تدوين- يحدث الآن
تصدّر كتاب فرانز فانون «معذبو الأرض» (1961) قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا على إثر المقاطعة والتضييق الذي يتعرّض له الفيلم الصادر حديثاً "فانون"، حيث جاءت المقاطعة التي تعرّض لها الفيلم في الصالات الفرنسية على عكس ما ابتغاه المقاطعون، إذ رد شبح فرانز فانون الصاع صاعين: عوضا عن الإلغاء أو القمع الممارس على الفيلم، وهو القمع نفسه الذي واجهه الزنوج واهتّم فانون بشأنه، صار الفيلم بمثابة نافذة للدخول إلى عالم فانون، فالاحتكاك معه والغوص في أفكاره والقضايا الجدلية التي طرحها أخرجت فانون من إطار الفرجة السينمائية وأحيته كبطل حقيقي خارج الشاشة.
حول منع الفيلم من العرض في دور السينما الفرنسية
الرغم من الإقبال الكبير الذي شهده الفيلم والتفاعل معه من قبل المشاهدين، لم يُعرض الفيلم خلال أسبوعه الأول، سوى في 70 صالة سينما، الأمر الذي اعتبره فريق إنتاج وإخراج الفيلم "مقاطعة غير معلنة" من دور السينما عرض الفيلم، وأدى إلى تصريحات وإثارة جدل واسع في أوساط السياسيين ورواد منصات التواصل الاجتماعي.
وأعرب مخرج الفيلم، جان كلود بارني، في تصريحات للصحافة، عن استغرابه لهذا السلوك، فيما سخِرت مسؤولة شركة توزيع الفيلم، أمال لوكومب، من هذا التصرف في بدايات التجربة، لما لاحظت عدم تجاوب مع مسؤولي دور العرض، وقالت: "لن يقولوا إننا لا نحب الجزائريين والأفارقة والسود والعرب، وإنما سيقولون إن الفيلم ليس فنيا بما يكفي أو ليس تجاريا أو أن الشباب لن يشاهدوه".
ووصل الجدل إلى السياسيين، إذ استوقف الجدل النائب اليساري، أنطوان ليوم، وتساءل: "هل من الصعب حقا أن نواجه ماضينا الاستعماري؟".
بالمقابل، تفاعلت إحدى دور السينما المتهمة بالمقاطعة "MK2"، ونفت ما نسب إليها، وقالت إن برمجة الأفلام "تحدد وفق خيارات تحريرية صعبة وقابلة للنقاش".
غير أن الإقبال الجماهيري الكبير على الفيلم أثبت أن الحجة غير صلبة وغير مقنعة، وعزز الشعور بأن الفيلم لم يوزع بشكل منصف، وفق تعليقات المتابعين على منصات التواصل، مستدلين بإعلان شركة توزيع الفيلم احتضان 37 صالة عرض جديدة الفيلم في الأسبوع الثاني، في وقت تتراجع فيه الأفلام بعد أسبوعها الأول.
وفي 2 نيسان (أبريل) وهو يوم انطلاق عرض الفيلم، فتحت 35 صالة سينمائية أبوابها أمام الفيلم، لكن الأمر تغيّر بعدما أعلى الفرنسيون أصواتهم مطالبين بضرورة حضوره في الصالات، ليصير عدد الصالات 70 فقط.
حول الفيلم
يروي فيلم «فانون»، والذي هو من إخراج جان كلود بارني، وسيناريو جان كلود بارني وفيليب برنار، سيرة المنظّر السياسي والطبيب النفسي فرانز فانون (1961-1925) المولود في جزيرة المارتينيك التابعة لفرنسا، والذي دفن في الجزائر الذي كرّس حياته مناضلاً لقضيتها ولقضية شعبها. ويضيء الفيلم على أفكاره ومواقفه الجذرية المناهضة للاستعمار والكولونيالية؛ هذه الشخصية بما تحمله من تجربةٍ جذرية وأفكار راديكاليةٍ هي بدون شكّ الشخصية التي لا يريدونك أنّ تقترب منها أو أن تشاهد فيلماً عنها.
يقدم المخرج كلود بارني، وهو مخرج فرنسي من جزيرة غوادلوب، عملاً سينمائياً متقناً عن تجربة فانون أثناء إقامته بالجزائر في الفترة ما بين 1953 و1956، في خضم حرب التحرير ضد الاحتلال الفرنسي، حيث طوّر هذا الطبيب النفسي والكاتب فكره المناهض للاستعمار.
ويوضح فكرة فيلمه الذي يحمل عنوان "فانون" قائلاً: "لم أكن أرغب في إنتاج فيلم فيه ثرثرة، بقدر ما أردت تقديم صور وأشياء مؤثرة، وأن أُكوّن لدى المشاهدين شعورا بكونهم يشاركون مغامرة فانون من الداخل".
لتحقيق هذه الغاية، واجه بارني "تحدياً تقنياً يتجلي في كيفية تصوير نفسية فانون على الشاشة"، ولذلك "اخترنا تقنية التعليق الصوتي"، مع "مشاهد استعادية (Flashback) لاستحضار الفترة التي صاغ فيها كتابه" الشهير "المعذبون في الأرض".
