادية الصارمة، تمكن السيد من تجسيد سمات عاطفية متوازنة، حيث نجح في وضع المتطلّبات العقلية والعاطفية في ميزان عادل، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى. فعلى سبيل المثال، كان يؤكد لجمهوره وعوائل الشهداء على ضرورة وجود مساحة للتعبير عن حزنهم والبكاء على فقيدهم. كما كان يولي أهمية كبيرة لحرية الفرد في أن يعيش حزنه من دون التأثر بالضغوط الاجتماعية التي قد تُفرغ المشاعر الإنسانية من معانيها، تحت ذريعة الفهم الخاطئ للصمود والثبات. كيف تمكّن من تجسيد هذه الأبعاد الإنسانية العميقة بكل هذه الدقة والتوازن؟
حرب: هذه الناحية مهمة جدًا في شخصيّة السيد نصر الله. صحيح أنّ الزعامة السياسية برأيي لا تنطبق على وضعية السيد، لكنه يجري التعامل معه في لبنان على المستوى الشعبي والإعلامي على أنه إحدى الزعامات.
هنا يجب تسليط الضوء على فرق كبير بينه وبين الزعامات السياسية الباقية في لبنان، ولأجل ذلك لا بدّ من التذكير بكيفية اتخاذ القرار في حزب الله، أي عبر مجلس الشورى الذي ينتمي إليه نصر الله بطبيعة الحال لكنه لا يمتلك سلطة الفرض عليه. نعم للأمين العام بعض الصلاحيّات المميّزة المحدودة على الصعيد التنظيمي تسمح له باتخاذ بعض القرارات بشكل مستعجل ومباشر، لكنّ القضايا المهمة لا تتم إلا بعد التشاور في مجلس الشورى الذي يأخذ قراره بالإجماع.
هذه الناحية برزت مرّات عدة في خطابات ومقابلات السيد. على سبيل المثال، كشف نصر الله يومًا عن صفقة سياسية عُرضت عليه من قبل جهات دولية عدة، فكان رده أنه يريد الرجوع إلى مجلس الشورى في حزب الله قبل إبداء الموافقة أو الرفض.
هذه الخلفية مهمة جدًا لفهم جزء أساسي من شخصية السيد، حيث لا يمارس الرجل زعامةً ولا يتّخذ بمفرده أغلب القرارات المصيرية، وبالتالي هو يميل للديمقراطية وسماع الرأي الآخر.
من هنا كانت تبرز قدرة السيد نصر الله على إطلاق نصائح ودعوات تتعارض مع الجزء المتشدّد من جمهوره، وتُظهر انفتاحًا على التعبير، ليس من ناحية إبداء الحزن فقط، بل حتى بإبداء المواقف السياسية المختلفة.
تدوين: هل من الممكن أن يظهر في المستقبل قائد أو شخصية سياسية عربية تشبه السيد في خصائصه؟ وهل توجد حالياً شخصية سياسية عربية تقترب من هذه الحالة؟
حرب: برأيي الخاص، ونظرًا لطبيعة تجربة السيد نصر الله وكثافتها، ليست هناك شخصية عربية تشبه شخصية السيد في أيامنا، لكنّ المستقبل علمه عند الله وقد يحمل شبيهًا أو حتى متفوّقًا على نصر الله، والأمر في هذا المجال برأيي يعود إلى طبيعة الأحداث التي يمرّ بها كل قائد وطبيعة المسؤوليات التي تُلقى على عاتقه.