بدأت مغامرة فانون الجزائرية عندما عُيّن للخدمة في مستشفى الطب النفسي بمدينة البليدة بضواحي العاصمة، حيث عاين الظروف الاستشفائية القاسية التي يواجهها المرضى، ما دفعه إلى خوض نضال لفرض مقاربة علاجية إنسانية.
وامتدت معركته إلى خارج المستشفى عندما بدأ يتواصل مع مقاتلي جبهة التحرير الوطني، التي قادت الثورة الجزائرية، وقرر مساعدتهم وعلاجهم في السر.
يصوّر الفيلم تلك الفترة بمشاهد قوية حول السردية السلبية لدى المستعمرين الفرنسيين تجاه الجزائريين، والإعدامات وأجواء القمع الرهيبة.
يعتبر بارني في حواره مع وكالة فرانس برس أن العنف الذي وصفه فانون، وهو متحدر من جزر المارتينيك، "بلغ اليوم ذروته، وأعتقد صادقاً أن علينا أن نحسم اختيارنا"، في إشارة إلى الحرب في غزة.
ويتابع موضحاً: "لا يمكننا أن نستمر في قبول الاحتلال والتمييز والاستعمار واقتلاع أشخاص من أرضهم، وتقطيع الأراضي والقتل بازدراء".
ويضيف بارني: "مؤلفات مثل تلك التي خلفها فانون يمكنها أن تعيد قليلاً من الإنصاف إلى هذا العالم".
ويستطرد: "عندما نفتقد الوسائل والبيداغوجيا والمادة اللازمة لندافع عن الكلمات الصادقة، يتعين علينا العودة لما وقع في التاريخ".
راهنية فانون
تشهد المكتبات الفرنسية تزاحما للحصول على كتاب فرانز فانون الشهير "معذبو الأرض". وهو الكتاب الذي لم يغب يوماً عن أدبيات المقاومة أو عن التيارات الثقافية الـمضادة للكولونيالية والدراسات ما بعد كولونيالية، بل لطالما كان مرجعاً يسنح فحص نسق البنية الكولونيالية عن كثب، واقتفاء العنف التي تقوم عليه، ويزوّدنا بالفهم اللازم في كيفية تشكل العلاقة بين المستعمَر والمستعمِر.
لكن فانون حضر بقوّة في الآونة الأخيرة بسبب الإبادة العرقية التي يتعرّض لها الفلسطينيون. وقد راجت مقولات فانون في النقاشات الراهنة المتعلّقة بالصهيونية، والتي ترى الفلسطيني «لا بشريّ»، هي العين نفسها التي «نظرت» في السابق إلى الزنوج بوصفهم «بشراً أقلّ»، كما يتم استعادت طروحاته الراديكالية التي تدعو إلى مواجهة الغرب الذي «لا يعرف الاعتدال» من جديد. ولعلّ هذا هو سبب الرئيسي وراء التضييق والمقاطعة التي يتعرض لها فيلم «فانون».
تُعدّ طروحات فانون ومقولاته العامود الفقري في الدفاع عن حق المقاومة، وشرعيتها، وأخلاقيتها. كتب جان بول سارتر مقدمة «معذبو الأرض» وتبنّى حجج فرانز فانون النضالية، بل راح أبعد منه في «مدح» العنف معتبراً إياه فعلاً نيتشويّاً من أفعال خلق الذات. زوجة فانون استشاطت غضباً حين دعم سارتر الصهيونية و«اعتبرته عدواً للجزائريين». كتاب «معذبو الأرض» أشبه ببيان فلسفيّ يحثّ على الممارسة السياسية بقصد التحرر من عنف المستعمِر، والتخلص من سطوته على وعي وعلى جسد المستعمَر. المعذبون في الأرض بحسب فانون، يعانون من شللٍ بسبب هيمنة المستعمِر وما يلي ذلك من اضطهاد وإبعاد و«محو»، بالتالي على ثورتهم ضد الامبريالية أن تكون عنيفة حتماً.
لا يمكن للمستعمِر الانفكاك من عنف المسعتمَر إلا بعنفٍ مضاد يتيح له كسر الأصفاد والتحرر منها، كما يكون، أي العنف المضاد، بمثابة فعل «تطهيري» يسمح للجسد بأن يتحرر. ووفقاً لذلك، يعيد المستعمَر تشكيل «ذاته» من جديد. فالعنف المضاد عند فانون هو آلية تحررية وتحريرية في آن. إنه ممارسة ثورية أخلاقية تستمد بعدها الأخلاقي من حق المقهور في الانعتاق من القمع المتوحش للإمبريالية التي لا تعترف بالإنسان الآخر (الزنجي/ المعذب في الأرض) إنما تراكم ثروتها بعد استغلاله وقمعه وتشويهه بكل الأساليب الممكنة. التحرر والتحرير هما الغاية وكل الوسائل مشرّعة فإذاً.
هكذا، يعطي فانون كل المسوّغات المنطقية لمواجهة عالم تمثّل إسرائيل صورته الحقيقية: عالمٌ لا يترك للمعذبين سوى اللوعة الحارقة، والموت بالقتل، فقط لأنهم على هامش «المتروبول» الإمبريالي.